مال واقتصاد < الرئيسية

الاقتصاد الصيني.. إنجازات مذهلة ونموذج في مفترق الطرق

: مشاركة
2018-02-05 16:08:00 الصين اليوم:Source أحمد السيد النجار:Author

يعقد الحزب الشيوعي الصيني مؤتمره الوطني التاسع عشر، في وقت تقف فيه الصين والعالم في مفترق طريق حاسم سواء في النموذج السياسي والاقتصادي للعلاقات الدولية والذي يستحق العمل على تغييره باتجاه أكثر عدالة وتعددية في إدارة تلك العلاقات، أو في النموذج السياسي- الاقتصادي- الاجتماعي للصين نفسها. فالنموذج الذي تدار به العلاقات الاقتصادية الدولية والذي يهيمن عليه الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية التي تنهب العالم من خلال وضعية الدولار كعملة احتياط دولية، لم يعد متسقا مع حقائق الواقع الموضوعي الذي يشير إلى صعود هائل للاقتصاد الصيني ولاقتصادات نامية أخرى، وهو ما يستدعي تعديلات كبرى في هذا النظام أو تشكيل نظام مواز له. أما النموذج الاشتراكي الصيني، فإن استمراره وتطوره أصبح بدوره محل جدل واسع النطاق في ظل توسع نطاق وجود ودور الرأسمالية المحلية الصينية والرأسمالية الأجنبية العاملة في الصين، وعلى الحزب الشيوعي الصيني أن يحسم هذا الجدل بقرارات وإجراءات لتعميق النموذج الاشتراكي والملكية الاجتماعية لوسائل الإنتاج بمختلف أشكالها وإجراءات تحقيق العدالة الاجتماعية، عبر نظم التشغيل والأجور والضرائب ودعم الخدمات العامة وعلى رأسها الخدمات الصحية والتعليمية والدعم السلعي والتحويلات الاجتماعية.

تطور سياسات بناء الاقتصاد الصيني

أنجزت الصين بناء سياسيا واقتصاديا واجتماعيا عظيما على كافة الأصعدة، عبر مراحل متعاقبة وسياسات تتلاءم كل منها مع المرحلة التي تم تطبيقها فيها. وقد شهد عهد الزعيم الصيني الأشهر ماو تسي تونغ الذي قاد تأسيس الدولة الاشتراكية وأعطاها طابعها الصيني المتميز، تركيزا كبيرا على بناء الصناعات الثقيلة ومجمل القواعد الاقتصادية والسياسية للاستقلال الوطني والاعتماد على الذات وعلى بناء الإنسان الصيني عبر نظم جيدة للصحة والتعليم والبحث العلمي. كما ضمن الحماية وقدرة الردع لبلاده بدخول النادي النووي في منتصف ستينيات القرن الماضي. ولم يستنزف بلاده في سباق تسلح مكلف بل اكتفى بما هو ضروري لردع وتدمير كل من يفكر في العدوان على بلاده. واعتمد على سياسة الإحلال محل الواردات لرفع مستوى الاكتفاء الذاتي لبلاده بتطبيق هو الأكثر ذكاء وكفاءة من غالبية الدول التي طبقتها، حيث قامت الصين بسلسلة متكاملة من الإحلال محل الواردات من السلع الاستهلاكية للآلات والمعدات والسلع الوسيطة، خلافا لما تم في غالبية الدول النامية من الإحلال محل الواردات في مجال السلع الاستهلاكية مع الاستمرار في الاعتماد على استيراد الآلات والمعدات والتقنيات الأجنبية. ولذلك أفضى النموذج الصيني إلى بناء قاعدة صلبة للاستقلال الاقتصادي حتى لدى الانفتاح على الاقتصاد العالمي بشكل واسع النطاق، بينما عانت غالبية الدول النامية التي طبقت تلك الاستراتيجية بشكل قاصر من تزايد عجز موازينها الخارجية واستمرار تبعية جهازها الإنتاجي للغرب المتحكم في مدها بالآلات والتقنيات الإنتاجية. (يمكن المراجعة بالتفصيل في كتابي: مصر والعرب والصين ومبادرة الحزام والطريق، دار ابن رشد، القاهرة، تحت الطبع).

ورغم الدمار الهائل الذي تعرض له الاقتصاد الصيني خلال الحرب الوطنية العظمى ضد الفاشية اليابانية، وخلال الحرب الأهلية الطويلة، فإن جمهورية الصين الشعبية استطاعت منذ تأسيسها عام 1949 وبالاعتماد على ذاتها أن تحقق إنجازاتها الاقتصادية الجبارة بعقول وسواعد ومدخرات أبنائها. ورغم أنها تلقت دعما سوفيتيا مؤثرا في البداية، فإن هذا الدعم لم يستمر سوى لمدة قصيرة انتهت بانفجار الخلافات بين الزعيم الصيني التاريخي ماو تسي تونغ والزعيم السوفيتي نيكيتا خورتشوف عام 1956، مما جعل الصين تعتمد على ذاتها كليا.

الاقتصاد الصيني، الذي بدأ من نقطة الصفر على ضوء الدمار الذي تعرض له في النضال ضد الفاشية اليابانية وفي الحرب الأهلية، سجل معدلات نمو قوية حتى منتصف ستينيات القرن الماضي. وحتى في الفترة التالية من عام 1965 حتى عام 1980، فإن الصين واصلت تحقيق معدلات نمو جيدة رغم كل ما مر بها من أزمات في تلك الفترة وبالذات أثناء الثورة الثقافية التي شهدت سياسات متشددة وتوترات وإقصاءات حتى داخل الحزب الشيوعي نفسه. وبلغ متوسط معدل النمو الحقيقي للناتج المحلي الإجمالي للصين نحو 4ر6% سنويا خلال الفترة من عام 1965 حتى عام 1980، مقارنة بمعدلات نمو سنوية بلغت نحو 7ر2% للولايات المتحدة الأمريكية، ونحو 7ر3% للدول المرتفعة الدخل، ونحو 4ر5% للاقتصادات المنخفضة الدخل، ونحو 1ر6% للاقتصادات المتوسطة الدخل خلال نفس الفترة (راجع: البنك الدولي، تقرير عن التنمية في العالم 1990، الطبعة العربية، صـ 212، 213).

وتمكنت الصين في عهد الزعيم الصيني الراحل دنغ شياو بينغ ومن خلفوه، من توسيع انفتاحها على الاقتصاد العالمي لأقصى حد، واستطاعت من خلال معدلات ادخار واستثمار بالغة الارتفاع أن تطور ناتجها وصادراتها اعتمادا على الطلب الخارجي والداخلي وعلى القبول بمعدلات ربح معتدلة كآلية لدعم القدرة التنافسية، وعلى تخفيض سعر العملة الصينية لدعم الصادرات مع وجود إنتاج هائل قابل للتصدير، وأيضا لزيادة جاذبية السوق الصينية للاستثمارات والسياحة الأجنبية. واستطاعت الصين جذب استثمارات أجنبية كبيرة وبخاصة في الصناعات العالية التقنية مع السيطرة على الحلقة التكنولوجية لكل من يرغب في دخول السوق الصينية الكبيرة. لكنها ظلت معتمدة على ذاتها بالأساس وعلى البحث والتطوير العلميين وتحديث الاقتصاد والمجتمع بالاعتماد على الذات وعلى شركات الدولة الصينية مع تشديد إجراءات المراقبة لقيادات القطاع العام الصيني لمنع ومكافحة الفساد. وكان الزعيم الصيني دينغ شياو بينغ واضحا في توجهه بأن الصين "يجب أن تحصل على تكنولوجيا وأجهزة جديدة من البلدان الأخرى وتوسع من وارداتها وصادراتها"، مع استمرار المؤسسات العلمية الصينية في تعزيز "أعمال البحث العلمي التي تجريها المؤسسات وهذه وسيلة كبيرة الأهمية لتنمية الصناعة بإحراز نتائج أعظم وأسرع وأفضل وأكثر اقتصادا" معتبرا أن "تطوير العلوم والتكنولوجيا هو المفتاح لتحقيق التحديث"، ومؤكدا على أهمية تحقيق ثنائية الاندماج في الاقتصاد العالمي والاعتماد على الذات لبناء نموذج التنمية الصينية (راجع: مؤلفات دنغ شياو بينغ المختارة 1975-1982، دار النشر باللغات الأجنبية، بكين، عن دار الشعب للنشر، الطبعة الأولى 1985، صـ 54، 55،64، 514).

ونظرا لأن الصين لم توقع نفسها في أزمة مديونية خارجية، فإنها استطاعت التمسك بالدور القيادي للقطاع العام أو شركات الدولة في الاقتصاد عموما وبخاصة في الصناعات الاستخراجية والتحويلية. ولم تخضع للابتزاز الغربي وابتزاز مؤسسات صندوق النقد والبنك الدوليين في هذا الشأن، وهو ما مكنها من الحفاظ على نموذجها الاشتراكي حتى الآن. ويعود الفضل في ذلك لمنطق الاعتماد على الذات الذي تم تأسيسه منذ عهد الزعيم الصيني ماو تسي تونغ، واستمر التمسك به وتطويره في عهود كل من خلفوه.

القفزة الاقتصادية العملاقة عبر المنافسة وليس التطفل

يتميز الاقتصاد الصيني أيضا بأنه لم ينم بالتطفل على اقتصادات أقل تطورا، بل بالمنافسة مع اقتصادات أكثر تطورا تمكن من تجاوزها الواحد تلو الآخر. ورغم الطبيعة الخاصة للنمو الاقتصادي الصيني القائم على الاعتماد على الذات، وعلى تبادل المنافع، وعلى التفوق في المنافسة على ضوء فروق أسعار الخامات وخدمات العمل، وعلى القبول بمعدلات ربح معتدلة كرافعة رئيسية للتفوق في المنافسة، فإن الصين ستكون مضطرة لأسباب اقتصادية بحتة، بغض النظر عن الدوافع الأيديولوجية، للتركيز على توسيع السوق الداخلية بإجراءات أكثر تشددا لتحقيق العدالة الاجتماعية حتى تتمكن من الاستمرار في تحقيق معدلات نمو معتدلة في السنوات القادمة بالاعتماد بصورة أساسية على السوق الداخلية وليس على المزيد من تمدد التسويق الخارجي، في ظل ظهور قوى اقتصادية ناهضة تخوض تجارب اقتصادية مماثلة لتجربة الصين في الاندماج الواسع النطاق في الاقتصاد العالمي قبل ما يقرب من أربعين عاما.

وتجدر الإشارة إلى أن الصين دخلت أسواق البلدان الأخرى بصورة سلمية تعاونية، اعتمادا على قدرتها التنافسية وليس على القوة أو الاحتلال والهيمنة كما فعلت الإمبراطوريات الغربية. وسجل الاقتصاد الصيني منذ عام 1980 نموا هائلا تجاوز 10% سنويا في المتوسط على مدار أكثر من ثلاثة عقود وبالتحديد 34 عاما وفقا لبيانات صندوق النقد الدولي (IMF, World Economic Outlook, Several Issues). وتراجع المعدل ليتراوح بين 5ر6% و5ر7% بعد عام 2014 بعد أن حقق الاقتصاد الصيني النهوض الشامل في كافة المجالات. وتقدمت الصين لتصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم وفقا للناتج المقدر بالدولار الأمريكي وفقا لسعر الصرف، ولتصبح أكبر اقتصاد في العالم وفقا للناتج المقدر بالدولار الأمريكي وفقا لتعادل القوى الشرائية بين الدولار الأمريكي واليوان، فضلا عن كونها أكبر دولة مصدرة للسلع العادية والعالية التقنية منذ 12 عاما.

ومنذ انفجار الأزمة المالية والاقتصادية الأمريكية والعالمية عام 2008 وحتى الآن، قام الاقتصاد الصيني وما زال يقوم بدور القاطرة التي تجر الاقتصاد العالمي للخروج من الأزمة استنادا على الفوائض التجارية الهائلة التي راكمتها الصين على مدار ربع قرن والتي تجاوزت حاليا 3ر4 تريلوينات دولار أمريكي، والتي انطلقت منها الصين في تغذية الاقتصاد العالمي باستثمارات عملاقة خارج الصين.

وتشير بيانات صندوق النقد الدولي إلى أن معدل النمو الحقيقي للناتج المحلي الإجمالي في الصين قد بلغ 7ر6% في عام 2016، مقارنة بنحو 6ر1% للولايات المتحدة الأمريكية. ومن المقدر له أن يبلغ 6ر6% في عام 2017، مقارنة بنحو 3ر2% للولايات المتحدة الأمريكية. وفي عام 2018 من المتوقع أن يبلغ المعدل نحو 2ر6% في الصين مقارنة بنحو 5ر2% للولايات المتحدة الأمريكية. وفي عام 2022 من المتوقع أن يبلغ المعدل نحو 7ر5% في الصين، مقارنة بنحو 7ر1% في الولايات المتحدة الأمريكية. وهو ما يؤكد على أن الاقتصاد الصيني سيعزز مكانته على عرش الاقتصاد العالمي في ظل استقرار مالي ومعدلات تضخم تقل عن 3%، وسيستمر على هذا النحو في المدى المنظور وفقا لتوقعات صندوق النقد الدولي. وأيضا في ظل استمرار فائض ميزان الحساب الجاري الصيني الذي سيظل يتراوح بين 2%، 1% من الناتج المحلي الإجمالي للصين حتى عام 2022 مما يؤكد على متانة الاقتصاد الصيني وتفوقه في علاقاته الدولية، مقارنة بعجز أمريكي هائل يتزايد حجمه ويدور حول مستوى 3% من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي. كل تلك البيانات تؤكد على أن اقتصاد الصين سيوسع الفجوة الحقيقية التي تفصله كاقتصاد المقدمة عالميا عن اقتصادات الولايات المتحدة الأمريكية ومنطقة اليورو وهما أهم منافسين له، إلى أن تتمكن الهند من تجاوز الولايات المتحدة الأمريكية ومنطقة اليورو لتصبح هي المنافس الرئيسي للصين على عرش الاقتصاد العالمي في منتصف هذا القرن.

وقد بلغت قيمة الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للصين طبقا لتعادل القوى الشرائية نحو 19522 مليار دولار أمريكي عام 2015، مقارنة بنحو 17947 مليار دولار أمريكي للولايات المتحدة الأمريكية في العام نفسه، أي بفارق 1575 مليار دولار أمريكي لصالح الصين. أما الناتج المحلي الإجمالي المحسوب بالدولار الأمريكي على أساس سعر الصرف السائد الذي لا يعكس توازن القدرات الشرائية للعملات فيبلغ نحو 10866 مليار دولار للصين، مقارنة بنحو 17947 مليار دولار للولايات المتحدة عام 2015 (World Bank, World Development Indicators database, World Bank, 22 July 2016.).

وبلغ الناتج القومي الإجمالي للصين (الناتج القومي= الناتج المحلي الإجمالي مضافا إليه عوائد عناصر الإنتاج المحلية من قوة العمل ورأس المال التي تعمل في الخارج، ومطروحا منه عوائد عناصر الإنتاج الأجنبية التي تعمل في داخل البلد) وفقا لبيانات البنك الدولي في تقريره عن مؤشرات التنمية في العالم (2017) وطبقا لتعادل القوى الشرائية نحو 19631 مليار دولار أمريكي في عام 2015، بزيادة قيمتها 1135 مليار دولار عن نظيره الأمريكي الذي بلغ 18496 مليار دولار في العام نفسه. أما الناتج القومي الإجمالي المحسوب بالدولار وفقا لسعر الصرف السائد فقد بلغ نحو 10838 مليار دولار للصين، ونحو 17994 مليار دولار للولايات المتحدة الأمريكية.

وقد تحولت الصين إلى أكبر دولة مصدرة للسلع في العالم منذ عام 2005 وحتى الآن. وقد بلغت قيمة الصادرات السلعية الصينية نحو 4ر2 تريليون دولار أمريكي عام 2014، مقارنة بصادرات سلعية أمريكية قيمتها نحو 5ر1 تريليون دولار في العام نفسه. ووفقا لقاعدة بيانات تقرير مؤشرات التنمية في العالم الذي يصدره البنك الدولي، بلغت قيمة الصادرات الصينية العالية التقنية في عام 2014 نحو 6ر558 مليار دولار، مقارنة بنحو 6ر155 مليار دولار للولايات المتحدة الأمريكية. أما الواردات الصينية فقد بلغت قيمتها نحو 1596 مليار دولار في عام 2014 وفقا لبيانات الشركاء التجاريين للصين، وبلغ الفائض التجاري الصيني وفقا لتلك البيانات نحو 810 مليارات دولار أمريكي. أما البيانات الصينية نفسها فتشير إلى أن قيمة الواردات الصينية من الخارج قد بلغت نحو 1963 مليار دولار أمريكي في العام المذكور، مقابل صادرات قيمتها 2343 مليار دولار في العام نفسه. وبلغ الفائض التجاري الصيني وفقا لتلك البيانات نحو 380 مليار دولار أمريكي (IMF, Direction of Trade Statistics Yearbook 2015, p.2, 155.). وهذا الفائض التجاري الصيني هو الأعلى في العالم بلا منازع سواء أخذنا بالبيانات الصينية أو ببيانات شركائها التجاريين.

وفي ظل كل تلك المعطيات طرح الرئيس الصيني شي جين بينغ مبادرته العالمية "الحزام والطريق" كإعلان للنوايا الصينية بشأن إصلاح العلاقات الاقتصادية الدولية باستلهام القيمة الرمزية لطريق الحرير القديم الذي نهض التعاون بين دوله على أسس العدالة والتكافؤ والتعايش السلمي، وهي مبادرة تستحق التحويل إلى قوة مادية في الواقع عبر تكوين منظمة دولية للدول المؤمنة بها ومؤسسة مالية دولية لتعزيزها، ووضع نظام متكامل للتعاملات التفضيلية بين دولها، وتسوية التزاماتها المالية الدولية بعملاتها المحلية دون اللجوء للدولار الأمريكي أو اليورو أو غيرهما من العملات الحرة، وهو ما سيشكل في النهاية نموذجا يطبع العلاقات الاقتصادية الدولية بطابعه بقدر توسعه وزيادة عدد وقوة الدول المنضمة إليه.

مكافحة الفقر في الصين.. الإنجاز الأعظم عالميا

حققت الصين الإنجاز الأعظم عالميا في مكافحة الفقر. ورغم سوء توزيع الدخل في الصين بين المناطق الحضرية والريفية، وبين شرق البلاد الذي يعد مركزها الصناعي والمالي والتجاري وباقي الدولة، فإن النمو السريع للناتج المحلي الإجمالي ونصيب الفرد منه جعل كتلا ضخمة من السكان تخرج من ربقة الفقر المدقع والفقر العام، حتى في ظل سوء توزيع الدخل لأن الجميع ارتفعت دخولهم بمعدلات سريعة. وقد تمكنت الصين من تقليص عدد الفقراء الذين يعيشون بأقل من دولار واحد للفرد يوميا من 634 مليون نسمة يعادلون نحو 8ر63% من عدد السكان عام 1981، إلى 212 مليون نسمة يعادلون نحو 6ر16% من عدد السكان في عام 2001. ورغم تغير خط الفقر المدقع دوليا من أقل من دولار واحد في اليوم للشخص إلى 9ر1 دولار في اليوم حاليا، فإن عدد الصينيين الذين يعيشون تحت خط الفقر الدولي الجديد انخفض في عام 2013 إلى 2% فقط من عدد سكان الصين، وهو ما يعادل نحو 2ر72 مليون نسمة. أما الفقراء الذين يعيشون بأقل من دولارين للفرد يوميا في الصين فقد انخفضت أعدادهم من 876 مليون نسمة في عام 1981 إلى 594 مليونا في عام 2001. ( World Bank, World Development Indicators 2005, p. 67). ورغم تغير خط الفقر العام من أقل من دولارين للفرد يوميا إلى 1ر3 دولارات للفرد يوميا في الوقت الحالي فإن عدد سكان الصين الذين يعيشون تحت خط الفقر الدولي الجديد أي بأقل من 1ر3 دولار للفرد يوميا قد بلغ في عام 2013 نحو 1ر11% من سكان الصين (World Bank, World Development Indicators 2005, p. 67, 2017, p. 22. ). وهذه النسبة تعادل نحو 7ر150 مليون نسمة في العام المذكور.

وتشير بيانات البنك الدولي إلى أن أفقر 10% من سكان الصين حصلوا على 8ر1% من إجمالي الدخل في الصين، مقارنة بنحو 9ر1% في الولايات المتحدة الأمريكية، ونحو 8ر4% في اليابان، ونحو 4% في مصر، ونحو 3ر4% في جمهورية التشيك مع اختلاف السنوات التي تم فيها المسح. وحصل أفقر 20% من السكان على 5% من الدخل في الصين، مقارنة بنحو 4ر5% في الولايات المتحدة الأمريكية، ونحو 6ر10% في اليابان، ونحو 2ر9% في مصر، ونحو 2ر10% في جمهورية التشيك. أما أغنى 10% من السكان فقد حصلوا على 32% من الدخل في الصين، مقارنة بنحو 9ر29% في الولايات المتحدة الأمريكية، ونحو 7ر21% في اليابان، ونحو 6ر26% في مصر، ونحو 7ر22 في جمهورية الشيك. (World Bank, World Development Indicators 2012, p. 74-76).

النموذج الصيني في مفترق الطرق

بالنظر إلى البيانات المذكورة سابقا، فإن توزيع الدخل في الصين يعتبر أسوأ من أعتى الدول الرأسمالية ومن الدول النامية والمتحولة لاقتصاد السوق. وقد حققت الدول الرأسمالية الكبرى توزيعا أفضل للدخل من الصين بسبب نظم الأجور والحد الأدنى لها في تلك البلدان والذي يضمن للعمال الفقراء حصة أعلى من دخل بلادهم، وأيضا بسبب النظام الضريبي الشامل الذي يعيد توزيع الدخل، وكذلك بسبب وجود نظم فعالة للتحويلات الاجتماعية لدعم العاطلين والعجزة في تلك البلدان. لكن الصين تمكنت رغم ذلك من تحقيق الإنجاز العالمي الأكبر في مكافحة الفقر بسبب النمو السريع وزيادة دخل الجميع. ورغم ذلك تبقى الصين في حاجة لمراجعة آليات توزيع الدخل لتعميق العدالة الاجتماعية وتقليل الفجوات في الدخل إذا أرادت الحفاظ على نموذجها الاشتراكي.

وقد سمحت الصين في إطار انفتاحها الاقتصادي على العالم منذ بداية ثمانينات القرن العشرين وحتى الآن، بوجود قوى للرأسمالية العالمية عبر الاستثمارات الأجنبية في الصين، وبنمو الرأسمالية المحلية الصينية بشكل سريع وواسع النطاق مما أثار ويثير الكثير من الجدل بشأن استمرار تطور النموذج الاشتراكي الصيني أو تحوله إلى نموذج آخر. وحتى تحافظ الصين على نموذجها الاشتراكي وتمنع تحوله إلى رأسمالية بيروقراطية فاسدة أو رأسمالية خاصة كليا، فإنه عليها أن تستمر في إجراءاتها الصارمة لمكافحة الفساد في إدارة المال العام، وأن تشدد إجراءات المراقبة على إدارته والتصرف فيه من خلال أجهزة مراقبة مستقلة كليا عن السلطتين التنفيذية والتشريعية ولديها سلطة تحويل قضايا الفساد إلى القضاء بصورة مباشرة، وأن تبعد مكافحة الفساد عن أي اعتبارات سياسية أو تصفية حسابات لتكون نزيهة فعليا ومدعومة اجتماعيا. كما أنه يتوجب عليها اتخاذ الإجراءات وتطوير المنظومة القانونية لضمان تحقيق العدالة الاجتماعية وتقليل الفجوات الواسعة فعليا بين الطبقات من خلال نظم الأجور والضرائب والدعم والتحويلات ودعم الخدمات العامة، وعلى رأسها الخدمات الصحية والتعليمية، فضلا عن نظام التشغيل الذي يمكن البشر من كسب عيشهم بكرامة ومن المشاركة الاقتصادية بصورة فعالة. كما أنه من المهم أن تعمل على تعميق الملكية الاجتماعية لوسائل الإنتاج بكل الأشكال لتظل تطبع الاقتصاد الصيني بطابعها. كما أنه من المهم العمل على تنشيط ورعاية المشروعات الصغيرة والتعاونية التي يعمل بها أصحابها وأسرهم كرافد رئيسي للاقتصاد ونموه يقوم أساسا على الملكية الاجتماعية لرأس المال وعلى ازدواج الملكية والعمل معا، بالذات في المشروعات العائلية التي تعتبر نموذجا أرقى وأكثر حداثة من نمط المشاعية أو الشيوعية البدائية.

---

أحمد السيد النجار، مفكر مصري وباحث اقتصادي، رئيس مجلس إدارة مؤسسة ((الأهرام)) السابق.

 

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4