مجتمع < الرئيسية

الثقافة التقليدية بين شغف الماضي وابتكار الحاضر

: مشاركة
2018-04-03 12:32:00 الصين اليوم:Source سونغ لي:Author

ولدت في أسرة عادية في بكين عام 1979، وهو العام الذي بدأت فيه الصين انتهاج سياسة الإصلاح والانفتاح. كنت محبا للفنون في طفولتي، ولا سيما فن الرسم، متأثرا بوالدتي الهاوية للفنون والحرف التقليدية.

رحلة والدتي من عاملة إلى فنانة

والدتي، التي يبلغ عمرها حاليا 66 عاما، نَشَأتْ في حي ليوليتشانغ القديم بوسط بكين، في منطقة معروفة منذ قرون باستوديوهات فن الخط والرسم الفني ومحلات الفنون الشعبية.

كانت عائلتي فقيرة، شأن غالبية العائلات الصينية في ثمانينات القرن العشرين، إلا أن ذلك لم يمنع والدتي من زخرفة بيتنا العتيق، مستخدمة كافة المواد المتاحة. كانت تصنع لوحات قماشية باستخدام بقايا ملابسنا البالية ومفروشات أسرتنا القديمة وكل قصاصات الأقمشة لديها، وتصف إبداعاتها بعبارة بسيطة: "لقد رأيت ذلك في طفولتي." لم يكن لدي أدنى فكرة عما كانت عليه الحياة عندما كانت أمي فتاة صغيرة، ولكن يبدو أنها كانت مختلفة عن حياتي.

في أواخر تسعينات القرن العشرين، وافقت وحدة عمل أمي، والتي كانت تعاني من ضغوط مالية، على التقاعد المبكر لأمي، فصار لديها مزيد من وقت الفراغ لصنع مشغولات يدوية مختلفة، مثل العقدة الصينية، ومنحوتات العجين.

في إحدى المناسبات، التقت والدتي بفنان كبير متخصص في صنع تمثال القرد المشعر، عبر عن أسفه لانقطاع الأجيال عن توارث الثقافة التقليدية، وقلقه من عدم وجود أي شخص يتابع من بعده حرفته التي تواجه صعوبات نتيجة قلة الطلب عليها، وعدم كفايتها كمصدر للرزق، وكان الفنان يحاول أن يجذب الشباب المتعلمين إلى حرفته، فقررت والدتي أن تتعلم كيفية صنع تمثال القرد المشعر من خلال العمل مع هذا الفنان.

صناعة تمثال القرد المشعر هي فن أصيل في بكين، والتمثال صغير الحجم، رأسه وأطرافه مصنوعة من سلخ الزيز، أما جذعه فمصنوع من براعم زهور الماغنوليا. يبدو التمثال من هذا النوع على شكل قرد مشعر، وبحركات جسده المختلفة، مع تصميم الخلفيات المتنوعة، يمكن تجسيد مشاهد الحياة في بكين القديمة بصورة حية. بعد تقاعدها عن العمل، شعرت والدتي بالانقطاع عن المجتمع، فقد وجدت وسيلة تعبر بها عن مشاعرها من خلال صنع تمثال القرد المشعر.

بفضل خبرتها في الحرف اليدوية الأخرى، حققت والدتي تقدما سريعا، بل أصبحت خبيرة في هذا المجال، وتم الاعتراف بها فيما بعد من قبل حكومة بكين، باعتبارها وريثة رسمية لفن تمثال القرد المشعر. في أعقاب إشعار مجلس الدولة حول تعزيز حماية التراث الثقافي في عام 2006، قامت الحكومة الصينية بتوفير الدعم المتواصل للفنون والحرف اليدوية التقليدية، في حين أخذ طلب السوق على هذه الفنون يتزايد، مما ساهم في إعادة إحياء تلك الفنون التي تضررت بسبب "الثورة الثقافية الكبري (1966- 1976" في الصين.

غاب العديد من منتجات الفنون والحرف القديمة عن المشهد العام لمدة طويلة من الزمن، إضافة إلى أن معظم الصينيين كانوا فقراء ولا يستطيعون شراءها. ومع ذلك، استمر بعض الناس في ممارسة هذه الأنشطة الثقافية، ولكن كهواية أكثر منها مهنة. وبعد تحسن مستوى معيشة الصينيين، أصبح لدى الناس القدرة المالية لتلبية احتياجاتهم الثقافية التي غابت فترة طويلة، فزاد الطلب على هذه الفنون والحرف اليدوية.

حققت والدتي شهرة في مجالها، وصارت تدعى إلى العديد من الفعاليات الثقافية التي تقام في التجمع السكني، وتشارك في نشاطات التبادل الدولي. أدرج العديد من المدارس الابتدائية في بكين الثقافة التقليدية في مناهجها الدراسية، وطُلِب من والدتي أن تعطي حصة دراسية عن فن تمثال القرد المشعر مرة كل  أسبوع في مدرسة محلية. عندما كان يُعلن عن التقدم لهذه الحصة، كان العدد المطلوب للفصل يكتمل بسرعة. كانت والدتي أيضا تلقي محاضرات وتقيم ورشا في المكتبات العامة والمراكز الثقافية ومتاحف الفنون الشعبية، وكان لديها حصص دراسية كل يوم.

عودة إلى نقطة البداية

ولدت في أعقاب "الثورة الثقافية" التي استمرت عقدا من الزمن، والتي شنت حربا ضد "الأشياء الأربعة القديمة"- الأفكار القديمة والثقافة القديمة والتقاليد القديمة والعادات القديمة- مما جرد الثقافة التقليدية الصينية من قيمتها، وأودى بالعديد من الفنون الشعبية في بكين إلى حافة الاندثار.

بالنسبة لي، لقد ترعرعت في عصر الإصلاح والانفتاح، حين دخلت إلى الصين الثقافة الغربية، بما فيها موسيقى البوب، والتي أحدثت تأثيرات هائلة على جيل الشباب فيها، بينما كان حضور وتأثير الثقافة التقليدية آخذا في التراجع. في فترة طفولتي، لم نكن نرى الأشياء البسيطة التي كانت تعد ألعابا ممتعة لأبناء جيل والدتي في طفولتهم، مثل التماثيل الصلصالية للإله الأرنب، والتماثيل المصنوعة من العجين، والتماثيل المصنوعة من حلوى الشعير.

بفضل والدتي وقعت في حب فن الرسم في سن مبكرة. بعد الانتهاء من المدرسة الإعدادية في عام 1994، التحقت بمدرسة للفنون والتصميم في بكين، وبعد التخرج فيها تابعت الدراسة في كلية للصناعات الخفيفة في داليان. بعد عامين من ذلك، شعرت برغبة قوية في اكتساب الثقافة والمعرفة المتقدمة في الخارج. كان ذلك في عام 2000، وكانت وسائل الإعلام الحديثة برزت كصناعة أساسية في الاقتصادات المتقدمة. لذلك قررت السفر إلى ألمانيا لدراسة التصميم باستخدام وسائط الاتصال الجديدة، وأمضيت هناك تسع سنوات حتى حصلت على درجة الماجستير.

عندما عدت إلى بكين في نهاية عام 2009، وجدت المدينة مختلفة كثيرا. كنت بحاجة إلى بعض الوقت للتأقلم، ومعرفة كيفية تطبيق ما تعلمته في الخارج محليا. وجدت في البداية عملا لدى شركة للإعلانات التلفزيونية، وبعد عام انتقلت للعمل لدى إحدى شركات تكنولوجيا المعلومات كمصمم واجهات، ومكثت بها ثلاث سنوات.

كثير من أبناء جيلي لديهم أحلام كبيرة ولكن لا يقومون بفعل ما يكفي لتحقيقها. بعد أن تعلمت في المدارس جميع الكلاسيكيات وأعمال كبار الأشخاص البارزين في مجالات تخصصهم، شعرت أن الفنون الشعبية متواضعة وغير مؤثرة. بالنسبة لي، لم يكن سعي والدتي في صناعة تماثيل القرود المشعرة أكثر من هواية، إلا أن ذلك تغير مع الوقت.

في عام 2013، لم يكن مرشد والدتي في فن صناعة القرود المشعرة قادرا على الاستمرار في إعطاء الدروس لأسباب صحية، وكان بحاجة إلى شخص لمتابعة المهمة في المدرستين اللتين كان يقوم بالتدريس فيهما. لم يكن وقت الحصص الدراسية متناسبا مع جدول أعمال والدتي، فأوصتني بأن أقوم أنا بهذه المهمة. أصبحت الآن أعمل لحسابي الخاص في إقامة دورات في الفنون والحرف التقليدية للأطفال. بعد مضي أكثر من عشر سنوات على رحلتي إلى ألمانيا التي قطعت فيها 8000 كيلومتر، عدت إلى نقطة البداية. الحياة كانت وستظل غير قابلة للتوقع.

مواءمة الثقافة التقليدية مع احتياجات العصر الحديث

درست الفن والتصميم في المدرسة، ولكن جميع الفنون مترابطة، فساعدتني خلفيتي الأكاديمية في تعلم صناعة تمثال القرد المشعر، وهي عملية تنطوي على مهارات متعددة. خلال عملية التعلم، اكتشفت شعورا بالمرح، تشاركني فيه والدتي، وأصبحت أقدر سحر الفنون الشعبية والحرف اليدوية، والثقافة التي تكمن خلفها أيضا.

في السنوات القليلة الماضية، افتتح المزيد من المدارس الابتدائية والإعدادية في الصين دورات حول التراث الثقافي غير المادي. إلى جانب أنشطتي التعليمية، قمت بتأسيس فريق بحثي يضم أصدقائي من مدرسة الفنون. قمنا بتصميم المناهج التعليمية، واختبرنا أفكارا جديدة في التدريس. أدخلت أيضا تقنيات جديدة في صف تعليم صناعة تمثال القرد المشعر. على سبيل المثال، قمت بتطوير برنامج باستخدام تقنية الأبعاد الثلاثية لعرض عملية إنتاج القرد المشعر على شاشة كبيرة. قمت كذلك بقيادة تلاميذي في تجربة وضع تماثيل القرود ضمن خلفيات تمثل جوانب من حياتهم، مثل الاتصال بالرقم 119 و110 عند مواجهة حريق أو مجرمين. بهذه الطريقة، تصبح هذه الحرفة اليدوية القديمة ذات وظيفة تربوية ومواكبة للعصر، بما يمكن من الاستجابة للقضايا التي تهم المعلمين وأولياء الأمور.

يقوم فريقي الآن بالتدريس في العديد من المدارس الابتدائية والإعدادية في بكين، مما يجعلني أشعر بالفخر. لفترة طويلة في الماضي، كان من الصعب على الفنانين الحرفيين تأمين حياة كريمة من خلال مهنتهم، وبالتالي فإن قلة قليلة من جيل الشباب مارسوا هذه الحرف الفنية. الأمور مختلفة الآن. مع الدعم الحكومي القوي وارتفاع الطلب في السوق، يمكنني أن أعيل نفسي بشكل كاف من خلال ممارسة مهنة أحبها، والتي تمكنني من التعرف على العديد من الأشخاص الذين يتفقون معي في طريقة التفكير. لقد وفرت لي الحياة التي طالما حلمت بها.

يتطلب إحياء الثقافة التقليدية الكثير من الشغف والابتكار. تختلف تماثيل القرود المشعرة التي أصنعها عن تلك التي تصنعها والدتي؛ لأنها تركز أكثر على الحاضر، وما يحدث فيه، وما يجذب الشباب، أما أعمال والدتي فتركز على الماضي، وعن الحياة في بكين القديمة بحسب ما تتذكره والدتي عن تلك الحياة.

 أخطط أنا وفريقي للعمل على تطوير منتجات أخرى تتضمن تقنيات أكثر تقدما. على الرغم من أن العمل لا يزال في بداياته، فإن كل محاولة جديدة وكل إنجاز يمدنا بالتشجيع ويعزز تصميمنا على المضي قدما في هذا المسار.

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4