مجتمع < الرئيسية

الترجمة بأصابع القدم.. هو جينغ تتحدى إعاقتها

: مشاركة
2020-02-21 14:02:00 الصين اليوم:Source شيوي هان:Author

هو جينغ، فتاة من شينجيانغ، في ربيعها السادس والثلاثين، تغلبت على ظروفها الخاصة التي رافقتها منذ ولادتها. في التاسعة مساء كل يوم، بينما ضوء السماء لم يختف بالكامل في أورومتشي، تتجول هو جينغ برفقة والدتها في التجمع السكني الذي تعيشان فيه، بخطوات متوازنة ليست سريعة ولا بطيئة. أثناء سيرهما، تتوقفان إذا صادفتا أحدا من الجيران لإلقاء التحية وهما مبتسمتان وقد تتجاذبان معهم الحديث وتسيران في نفس الطريق يوميا في مشهد مماثل لأي عائلة صينية تتمشى في الشوارع بعد تناول الطعام.

ذلك هو تدريب بدني تمارسه هو جينغ يوميا برفقة والدتها من أن بدأت تمشي بنفسها وهي في الثانية عشرة من عمرها. بالإضافة إلى ذلك، يقدم لها والدها، كل صباح وقبل النوم، يقوم والدها بتدليك أطرافها لمدة ساعة لتحفيز أعصابها وعضلاتها، ومساعدتها في الاسترخاء والحفاظ على صحتها.

ولدت هو جينغ في شهر نوفمبر عام 1984 في أورومتشي بمنطقة شينجيانغ الويغورية الذاتية الحكم.  وعندما كان عمرها ثلاثة أشهر أصيبت بمرض شديد، ثم تم تشخيص حالتها بإصابتها بشلل دماغي خطير، وعمرها ستة أشهر. قال الطبيب إنها لن تستطيع الاعتناء بنفسها عندما تكبر، ولن تتعرف على والديها، بل ولن يمكنها حتى الضحك. ولكن عندما بلغت هو جينغ الخامسة من عمرها تعلمت الكتابة بنظام "بِينْيِن" (كتابة الصينية بالحروف الإنجليزية) بالاعتماد على سماعها للتسجيلات، وفي العاشرة من عمرها تعلمت الوقوف، وفي الثانية عشرة من عمرها تمكنت من المشي دون الاعتماد على أحد، وفي السادسة عشرة بدأت دراسة اللغة الإنجليزية، وحين أتمت التاسعة عشرة من عمرها بدأت دراسة الترجمة. ولأنها لا تستطيع استخدام يديها، تدربت على استخدام ذقنها وأطراف أصابع قدميها في الكتابة والترجمة، وبالفعل ترجمت كتبا ووثائق يزيد عدد كلماتها عن مليون كلمة، وأصدرت ستة أعمال ترجمة، بل وصارت "واحدة من أفضل المترجمين في شينجيانغ".

في عام 2005، وكانت في الحادية والعشرين من عمرها، بدأت هو جينغ حياتها المهنية كمترجمة محترفة تكسب دخلا من عملها، وفي عام 2008، أنشأت مكتبا خاصا للترجمة باسم "مكتب ييوان الثقافي لخدمات الترجمة". في عام 2011، فازت بجائزة التميز في الدورة الثالثة والعشرين لمسابقة هان سو ين للمترجمين الشباب في الترجمة الصينية- الإنجليزية، والتي يطلق عليها اسم "الأوسكار في مجال الترجمة بالصين".

في عام 2014، تم تكريمها بمنحها لقب "نجمة المثابرة والكفاح في سبيل التقدم وريادة الأعمال المستقلة" في شينجيانغ. في عام 2016، حصلت على دبلوم في الترجمة من المعهد الملكي البريطاني للغويين المعتمدين، وفازت بجائزة أفضل مرشح في الصين من المعهد. في عام 2019، أنشأت حسابا على برنامج التواصل الاجتماعي الصيني "ويتشات"، وأطلقت عليه اسم "صالون مناقشة الحضارة والتاريخ والثقافة باللغتين الصينية والإنجليزية"، رغبة منها في أن تكون رسول التواصل بين الثقافات.

حب الوالدين لها نقطة الانطلاق نحو مستقبل مشرق 

الشلل الدماغي، مرض خطير ينتج عنه إعاقة وشلل في الحركة بشكل أساسي، و25% من المصابين بهذا المرض يتمتعون بحالة عقلية سليمة، و50% يعانون من تأثير ليس كبيرا على حالتهم العقلية، بينما يعاني 25% فقط من المصابين من ضرر كبير على الحالة العقلية، ولكن إذا تم التشخيص والعلاج المبكر للمرض مع القيام ببعض التمرينات البدنية الخاصة التي تساعد على استعادة الحالة الطبيعية للجسم، يمكن الشفاء من المرض إلى حد كبير.

حب والديها لها وصبرهما فاق الحدود، فقد بذلا كل جهدهما من أجل مساعدة ابنتهما على مدار 35 عاما متواصلة، وقررا توفير التعليم والعلاج المبكر لها، لمساعدتها لتعيش الحياة بشكل طبيعي وتحقيق ذاتها. لم تستطع هو جينغ الكلام حتى سن الثالثة، رغم ذلك لم يستسلم الوالدان، فاشترى لها والدها مسجلا وأشرطة تسجيل، ومجلات بصور ملونة، وكان دائما في وقت فراغه يحكي لها القصص. وفعلا، جنى الوالد ثمرة جهده وصبره، فعندما كانت هو جينغ في الثالثة من عمرها تمكنت من نطق أول عبارة حيث قالت "باو باو هاو" أي " طفلة جيدة". أما الأم، فكانت شديدة الاهتمام بابنتها وتساعدها في كل الاحتياجات اليومية ولم تغفل عنها أبدا، رغم تحملها الشؤون المنزلية أيضا، وهذا ساعد هو جينغ على تعلم المشي بمفردها تدريجيا. قالت هو جينغ: "أشعر أنني محظوظة للغاية لأنني في هذه العائلة المحبة. والداي يفهمانني جيدا، ولم يعاملاني أبدا كمعاقة، بل يعلقان عليّ الأمل والثقة دائما."

وضع والدا هو جينغ الأساس الجيد الذي مكنها من الانطلاق في حياتها وبناء مستقبلها وتجاوز محنتها. فقد أظهرا لها المثابرة ورباطة الجأش في مواجهة المحن، والبحث عن حلول لتجاوز المصاعب والمشكلات، ودعمهم لبعضهم البعض كعائلة. لقد أثر كل هذا تدريجيا بشكل إيجابي على هو جينغ لمتابعة حياتها بشكل طبيعي وتحقيق ذاتها.

نقطة تحول من مكالمة هاتفية ورسالة

في عام 1994، اقترض والد هو جينغ المال من زملائه لشراء جهاز كمبيوتر باهظ الثمن من بكين، رغم أنه لا يحب اقتراض المال. كان هدفه الأساسي هو مساعدة ابنته على القراءة والدراسة من خلال الكمبيوتر حيث كانت تواجه صعوبات في استخدام يديها. في عام 2001، أصبحت عائلة هو جينغ أول من استخدم الإنترنت من بين أكثر من 30 ألف فرد يسكنون في تجمعهم السكني. ومع توصيل جهاز الكمبيوتر الخاص بها بالإنترنت، اتصلت هو جينغ بالعالم أيضا.

بسبب معاناتها من إعاقتها الجسدية وتعرّضها لبعض العقبات الاجتماعية في حياتها، كانت هو جينغ حتى السادسة عشرة من عمرها فاقدة الثقة في نفسها وأصبحت فتاة خجولة ومنطوية. لذلك عندما اكتشفت بالصدفة العالم الافتراضي حيث بإمكانها إخفاء هويتها، باتت تشعر بالارتياح وبدأت أغلال الإعاقة الجسدية التي ارتبطت بها تدريجيا تتلاشى، وأصبحت لديها الشجاعة للتحدث مع الآخرين عبر الإنترنت، وصار لديها العديد من الأصدقاء داخل الصين وخارجها. كانت تتواصل بحرية باللغة الإنجليزية مع العديد من الأشخاص، ومن ضمنهم ديفيد من كندا الذي كان يدعمها ويشجعها كثيرا.

في أحد الأيام، خرج والدا هو جينغ للتسوق، فاستجمعت الفتاة قواها وأجرت أول مكالمة هاتفية لها في حياتها، حيث تحدثت مع ديفيد الذي كان يعمل بإحدى الشركات في بكين. لم تستغرق المكالمة سوى عدة دقائق ولكنها مرت على هو جينغ كأنها قرون طويلة، بعد إنهاء المكالمة، وجدت أن ملابسها غارقة في العرق، بسبب توترها. لكن هذه المكالمة الهاتفية غيرت نظرة هو جينغ للحياة، بل عززت ثقتها بنفسها وتفاؤلها.

كانت ماري شقيقة ديفيد وزوجها بن من ضمن الزائرين الدائمين لمنتدى "هونغ أون" وهما طيبان للغاية. بادرت ماري بإرسال عنوان بريدها الإلكتروني إلى هو جينغ، وحثتها على التحدث والتواصل معها، تدريجيا، أصبحت ماري صديقة هو جينغ ومرشدتها في ذات الوقت، حيث كانتا تشاركان تفاصيل حياتهما من خلال رسائل البريد الإلكتروني، وكان لماري دور كبير في مساعدة هذه الفتاة الصينية المميزة على مواجهة الحياة بشجاعة.

في أحد أيام عام 2004، صارحت هو جينغ صديقتها ماري بكل الصعاب والإحباطات التي تواجهها، وأنها لا تعلم ماذا تفعل في حياتها، كما أنها لا تجد أي قيمة لحياتها وليس لديها أي أمل للمستقبل. بعد ذلك بفترة وجيزة، أرسلت ماري كتيبين باللغة الإنجليزية إلى هو جينغ، وطلبت منها ترجمتهما إلى اللغة الصينية، على أن تدفع لها مقابلا ماديا عن ذلك، بينما في الحقيقة كان هدف ماري تشجيع صديقتها على التحلي بالشجاعة والإصرار من أجل إيجاد قيمة وهدف للحياة. عكفت هو جينغ على ترجمة الكتيبين، وبالفعل تمكنت من ترجمتهما، حيث إن الترجمة لم تنل إعجاب مدرس اللغة الإنجليزية فحسب، بل قام صديقها بن بالتبرع بهما لإحدى المكتبات. كان ذلك له تأثير كبير للغاية على هو جينغ، حيث أدركت أن لها مكانة وقيمة كبيرة في المجتمع الذي تعيش فيه.

كانت مكالمات ديفيد ورسائل ماري نقطة تحول هامة في حياة هذه الفتاة، حيث تحولت هو جينغ من إنسانة فاقدة للثقة ويائسة من حياتها إلى فتاة مفعمة بالأمل والثقة والتفاؤل، ومن فتاة كانت تدرس اللغة الإنجليزية بنفسها إلى مترجمة محترفة. ولكن الأهم من ذلك أن هو جينغ نجحت في تحدي إعاقتها واستثمار الكثير من مجهودها وقدرتها ودوافعها من أجل التغلب على ظرفها القاسي.

ترجمة ستة أعمال

منذ أن اتخذت هو جينغ الترجمة كمهنة لها، ترجمت عدة أعمال الواحد تلو الآخر، منها "لاي سي عودي للمنزل"، "استيقظي- الحافلة قد وصلت- الحياة بشلل دماغي"، "جسر على حافة العالم"، "الحياة الفنية لعالم رياضيات"، "الإيمان.. رحلة عالم بيئي في عالم الأمومة". ترجمت من الإنجليزية إلى الصينية هذه الأعمال الخمسة التي يبلغ عدد كلماتها مليونا واثني عشر ألف كلمة؛ كما ترجمت عملا آخر من الصينية إلى الإنجليزية، عدد كلماته مائة وعشرون ألف كلمة، وهو من نتائج البحوث الخاصة بالعلوم الثقافية والاجتماعية للأقليات العرقية. وتم نشر هذه المؤلفات الستة المترجمة خارج البلاد. إن كلا من حجم وجودة ترجمة هو جينغ يظهران أنها صارت مترجمة محترفة ممتازة.

المشكلة الأساسية التي واجهت هو جينغ أثناء عملها كانت عدم قدرتها على تحريك أطرافها، مما تسبب في بطء وصعوبة كتابة الكلمات بسلاسة. في البداية، كانت هو جينغ تقضي معظم وقتها في غرفتها، حيث كانت تستخدم ذقنها للكتابة دون أن يعرف ذلك الوالدان، مما سبب لها آلاما في الرقبة، وفي شهر أكتوبر من عام 2015، ظهرت مشكلة كبيرة في فقراتها العنقية، وكان لابد لها من الخضوع لعملية جراحية.

قبل إجراء العملية الجراحية في فقراتها العنقية، كانت هو جينغ تقوم بترجمة العديد من الأعمال، حيث كانت تعمل بمتوسط عشر ساعات يوميا، وكانت كل يوم تترجم أكثر من ثلاثة آلاف كلمة، بالإضافة إلى أنها كانت تقوم بتدقيق وتصحيح الترجمة. ومن المعروف أنه ليس من السهل حتى على الشخص السليم تحمل عبء مثل هذا العمل الشاق، فكيف بشخص في مثل حالتها؛ لكنها لم تسمح أبدا لظروفها الصعبة بإعاقة تحقيق أهدافها وأحلامها.

في الخامس من يوليو عام 2016، خضعت هو جينغ لعملية جراحية لتوسيع القناة الشوكية وتثبيت الفقرات حيث تم زرع قضيبين و14 مسمارا من التيتانيوم في فقراتها العنقية، مما جعل قدرتها على تحريك فقراتها محدودة للغاية بعد إجراء العملية، بالإضافة إلى أنها كانت تجد صعوبة كبيرة في تقليب الصفحات أثناء القراءة، حيث كانت قراءة الكتب الورقية أمرا مجهدا للغاية بالنسبة لها، لذا كانت تقرأ الكتب الإلكترونية وبعض الأعمال على الإنترنت.

دور الثقافة الصينية في الترجمة

 بعد دراستها المتواصلة للغة الإنجليزية لمدة 20 عاما، أصبح لديها العديد من الأصدقاء الأجانب، حتى أن لغتها الإنجليزية أصبحت أفضل من الصينية، وهي واثقة تماما من إجادتها التامة للإنجليزية. قالت هو جينغ: " سواء كان العمل الذي أترجمه أدب الأطفال أو السياسة الدولية أو العلوم الطبيعية، فإن ما أراه ليس كلمات، بل صورا. وأريد أن أصف هذه الصور بلغة أخرى". وأضافت: "الترجمة بالنسبة لي هي رحلة روحانية؛ الأمر يتجاوز مجرد تحويل لغة إلى أخرى، إنها عملية أستطيع من خلالها تجسيد مشاعري."

عندما سئلت عما إذا كانت تشعر بأي ندم أثناء عملية الترجمة، أجابت ضاحكة: "كثيرا جدا"! فهي تعتقد أنها تعاني من عدم معرفة مفردات كافية في لغتها الأم، لأن قدرتها على القراءة بالصينية غير كافية، كما أنها غالبا ما تسعى لسلاسة نصوص الترجمة، الأمر الذي يؤدي إلى مبالغة أو نقص في التعبير. هي دائما تبحث عن الأفضل في ترجماتها، وإذا شعرت بعدم رضا عن جزء ترجمته، تعيد التفكير طويلا في كيفية إعادة الترجمة بشكل أفضل، حتى لو كانت قد أرسلت الكتاب للطباعة، أو حتى بعد حصولها على أجرها، فأهم شيء بالنسبة لها هو أن تستخدم التعبير الأدق والأفضل. لم تشعر هو جينغ من قبل أن الترجمة عملا شاقا بالنسبة لها بل على العكس من ذلك، بمجرد أن تبدأ في ترجمة عمل ما، تنسى كل شيء حولها، وهي تعترف أن الفهم والتعبير هما أساس ودعامة الترجمة. إن إتقان اللغة الانجليزية يساعد على فهم المحتوى الأصلي، في حين أن إتقان اللغة الصينية يساعد على التعبير عنها بشكل أمثل، ولا ينبغي إهمال أي منهما. على الرغم أن هو جينغ تعلمت اللغة الصينية المعاصرة بطريقة "هان شو" (طريقة صينية يتم فيها التعلم عن طريق الإنترنت)، تدرك أن مستوى قراءتها للغة الصينية غير كاف، وأن إلمامها بالحضارة الصينية ليس عميقا، وهي تعتقد أن كل هذا أدى إلى التقليل من قوة وملاءمة ترجماتها وسهولة قراءتها وجعلها ليست ممتعة بالقدر الكافي. 

أشار المترجم الألماني الشهير والشاعر والدارس للغة الصينية فولفغانغ كوبين إلى أن المشكلة الأكبر التي تواجه المترجمين الصينيين ليست قلة معرفتهم بلغة أجنبية، بل في "لغتهم الأم". حيث أن مستوى المترجمين الصينيين في اللغة الصينية ليس جيدا بالقدر الكافي. تستغل هو جينغ الوقت الذي لا تعمل فيه في التدريب على ترجمة القصائد الكلاسيكية للغة الصينية. هي تعتقد أن استيعاب وفهم حضارة الصين التي تمتد لخمسة آلاف سنة يساعد بشكل كبير في الترجمة، وعلى كل مترجم صيني أن يتمتع بالثقة الذاتية ثقافيا.

تأمل هو جينغ في تغيير الانطباع الثابت لدى معظم الناس بأن حياة المترجمين المعاقين "قدر مأساوي" أو"كفاح متواصل وعزيمة من أجل النجاح في الحياة"، فهي ترى أن ذلك اختيار طبيعي وصائب في الحياة. لذلك هي لا تحب الأشخاص الذين يستغلون إعاقة في جسدهم او أي نقص آخر من أجل كسب الشهرة، ولكنها تعشق ستيفن هوكينغ، ذلك العالم العبقري، فعندما يتذكر الناس ذلك الاسم، أول رد فعل لهم يكون أنه واحد من أعظم الفيزيائيين المعاصرين، وليس أنه "شخص مشلول كليا".

---

شيوي هان، باحث في مركز اختبار وتقييم الترجمة الوطني التابع للمجموعة الصينية للنشر الدولي.

 

 

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4