مجتمع < الرئيسية

أن تكون صينيا إلا قليلا

: مشاركة
2018-03-01 13:07:00 الصين اليوم:Source حسين إسماعيل:Author

في عام 2018، يكون قد مضى على رحلتي مع الصين أكثر من خمسة وعشرين عاما. رحلة طويلة، بدأت بما يشبه المغامرة عندما اقترح صديق لي في نهاية عام 1991، أن أذهب إلى الصين للعمل في مجلة ((الصين اليوم)). كان العرض مفاجأة، وربما لهذا السبب طال التفكير فيه؛ سنة تقريبا، حتى وصلت إلى العاصمة بكين في التاسع والعشرين من سبتمبر 1992، بعد رحلة استغرقت أكثر من عشر ساعات بالطائرة تصارعت خلالها أفكار وتساؤلات تفوق قدرة عقلي على الاستيعاب. بالنسبة لي، كانت رحلة إلى المجهول، تضارع هبوط نيل أرمسترونغ وبز ألدرن على سطح القمر في الحادي والعشرين من يوليو سنة 1969. المعلومات التي اجتهدت للحصول عليها حول الصين قبل وصولي إليها لم تكن قادرة على تبديد قلقي أو الإجابة عن تساؤلات عقلي.

بعد دقائق من خروجي من مطار العاصمة الدولي ببكين، وكان في ذلك الوقت مطارا صغيرا متواضع التجهيزات، كنت في المقعد الخلفي لسيارة قطعت مسافة أكثر من عشرين كيلومترا، قبل أن تعبر ساحة واسعة، أدركت بحدسي أنها ساحة تيانآنمن (السلام السماوي)، أكبر ميدان مساحة في العالم. وقد لفت انتباهي، في جانب من الميدان، اللون الأحمر المميز لبوابات ضخمة مرصعة بما يشبه رؤوس مسامير صفراء كبيرة الحجم، عرفت فيما بعد أنها بوابات القصر الإمبراطوري بالمدينة المحرمة التي كان يسكنها إمبراطور الصين وحاشيته، وكان آخر ساكن لها الإمبراطور بو يي، الذي تنازل عن العرش في الثاني عشر من فبراير عام 1912 بعد نجاح ثورة 1911 بقيادة صون يات صن.

 بعد دقائق توقفت السيارة وترجلت مع من معي، لأجد نفسي، وأنا في الصين الشيوعية- باعتبار ما كان وما تختزنه ذاكرتي من معلومات حول الصين- داخل مطعم غربي! بعد غدائنا، واصلنا السير في شوارع بكين وخلال مسيرتنا لاحظت وجود كثير من أصص الزهور المرتبة بطريقة بديعة والتي تتحول إلى ما يشبه التلال في أماكن معينة، وكان أكثرها وأجملها في ساحة تيانآنمن، هذا إضافة إلى الأعلام الصينية الحمراء المعلقة على بوابات المتاجر وتلك التي تمد أعناقها من نوافذ البيوت احتفالا بالعيد الوطني. استمتعت بهذا المشهد، الذي ظل يتكرر في كل مناسبة وطنية أو تقليدية بالصين.

عندما وصلت إلى يويي بينغقوان (فندق الصداقة)، وهو المكان الذي كان يقيم فيه من كان يُطلق عليهم في الصين في تلك الفترة وقبلها "الخبراء الأجانب". كانت حقيبتي بها بعض الملابس والكتب وأكياس كثيرة بها أطعمة مطهوة وجافة، أصرت أمي أن أحملها ظنا منها أنني ذاهب إلى بلاد قد لا أجد فيها ما يكفي من الطعام ومستلزمات المعيشة الأخرى. كان الفندق به عدد من المجمعات السكنية يضم كل منها عدة بنايات ارتفاع كل منها أربعة طوابق ويتوسطها حديقة، ولكل مجمع بوابة أو أكثر تغلق في الساعة الحادية عشرة مساء وتفتح في السادسة صباحا، وكان هذا يعني أن الذي يقيم في تلك المجمعات عليه أن يعود إلى مسكنه قبل الحادية عشرة مساء ولا يغادرها قبل السادسة صباحا، وكان على من يزور المقيم بتلك المجمعات السكنية في يويي بينغقوانغ أن يسجل اسمه وبياناته قبل الدخول، وأن يغادر المكان قبل أن تدق الساعة الحادية عشرة مساء.

كانت بداية التسعينات، وقت وصولي إلى الصين، مرحلة جد دقيقة في أرض التنين؛ فلا شمس الاقتصاد المخطط والشعارات الأيدلوجية التي سيطرت على الساحة الاقتصادية والسياسية في الصين منذ عام 1949، أَفَلَت، ولا فجر اقتصاد السوق والواقعية الجديدة انبلج تماما. كنت، أنا وغيري ممن شاءت ظروفهم أن يكونوا في الصين في تلك المرحلة، كمن يشاهد فيلما، تتبدل فيه المشاهد بسرعة بالغة، ولكنه فيلم يحدث على أرض الواقع. كان كل شيء يوحي بأن الصيني يفرد ساقيه على ضفتي قناة، متأهبا للعبور، ومترددا أيضا؛ أمامه مغريات وآمال وفرص جديدة، ومن خلفه تراث وفكر يثقله ويحاول تثبيته في مكانه وإثنائه عن عزمه. كان صراعا نفسيا وسياسيا واقتصاديا وعقائديا يحتاج إلى جسارة، ويحتاج أيضا إلى حنكة وتدرجا. البعض من الصينيين امتلك الجرأة في تلك الفترة وقرر "النزول إلى نهر التجارة"، وكسر "القدر الحديدي" المملوك للدولة والذي يتناول منه الجميع طعامهم وشرابهم ولباسهم ودواءهم، بل وكفنهم. كانت مغامرة صعبة ولكنها حقا كانت جديرة بالتضحية، هكذا أثبتت السنون اللاحقة.

كان عدد الأجانب في عاصمة الصين، في بداية تسعينات القرن الماضي، قليلا. وفي الغالب كان الأجنبي، أو كما يسميه العامة "لاو واي"، مميزا، فالناس ينظرون إليه في الشارع، كل له أسبابه. وكان معظم عامة الصينيين، أو على الأقل القادمون من الأرياف إلى المدن بحثا عن عمل، ينظرون إلى الأجنبي على أنه "ثري" وأنه ينفق بسخاء. تبدل الحال وصار مشهد الأجانب في بكين عادي.

ظلت بكين على مدى أربعة شهور هي عالمي، أو هي الصين بالنسبة لي. ولكن بكين مجرد مدينة، عاصمة سياسية وثقافية، ولا يمكن بحال أن تكون صورة شاملة لتسعة ملايين وستمائة ألف كم مربع ومليار ومائة وعشرين مليونا من البشر، هم عدد سكان البلاد آنذاك. في فبراير عام 1993، قمت بأول زيارة لي في الصين خارج بكين؛ إلى مقاطعة قويتشو، في جنوب غربي الصين. لم يكن المطار الذي هبطت فيه طائرتنا بمدينة قواييانغ أكثر من مهبط طائرات في نهايته عدة مكاتب. في قويتشو، بدأت أرى صورة أخرى من الصين، تضاريس ووجوها ومستوى معيشة ولهجات. أدهشني أن هناك من يتولى "الترجمة" بين أعضاء وفد بكين وأبناء القرى والبلدات التي نزورها، من اللهجة المحلية إلى اللغة الصينية الفصحى (الماندرين). العادات والتقاليد واللهجات فتحت عيني على عالم مشوق ومثير في الصين اسمه الأقليات القومية التي بلغ عددها خمسا وخمسين؛ عالم لم أكن أرى في بكين شيئا منه، اللهم إلا الأزياء المزركشة لممثلي الأقليات القومية الذين يحضرون دورتي المؤتمر الوطني لنواب الشعب والمجلس الاستشاري السياسي للشعب الصيني اللتين تعقدان في بكين سنويا.

بعد نحو خمس سنوات من رحلة قويتشو أتيحت لي فرصة أخرى للانخراط في عالم الأقليات العرقية، ولكن هذه المرة إلى منطقة يتجمع فيها نحو مليوني نسمة ينتمون إلى قومية هوي. كانت نينغشيا قد حفرت لنفسها في ذهني مكانا ومكانة خاصة قبل أن أزورها في شهر يوليو عام 1998. في نينغشيا أثار انتباهي شيئان، حجاب النساء والمآذن التي يتجاوز عددها ستة آلاف مئذنة لأكثر من ثلاثة آلاف مسجد، في منطقة يقيم بها 10 في المائة فقط من مسلمي الصين. زرت نينغشيا بعد سنتين من زيارتي الأولى ولاحظت أن تغيرات طرأت عليها، ولكنها تغيرات أقل بكثير من تلك التي كنت أراها في بكين وفي مناطق الساحل الجنوبي والشرقي.

ظلت زيارة منطقة أخرى أملا يراودني، وبعد سنوات طويلة في الصين تحقق أملي وزرت شينجيانع في شهر يونيو 2005، وكتبت عنها، وفرق كبير بين زيارة شينجيانغ والكتابة عنها، فالكتابة عن هذه المنطقة مهمة صعبة، فما يُكتب عن شينجيانغ داخل الصين يختلف بشكل أو بآخر عما يقال عنها خارجها. شينجيانغ تقدم لك لوحة فريدة من الوجوه والتضاريس واللغات والتقدم والتخلف والثراء والفقر والصحارى والواحات والأطعمة واللباس. إنها لوحة شاسعة، مساحتها 6649ر1 مليون كم مربع، تحتل سُدس مساحة الصين، تجاور ثماني دول بحدود تمتد 5600 كيلومتر. في هذه البقعة من أرض الصين أنت في واقع مختلف، المكان الواحد له اسمان، واحد بلغة هان وآخر بلغة الويغور، فمحافظة ييتشنغ بالصينية هي قاغلاق بالويغورية، وساتشه بالصينية هي يهكن بالويغورية وتسيبو بالصينية هي بوسكام بالويغورية. هنا ترى واجهات المتاجر والمؤسسات الحكومية والإعلانات بلغتي الويغور وهان معا.

على مدى سنوات في الصين، تعلمت في الشارع وفي السوق وفي ملاعب كرة القدم ودور العبادة ووسائل النقل أن أحاول أن أكون صينيا. أخذت أرتاد الأسواق ودخلت إلى الجامعات ومارست فيها كرة القدم ورياضات أخرى، وصادقت أفرادا من فئات اجتماعية مختلفة، ودخلت دور السينما، أشاهد أفلاما صينية، وجلست طويلا أمام القناة الثالثة للتلفزيون الصيني المركزي أشاهد أوبرا بكين، وتعرفت بأساتذة جامعات ومفكرين وساسة كبار، نتحدث في كل شيء، وأي شيء، المهم أن الصين دائما في المركز، فقد صارت الصين المملكة الوسطى لاهتماماتي.

عندما وصلت إلى مطار العاصمة الدولي في بكين في يناير 2018، وبينما أنا في طابور طويل انتظارا لإنهاء إجراءات الدخول، استعادت ذاكرتي مشهد النفر القليل من القادمين إلى الصين في عام 1992. وفي الطريق السريع الحديث المرافق الواسع من المطار إلى المدينة، تذكرت الطريق القديم الضيق الذي لم يكن يخلو من الحفر. وأمام بناية المجموعة الصينية للنشر للدولي وفي الأماكن التي تجولت فيها لم أر شيئا من بسطات بيع البضائع والمأكولات في الشوارع التي صارت أكثر اتساعا وانتظاما في حركة المرور برغم الزيادة الهائلة في عدد السيارات. اختفت تقريبا الدراجات القديمة وحلت محلها الدراجات التشاركية ذات الألوان المبهجة، وصارت المواصلات العامة وسيلة مريحة للتنقل. وتقريبا لم يعد في وسط المدينة أي أسواق شعبية، فقد تم نقلها إلى الضواحي البعيدة، ما جعل المدينة خالية تقريبا من أبناء المناطق الصينية الأخرى (واي دي رن). وفي كل مكان ذهبت إليه لم أر أحدا يستخدم النقود، فكل المعاملات المالية تتم باستخدام تطبيق بالهاتف النقال. وكما قالت لي صديقة صينية مازحة، إن اللصوص في بكين فقدوا أعمالهم، فكل فرد لا يحمل إلا هاتفه النقال، ويكون في يده دائما، إذ أنه الأداة التي يدبر بها أموره اليومية. رأيت انضباطا صارما، ففي كثير من الأماكن لا يمكن لأحد دخولها إلا بعد تمرير بطاقة هويته أو تصريح الدخول الخاص به على جهاز مسح ضوئي. صارت التكنولجيا الحديثة جزءا هاما من حياة الفرد في الصين، فالصينيون شعب لا يتوقف عن الابتكار والإبداع.

ومرة أخرى تيقنت أنني وإن كنت أشعر بأنني استطعت الدخول في أمعاء المجتمع الصيني، وهي أمعاء طويلة؛ تمتد خمسة آلاف عام، مازلت بعيدا عن الزعم بأنني قطعت فيها شوطا بعيدا، فأنت كلما تقترب من الإدعاء بأنك تعرف عن الصين الكثير، تكتشف أنك درت في حلقة واحدة من تلك الأمعاء. إنك عندما تصل إلى الصين وتواجه هذا العالم الساحر المبهر؛ إنسانا ومكانا وطقسا وعادات وتقاليد، تقول في يومك الأول بالصين إنك تستطيع، في ليلة واحدة، تأليف كتاب، بل موسوعة عن الصين، ثم عندما تبقى شهرا وتتكشف أمامك الحقائق على حقيقتها يتملكك التواضع الذي هو من سمات الصينيين، وتقول إنك قد تستطيع أن تكتب مقالا عن هذا البلد الضخم. وإذا شاءت ظروفك وأمضيت عاما في الصين بين ناسها ومدنها وقراها قد تصل إلى قناعة بأنك إذا كتبت صفحة واحدة عن هذا البلد العظيم تكون أنجزت شيئا صادقا موثوقا. فكم هي مهمة شاقة أن تكتب عن الصين، وخاصة الصين ما بعد الإصلاح والانفتاح التي تتغير بسرعة مذهلة. وقد قال الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون في مذكراته: "إن لدى الصين أسراراً لا متناهية، لذلك فإننا لن نعرف كل شيء عن الصين، ولكن ربما نستطيع أن نتعلم شيئا منها".

 

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4