على مقهى في الشارع الصيني < الرئيسية

هل الصين لغز؟

: مشاركة
2021-12-27 13:34:00 الصين اليوم:Source حسين إسماعيل:Author

في الأول من سبتمبر 2021، نشرت صحيفة ((الشرق الأوسط)) التي تصدر باللغة العربية في العاصمة البريطانية لندن، مقالة للدكتور عبد المنعم سعيد، المفكر المصري المعروف ورئيس مجلس إدارة صحيفة ((المصري اليوم)) المصرية ورئيس مجلس الإدارة ومدير المركز الإقليمي للدراسات الإستراتيجية بالقاهرة، بعنوان "محاولة في فهم الصين"، بدأها الدكتور سعيد بالقول: "الصين لُغز كبير صعبُ الفهم والحل..". وفي معاجم اللغة العربية، الفعل "لَغزَ" يلغز فهو لاغز، والمفعول ملغوز فيه. ولَغز الشَّيْء: مال به عن وجهه؛ ألغز الشخص الكلام: أخفى مراده منه، جعل ظاهره خلاف باطنه ولم يبين مراده ولم يظهر معناه. وفي اللغة الإنجليزية قد يكون معنى لغز كلمة "puzzle" التي تعني الشخص أو الشَّيْء الذي يصعب فهمه أو شرحه، وقد يكون المعنى كلمة "mystery" التي تعني أيضا الشَّيْء الذي يصعب أو يستحيل فهمه. الكلمات التي تلت العبارة الأولى في مقالة المفكر المصري تؤكد ما يعتقده بأن الصين "لغز"، فهو يقول: "والشائع أكثر أنه طالما في الأمر أحاجي لا نفهمها فإن التعامل مع بكين يكون بوضعها في سلة أو سلال قوى دولية نعرفها في التاريخ المعاصر أو أنها كانت في الطريق القديم."

فهل الصين "لغز" في حد ذاتها، أم أن ما يجعل الصين "لغزا" لمن يظن ذلك هو الجهل بها؟ بعبارة أخرى، هل في المكونات الطبيعية للصين وشعبها وتاريخها وجغرافيتها وسياساتها ما يجعلها عصية على الفهم، أم أن استعصاء الفهم هذا ناتج عن عدم المعرفة بثقافة الصين وتاريخها ومسيرة تطورها، إلخ؟

عندما ذهبت إلى الصين أول مرة، قبل ثلاثة عقود تقريبا، صادفت أشياء ومواقف لم أتمكن من فهمها واستيعابها، فأنا قادم من بيئة اجتماعية وجغرافية وثقافية مختلفة، فضلا عن الفقر الشديد في معرفة الصين آنذاك بالدول العربية. ولكن مع مرور أيام وسنوات العمل والإقامة في الصين والانخراط في مجتمعها والتعمق في دراستها تاريخيا وجغرافيا وثقافيا وسياسيا، انقشع الضباب عما كان غامضا. تذكرت وقتها مقولة لأستاذي وأستاذ الدكتور عبد المنعم سعيد أيضا في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة الدكتور علي الدين هلال، وهي: "نحن نقرأ في الأمور بقدر ما نعرف". المعنى هو أن قراءتنا وتحليلنا وفهمنا لأي شيء مرتبط بقدر ما نعرفه عنه.

 أظن أن آخر مرة زار فيها الدكتور عبد المنعم سعيد الصين كانت سنة 1999، قبل نحو اثنتين وعشرين سنة. هو ذكر ذلك في مقالته المشار إليها: "قبل عشرين عاما تقريبا، كانت زيارتي الثانية للصين وفيها جرى لقاء في وزارة الخارجية الصينية...". أتذكر هذه الزيارة، فقد حضرت في مقر سفارة مصر ببكين مأدبة عشاء دعا إليها سفير مصر لدى الصين آنذاك الدكتور محمد نعمان جلال، على شرف وفد صحفي من جريدة ((الأهرام)) في زيارة للصين مكون من السيد إبراهيم نافع رئيس تحرير ((الأهرام)) الأسبق، والدكتور عبد المنعم سعيد والسيد عبد العظيم حماد والدكتور حسن أبو طالب والسيد يحيى غانم. وخلال تلك الزيارة أجرى أعضاء الوفد مقابلات مع عدد من المسؤولين الصينيين وقاموا بجولات في مدن صينية أخرى غير بكين. وقد أسفرت تلك الزيارة عن سلسلة مقالات بعنوان "حوارات بكين" نشرتها ((الأهرام))، وأيضا كتاب "الصين، معجزة نهاية القرن العشرين"، الذي تضمن أخطاء فادحة عن الصين، ليس عن قصد وإنما عن سوء فهم، وكان الكتاب تجسيدا صارخا لفجوة المعرفة بشأن الصين في المنطقة العربية.

 آخر زيارة قام بها الدكتور سعيد إلى الولايات المتحدة الأمريكية كانت، وفقا لما جاء في مقالة له بعنوان "القائمة الحمراء" منشورة في جريدة ((الأهرام)) في الأول من سبتمبر 2021: "قبل فترة قصيرة ذهبت إلى الولايات المتحدة الأمريكية وخرجت منها إلى مصر مرة أخرى." الحاصل هو أن المفكر الكبير الذي جاوز عمره السبعين عاما قام بزيارتين خاطفتين للصين طوال عمره الأكاديمي المديد بينما زار دول الغرب ومنها الولايات المتحدة الأمريكية عشرات إن لم يكن مئات المرات ولم ينقطع عنها حتى في ظل القيود التي فرضها تفشي وباء كوفيد- 19، وهي زيارات ليست خاطفة، وإنما تضمنت الدراسة والإقامة بها وإلقاء المحاضرات وإقامة علاقات شخصية مع أفراد من مختلف الأوساط الاجتماعية ومع مؤسسات رسمية وأكاديمية متنوعة. هذه حالة عامة لا تخص شخصا بعينه وإنما تكاد تنطبق على كافة "مجتمع النخبة" في البلدان العربية. الأمر لا يقتصر على "النخبة"، فالتبادلات الشعبية العربية- الغربية برغم المشكلات السياسية والاختلافات في القيم الاجتماعية والثقافية والمفاهيم المتعلقة بحقوق الإنسان وغيرها، تلعب دورا يتم توظيفه لخدمة العلاقات الشاملة بين الدول العربية والغرب. في المؤتمر الصحفي المشترك لوزير خارجية مصر سامح شكري ووزير رالخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، في العاشر من نوفمبر 2021، تحدث الوزير الأمريكي عن زوجة الرئيس المصري الراحل أنور السادات السيدة جيهان السادات، وقال: "تعاونت جيهان السادات لعدة عقود مع المنظمات الأمريكية لحقوق المرأة ونحن نشارك مصر حزنها على وفاتها." وأضاف: "الكثير من قواعد العلاقات الدبلوماسية أساسها العلاقات بين الشعبين المصري والأمريكي بدءا من رامي مالك إلى الإعلامية الأمريكية هدى قطب التى تأتي بالأخبار.. نحن نستخدم الإنجازات المصرية كل يوم مثل عمليات زراعة القلب التي كان أول من أجراها مجدي يعقوب." وتحدث بلينكن عن برامج التعليم المشترك بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية قائلا: "برنامج القيادة الدولي للأعمال الذي يمتد على مدار ثمانين عاما كان أبرز المشاركين فيه أنور السادات."

المفكرون والباحثون في البلدان العربية يعرفون جيدا سيرة حياة وأفكار وأعمال جون آدمز وبنجامين فرانكلين وألكساندر هاميلتون وجون جاي وتوماس جيفرسون وجيمس ماديسون وجورج واشنطن، الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية، ولكنهم قد يعرفون شيئا قليلا أو حتى لا يعرفون شيئا عن حركة الرابع من مايو وتشن دو شيو ولي دا تشاو وماو تسي تونغ وتشو أن لاي، وغيرهم من رواد حركة إنقاذ الصين وإنهاضها في بداية القرن العشرين. هم لا يعرفون أن لي دا تشاو، وهو من القادة الرئيسيين لحركة الرابع من مايو وأول من نشر الماركسية في الصين وأحد المؤسسين الرئيسيين للحزب الشيوعي الصيني، قام بنقد الثقافة التقليدية للصينية، ودعا إلى تعلم روح الديمقراطية والحرية والعلم من الغرب، وهو القائل بعد ثورة أكتوبر البلشفية في روسيا: "انظروا، من المؤكد أن العالم في المستقبل سيكون عالم الراية الحمراء!"

في الفترة من الثامن إلى الحادي عشر من شهر نوفمبر 2021، عقدت في بكين الجلسة الكاملة السادسة للجنة المركزية التاسعة عشرة للحزب الشيوعي الصيني. وفي افتتاح الجلسة، ألقى السيد شي جين بينغ، الأمين العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، تقرير عمل نيابة عن المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب وقدم إيضاحات بشأن مسودة قرار حول الإنجازات الكبرى والتجربة التاريخية لمساعي الحزب الشيوعي الصيني على مدار مائة عام. وقد ذكر بيان صادر عن اجتماع المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني في الثامن عشر من أكتوبر 2021، أن الحزب الشيوعي الصيني قاد كافة القوميات في البلاد لتحقيق إنجازات ملحوظة على مدى المائة عام الماضية من تاريخ التنمية البشرية. وأوضح البيان أن الشعب الصيني الذي عانى من القهر والتنمر منذ بداية العصر الحديث قد وقف على قدميه، مضيفا أن الأمة الصينية تتقدم نحو التحديث على جميع الجبهات، وقد شقت الاشتراكية مسارا ناجحا في أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان. وأضاف أن الصين تخطو خطوات كبيرة لمواكبة العصر، وأن الأمة الصينية تستشرف آفاقا مشرقة لإحياء نهضتها العظيمة.

إن عبارة "الشعب الصيني الذي عانى من القهر والتنمر منذ بداية العصر الحديث قد وقف على قدميه"، الواردة في البيان يمكن أن تمثل مدخلا لـ"فهم الصين"، لأن الوقوف عندها يردنا إلى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين عندما كانت الصين دولة شبه مستعمَرة وشبه إقطاعية. وحينها سعى مثقفو الصين ومفكروها إلى تغيير مصير بلادهم، ونظروا في العديد من المقاربات والمناهج والنظم السياسية والاقتصادية. في التقرير المقدم إلى المؤتمر الوطني التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني، قال الرئيس الصيني شي جين بينغ: "الأمة الصينية لها تاريخ حضاري يمتدّ أكثر من خمسة آلاف سنة خلَقت خلالها الحضارةَ الصينية الباهرة، وقدَّمت بذلك للبشرية إسهامات جليلة، فأصبحت من الأمم العظيمة في العالم. غير أن الصين، بعد حرب الأفيون، مرت بمرحلة مظلمة خيمت عليها الاضطرابات الداخلية والعدوان الخارجي، وتعرض الشعب الصيني لمحنة خطيرة تمثلت في الفوضى المتكررة الناجمة عن الحروب وتمزق التراب الوطني، والعيش في الفقر والبؤس. وفي سبيل نهضة الأمة، خاض عدد لا يحصى من أصحاب الهمم العالية نضالات بطولية جليلة، وقاموا بمحاولات وتجارب متنوعة جيلا تلو الآخر، بعزيمة لا تنحني ولا تلين، إلا أن ذلك لم يغير في النهاية الطبيعة الاجتماعية للصين القديمة ولا المصير المأساوي للشعب الصيني."

القضية ليست أن تنتصر لرؤية الصين أو تعارضها، وإنما أن تفهمها فلا تكون الصين بالنسبة لك لغزا. إن عدم "فهم الصين" وربما أضيف أيضا عدم "فهم الدول العربية" لدى الصينيين مسؤولية مشتركة يتحملها الصينيون والعرب. فالساسة والمفكرون العرب مرتبطون بوعي أو بدون وعي بالغرب، وعندما يواجهون مشكلة يبحثون عن حلول ونماذج غربية. وعلى الجانب الآخر، فإنه باستثناء قلة من الباحثين المهتمين بالمنطقة العربية، فإن المواطن الصيني يتعرض لتأثير التحليلات الغربية لما يجري في المنطقة العربية وما تنشره وسائل الإعلام الغربية.

خلاصة القول، ثمة حاجة ملحة إلى تحويل الشعار الذي يتردد عربيا منذ فترة بالاتجاه شرقا إلى واقع تباشرة وتفتح آفاقه المؤسسات البحثية والإعلامية والثقافية، فكل من العرب والصينيين في حاجة إلى إعادة اكتشاف الآخر. لابد أن تتبنى مؤسسات رسمية وبحثية وإعلامية عربية وصينية مشروعا يحدد آليات من شأنها جسر هذه الهوة المعرفية بين الجانبين؛ ولابد من تعزيز حركة الترجمة بين اللغتين الصينية والعربية والتي نرى بوادر طيبة لها مع إصدارات مؤسسة ((بيت الحكمة)) الصينية في منطقة نينغشيا. والأهم من ذلك هو خلق حالة من الزخم الشعبي الصيني والعربي لدفع الجانبين لمعرفة بعضهما البعض، واستثمار مبادرة "الحزام والطريق" بجعل الحزام الاقتصادي لطريق الحرير وطريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين وعاء يحتوي على التبادل الثقافي والشعبي والمعرفي والعلمي والتقني، إلخ.

 

 

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4