ملف العدد < الرئيسية

تشيوانتشو.. انطلاقة جديدة للمدينة التي احتضنت العرب والعجم

: مشاركة
2021-09-01 15:41:00 الصين اليوم:Source أحمد إسماعيل:Author

في الخامس والعشرين من يوليو عام 2021، تم إدراج مدينة تشيوانتشو الصينية في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) اعترافا بقيمتها التاريخية للصين والعالم. والحقيقة أن العرب والمسلمين لهم في تشيوانتشو تاريخ مجيد وسجل حافل وذاكرة ما زالت حية في مدينة عاش فيها أسلافهم وتاجروا وصاهروا الصينيين فسطروا صفحات ناصعة للعلاقات الصينية- العربية والإسلامية. 

في كتابه ((تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار))، قال الرحالة العربي محمد ابن عبد الله بن محمد بن إبراهيم اللواتي الطنجي (1304- 1377)، عندما وصل إلى الصين: "لما قطعنا البحر، كانت أول مدينة وصلنا إليها مدينة الزيتون. وهذه المدينة ليس بها زيتون، ولا بجميع بلاد أهل الصين والهند، ولكنه اسم وضع عليها، وهي مدينة عظيمة كبيرة، تصنع بها ثياب الكمخا والأطلس، وتعرف بالنسبة إليها، وتفضل على الثياب الخنساوية والخنبالقية. ومرساها من أعظم مراسي الدنيا، أو هو أعظمها. رأيت بها نحو مائة جنك كبار، وأما الصغار فلا تحصى كثرة. وهو خور كبير من البحر يدخل في البر حتى يختلط بالنهر الأعظم. وهذه المدينة وجميع بلاد الصين، يكون للإنسان بها البستان والأرض وداره في وسطها. كمثل ما هي بلدة سجلماسة ببلادنا. وبهذا عظمت بلادهم. والمسلمون ساكنون بمدينة على حدة."

مدينة "الزيتون" التي ذكرها ابن بطوطة في كتابه، هي مدينة تشيوانتشو التي تقع على الساحل الجنوبي الشرقي للصين في مقاطعة فوجيان، وقد اشتهرت في العالم باسم مدينة "زيتون"، كترجمة صوتية لاسم المدينة في ذلك الوقت وهو "تسهتونغ" (Zetong). وقد كتب الرحالة الإيطالي ماركو بولو (1254- 1324) أيضا عن تشيوانتشو، التي يقال إنه وصل إليها في ربيع سنة 1291، ووصفها في كتابه الذائع الصيت ((رحلات ماركو بولو)) بأنها تعد من الموانئ الأكبر في العالم، حيث يتجمع عدد كبير من التجار هنا، والسلع تتراكم كالجبال، لدرجة يصعب معها حقا تصور ذلك. وقال إنها الميناء الذي يتردد عليه جميع سفن الهند، والتي تجلب إلى هناك جميع أنواع التوابل وجميع أنواع السلع الأخرى الباهظة الثمن. وهو أيضا الميناء الذي يرتاده جميع تجار مانتسي (الجنوب)، حيث يتم استيراد كمية مدهشة من البضائع والأحجار الكريمة واللؤلؤ، ومن هنا يتم توزيعها في جميع أنحاء مانتسي. وأنا أؤكد لكم أنه مع كل سفينة من الفلفل تذهب إلى الإسكندرية أو أي مكان آخر، متجهة إلى العالم المسيحي، يكون هناك مائة من هذا القبيل وأكثر تذهب إلى مدينة الزيتون هذه؛ لأنها واحدة من أكبر مكانين للتجارة في العالم." ويقول في موضع آخر من كتابه: "توجد وفرة كبيرة هنا لكل ما يلزم من مستلزمات الإنسان.. إنها مدينة ساحرة، والناس هادئون جدا، ومولعون بالحياة السهلة. يأتي الكثيرون إلى هنا من أعالي الهند لتلوين أجسادهم بالإبرة بالطريقة التي وصفناها في موضع آخر، وهناك العديد من المتخصصين في هذه الحرفة في المدينة."

في كتابه ((مدينة النور))، واستنادا إلى يوميات لتاجر يهودي اسمه يعقوب، يصف المؤرخ البريطاني ديفيد سلبورن، مدينة " الزيتون " بأنها غنية بالثروات، وثرواتها قائمة على التجارة الداخلية والتجارة مع العالم الخارجي، فضلا عن الثقافة السياسية النابضة بالحياة. ويحدد ديفيد سلبورن، استنادا إلى مخطوطة يعقوب التي لم يظهرها، تاريخ وصول اليهود إلى جنوبي الصين، بأنه أغسطس 1271م، وتلك معلومة لا يوجد ما يؤكدها في المصادر الصينية أو غير الصينية، باستثناء دافيد سلبورن، الذي يقول إن الكلمة الإنجليزية satin (حرير الستان) مأخوذة من zaitun (زيتون). ويروي يعقوب، أو سلبورن، مشاهدات له في "زيتون" ويصف الجالية الأجنبية الكبيرة بها قائلا، إن المدينة كان بها ما يربو على ألفي يهودي والكثير من المسلمين والأفارقة والأوربيين.

استلزم الازدهار التجاري في تشيوانتشو إقامة أجهزة حكومية لتنظيم الأعمال التجارية، ففي سنة ألف وسبعة وثمانين، في فترة أسرة سونغ الشمالية، أقيمت في المدينة مصلحة باسم "شيبوه"، وهي بمثابة مصلحة الجمارك حاليا. كان يتم تسجيل السفن المحلية في "شيبوه" قبل الإبحار إلى خارج البلاد، وكانت السفن الأجنبية تقدم لها البيانات عند وصولها إلى الميناء ويتم فحصها وتفيتشها.

ما سبق ذكره ليس دليلا على ازدهار مدينة تشيوانتشو في فترة أسرتي سونغ ويوان فحسب، وإنما أيضا على انفتاح هذه المدينة وتسامحها واحتضانها لأقوام من شتى الملل والنحل.

يبلغ طول سواحل مدينة تشيوانتشو أكثر من أربعمائة كيلومتر، وميناء تشيوانتشو المكون من أربعة خلجان كان من الموانئ الهامة للمواصلات والتجارة الخارجية في عصور الصين القديمة، وكان نقطة الانطلاق لطريق الحرير البحري (طريق البخور). وتشير المصادر التاريخية الصينية إلى أن طرق المواصلات البحرية لمدينة تشيوانتشو نشأت في فترة الأسر الحاكمة الجنوبية (420- 589) في الصين القديمة، وبعد أكثر من أربعمائة سنة، كان لتشيوانتشو تبادلات تجارية مع نحو مائة دولة ومنطقة، حيث كانت الصين تصدر عبر ميناء تشيوانتشو الأقمشة الحريرية والأواني الخزفية، وتستورد التوابل والأعشاب. لم تكن تشيوانتشو ميناء تجاريا فحسب، وإنما أيضا ترسانة كبيرة للسفن. في عام 2007، تم انتشال السفينة الغارقة "نانهاي- 1" من ميناء تشيوانتشو، والتي يرجع تاريخها إلى فترة أسرة سونغ الجنوبية (1127- 1279). هذه السفينة التي يرجع تاريخها الى أكثر من ثمانمائة سنة وتمثل أعلى مستوى تقني لصناعة السفن الصينية في العالم، دليل آخر على المستوى الذي وصل إليه تصنيع السفن في تشيوانتشو التي كانت تعد مركزا لتصنيع السفن البحرية في الصين في ذلك الحين.

يتجلى الحضور العربي والإسلامي في مواضع كثيرة بمدينة تشيوانتشو التي تضم العديد من الأضرحة والنصب التذكارية ذات الخصائص الإسلامية والتي تحمل كتابات منقوشة باللغة العربية. ويعد مسجد تشينغجينغ (الصحابة) في تشيوانتشو من أقدم المساجد التي ما زالت موجودة في الصين. ويحتفظ متحف تشيوانتشو للمواصلات البحرية بتوابيت وشواهد قبور ذات نقوش كتبت باللغتين العربية الفارسية ورسوم ذات خصائص الثقافة الإسلامية.

مسجد الصحابة، الذي يقع في شارع تومن على مسافة غير بعيدة من متحف المواصلات البحرية، هو أول مسجد بني في تشيوانتشو. هذا المسجد الذي تم إنشاؤه في سنة 1009، بني بمواد من الصخر البركاني والجرانيت وتم ترميمه عدة مرات في عصور مختلفة. يتميز برج بوابة المسجد وجدرانه ونوافذه بالطراز المعماري للمساجد في البلدان العربية، مع بعض عناصر العمارة الصينية التقليدية.

في الثامن عشر من يوليو عام 2001، تم وضع حجر الأساس لجناح الآثار الإسلامية بمتحف تشيوانتشو للمواصلات البحرية. ويضم هذا المتحف نماذج مختلفة لكافة أنواع السفن التي عرفتها الصين، بما في ذلك السفن التي كانت تستخدم في الملاحة النهرية والسفن الحربية والسفن التي كان يستخدمها المبعوثون الصينيون في رحلاتهم إلى خارج الصين.

بفضل تاريخها العريق في التجارة والتمازج الثقافي والعرقي والديني وحاضرها المزدهر اقتصاديا وثقافيا، فإن تشيوانتشو مؤهلة للعب دور هام في مبادرة "الحزم والطريق" (الحزام الاقتصادي لطريق الحرير وطريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين)، لكونها نقطة انطلاق هامة لطريق الحرير البحري القديم، وبالنظر إلى مستوى التنمية فيها خلال السنوات الأكثر من الأربعين الماضية، منذ تبني الصين سياسة الإصلاح والانفتاح. في عام 2019، بلغ حجم الناتج المحلي الإجمالي لمدينة تشيوانتشو 666ر994 مليار يوان (الدولار الأمريكي يساوي 4ر6 يوانات حاليا)، لتحتل المرتبة الأولى بين مدن مقاطعة فوجيان للعام الحادي والعشرين على التوالي. وخلال السنوات الست الماضية، تسرع تشيوانتشو في بناء "المنطقة التجريبية لطريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين"، وتدفع تبادلاتها الثقافية وتعاونها الاقتصادي والتجاري مع العالم الخارجي وتعزز الترابط بين جميع الدول المشاركة في "طريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين". في عام 2019، بلغ إجمالي حجم الشحن بين تشيوانتشو والدول المشاركة في "طريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين" 281ر2 مليون طن. وفي الفترة من العاشر إلى الحادي عشر من سبتمبر عام 2020، استضافت تشيوانتشو مؤتمر تعزيز العمل الرئيسي لعام 2020 للبناء المشترك لمبادرة "الحزام والطريق".

وتسعى تشيوانتشو لتكون ميناء محوريا دوليا، وتعمل على تعزيز التعاون الدولي في مجال القدرات في الصناعات الناشئة الجديدة مع البلدان والمناطق المشاركة في "طريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين"، وتسهيل التبادلات الثقافية والتعلم المتبادل وزيادة تعميق التبادلات الاقتصادية والتجارية.

يوجد حاليا في تشيوانتشو نحو 220 تاجر أجنبي، يقيمون ويعملون بشكل دائم في المدينة، ومن بينهم تجار عرب ومسلمون. فبالنسبة للمنطقة العربية والدول الإسلامية، فإن تشيوانتشو، الواقعة في جنوبي الصين، يمكن أن تلعب نفس الدور الذي تلعبه منطقة نينغشيا الذاتية الحكم لقومية هوي، الواقعة في شمال غربي الصين، سواء من حيث التبادلات الثقافية والشعبية أو الاستثمار والأعمال التجارية.

---

 

أحمد إسماعيل، باحث مصري مهتم بالشؤون الصينية.

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4