ملف العدد < الرئيسية

ثمار الإصلاح والانفتاح ليست كل الحكاية

: مشاركة
2018-12-10 13:29:00 الصين اليوم:Source هيفاء سعيد:Author

بدون شك، تعد الإنجازات غير المسبوقة التي حققتها الصين خلال العقود الأربعة الماضية أفضل ناطق رسمي باسم مسيرة الإصلاح والانفتاح، التي جعلت من البلاد ثاني أكبر اقتصاد في العالم وقوة كبرى تتجه نحو مركز المسرح العالمي. أينما تلتفت في الصين ترى دليلا حيا هنا وهناك عن ثمار التقدم الناجح لهذه المسيرة. أينما اطلعت وقرأت تبهرك الأمثلة والأرقام والإحصائيات التي تثبت جدوى ونجاح الخطوات الإصلاحية التي اتخذت وتتابعت منذ عام 1978 لتحقيق النهضة التي تشهدها الدولة الصينية.

وضعت هذه الخطوات والإنجازات تحت عدسة مجهر المحللين والدارسين الاقتصاديين والسياسيين الاختصاصيين من أصحاب الشأن والخبرة من مختلف دول العالم، وحظيت بدراسة علمية وإحصائية متخصصة ألقت الضوء على مدى وكيفية تأثير المقاربات الإصلاحية والانفتاحية الصينية المباشر على الواقع الاقتصادي في الصين، وكذلك تفاعلاتها وآثارها على الواقع الاقتصادي العالمي الأوسع نطاقا.

 بالمقابل، ينظر المتابعون من غير ذوي الاختصاص، من قراء وصحفيين ومهتمين، إلى هذه الحقائق والتحولات الجذرية الاقتصادية والاجتماعية بعين الفضول والدهشة، ويتساءلون "ماذا" و"لماذا" و"كيف" لبلد ظل لفترات طويلة غائبا عن الأضواء يتصدر الآن عناوين وسائل الإعلام على اختلاف أنواعها وتوجهاتها، ويستقطب الاهتمام الدولي المتعدد الأبعاد، فتارة ينظر إليه بعين التطلع والتعاون والأمل، وتارة أخرى بعين المنافسة والمواجهة، كونه يتحرك بثبات نحو لعب دور قيادي على مستوى صدارة الساحة العالمية.

البحث عن أجوبة لهذه التساؤلات مهمة شاقة تتطلب التنقيب والتمحيص في تفاصيل وجزئيات مسيرة أربعين سنة من القرارات والعمل والإنجاز والتجديد من المستحيل حصرها، ناهيك عن إدراكها، ضمن سطور مقال واحد أو حتى عشرات أو مئات المقالات أو الكتب. ولكن من الممكن تتبع بعض الخطوط العريضة التي شكلت ملامح أهم حقبة زمنية في تاريخ الصين الحديث، وساهمت في صياغة ما بات يعرف بالنموذج الصيني للتنمية، الذي يفتح نافذة الأمل أمام العديد من البلدان الفقيرة والنامية للاستلهام من التجربة الصينية في محاولة اجتراح حلول لتحقيق نهضتها بما يتناسب مع أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية الخاصة. 

لم يكن القرار التاريخي بالتحول نحو مسيرة جديدة من العمل تحت عنوان الإصلاح الاقتصادي والانفتاح إلى العالم الخارجي قرارا عبثيا، بل مهدت لاتخاذه جملة من الظروف السياسية والاجتماعية التي جعلت منه الحل والمخرج الحتمي والضروري للأوضاع التي كانت تشهدها الصين في ذلك الوقت.

قبل اتخاذ القرار بالشروع بالإصلاحات كانت الصين من أفقر دول العالم. النظام الاقتصادي، الذي كان ساريا لعشرات السنين في الصين وكان قائما على التخطيط المركزي أعاق نمو الاقتصاد وحيويته.

وقد اعتُبرت الخطط الإصلاحية التي صاغها مهندس سياسة الإصلاح والانفتاح دنغ شياو بينغ تغييرا راديكاليا وجذريا في جوهرها. ففي خطاب له في مارس (آذار) من عام 1979، قدم دنغ قراءة واقعية للتوجه الصيني الجديد، حيث ركز على ضرورة الاعتراف بحقيقة الواقع الصيني والتقصير القائم في مجالات البحث في العلوم الاجتماعية كما العلوم الطبيعية بالمقارنة مع دول العالم المتقدمة. أكد دنغ على أهمية الأكاديميين والعلماء لمستقبل التنمية الاقتصادية والمكانة الدولية للصين واعتبر المهنية المعيار الأساسي للترقية. كما أكد على المسؤولية الاقتصادية وإدراج الحوافز في النظام الاقتصادي وتطبيق سياسة الدفع مقابل مقدار ونوع العمل المنجز، وهذا يمثل خروجا كبيرا عن سياسة "القدر الحديدي الكبير" السابقة التي أكدت على المساواة في الأجر رغم تفاوت حجم العمل والأداء. التأكيد على الكفاءة شمل أيضا الدعوة والعمل على تعزيز كفاءة قيادة الحزب من أجل ضمان نجاح الإصلاحات.

تجلى التوجه البراغماتي بصورة واضحة في مواءمة الإصلاحات المنشودة مع ظروف البلاد الحقيقية، وبناء سياسات التطوير الاقتصادي على قاعدة وطنية وعلى أساس المصادر المتوفرة لتحقيق الغاية بمواكبة حاجات الشعب باستمرار. حيث اقتضت الأولوية تأمين النمو السريع في الإنتاج لتحسين معيشة الشعب، وتحفيز الإنتاج الزراعي، وزيادة معدل نمو الصناعات الخفيفة على حساب الصناعات الثقيلة، وسد النقص في مجالات النقل والاتصالات والفحم والحديد والصلب ومواد البناء والطاقة الكهربائية، وتوسيع الصادرات بشكل سريع.

كما ترجمت البراغماتية من خلال السمة الأبرز التي رافقت تطبيق مسيرة الإصلاح والانفتاح، وهي النهج التجريبي والانتقال التدريجي والمنهجي عبر تنفيذ إصلاحات جزئية بطريقة تجريبية في منطقة أو مجال أو قطاع معين، ومن ثم التدرج في توسيعها وتعميمها، عند ثبوت نجاحها وجدواها، لتشمل مناطق ومجالات وقطاعات أخرى.

كانت نقطة البداية هي المجال الزراعي لكونه عماد الاقتصاد الوطني في ذلك الوقت. تم تطبيق نظام المقاولة الذي سمح للأسر الريفية بالانتفاع من الأراضي المملوكة جماعيا وتحقيق الربح مقابل تحصيل كمية محددة من الإنتاج. منحت تلك الأسر استقلالية أكبر في إدارة الأراضي وحرية أوسع في اختيار وإنتاج وإدارة المحصولات الزراعية، كما تم ربط المكافأة بالإنتاج عبر سياسة التحفيز، وإلغاء سياسات توحيد الشراء والحصص والأسعار، وتشجيع المشروعات والمؤسسات الريفية والفلاحية وإنشاء أسواق المزارعين الحرة المدرة للدخل. ساهمت هذه الإجراءات في تحفيز المزارعين للعمل على تقليل تكاليف الإنتاج وزيادة الإنتاجية وتنويع الإنتاج، الأمر الذي نتج عنه توفر أنواع مختلفة من المحاصيل وليس فقط الحبوب، وقلب النتائج السلبية إلى "القفزة العظيمة للأمام".

سياسات الاستقلالية ومبدأ التحفيز والمهنية واللامركزية والمواءمة التي سادت الإصلاح الزراعي التجريبي تم تطبيقها لاحقا على القطاعات الصناعية والتجارية والخدمية والمالية، مما ساهم في تحرير قوى الإنتاج عبر تقليص، وليس إلغاء، تدخل الدولة والحزب في عمليات صنع القرار لدى الشركات وقوى السوق. حيث منح مديري الشركات حرية أكبر للتحكم واتخاذ القرار فيما يخص الإدارة والتوظيف وإنتاج وبيع المنتجات خارج نظام التخطيط، واستخدام نظام التحفيز لمكافأة الإنتاجية الأفضل.

 كما تم إدخال تغيير جوهري فيما يخص الترتيبات المالية عبرالسماح للمؤسسات المملوكة للدولة والحكومات المحلية بالاحتفاظ بالأرباح والإيرادات واستثمارها مقابل دفع ضريبة محددة للدولة.

خلافا للفترات السابقة التي ساد فيها التزام الصين بمحاولة تحقيق الاكتفاء الذاتي، اعتبر دنغ شياو بينغ التجارة الخارجية مصدرا هاما لتمويل الاستثمار واستيراد التكنولوجيا الحديثة، ولذلك تم تخفيف القيود المفروضة على التجارة، وتمت إجازة الاستثمار الأجنبي وإنشاء المناطق الاقتصادية الساحلية الخاصة، التي ساهمت في إنشاء تبادلات بناءة بين الشركات الأجنبية التي تمتلك التكنولوجيا المتقدمة التي تحتاجها الصين وبين كبرى الشبكات الاقتصادية في الصين.

انعكست سياسات الإصلاح على تحفيز التجارة الداخلية كذلك، فتمت إجازة نشاطات السوق الحرة وتنافس الشركات الخاصة، وبدأت حالة من التنافس والتعايش بين نظام الشركات المملوكة للدولة وبين نظام القطاع الخاص والمشترك، الذي نتج عنه توفير خيارات استهلاكية أوسع نطاقا للمواطنين الصينيين.

مساحة اللامركزية وسياسة التحفيز والحرية في اتخاذ القرار فيما يخص موافقات الاستثمار والموارد المالية والسياسات التي منحت للحكومات المحلية والمقاطعات والمحافظات والبلديات كذلك ساهمت في تشجيعها على التجريب والاستكشاف في الإصلاحات في المناطق المختلفة، التي كان يتم اعتمادها لاحقا كسياسات رسمية بعد ثبوت نجاحها.

ساهمت هذه السياسات في توزيع فوائد الإصلاحات على المواطنين ومسؤولي الحكومة المحلية والحزب في آن معا، وسمحت زيادة التحفيز على مواصلة النمو والإنتاج، وأصبح نظام ترقية الموظفين يعتمد بشكل كبير على تحقيق النمو.

أصبحت مقولة دنغ شياو بينغ الشهيرة "تلمس الحجارة عند عبور النهر" أسلوب الصين في الإصلاح الاقتصادي، وكانت هناك عدة أسباب وراء اتباع هذا النهج التدريجي، من بينها السعي لتفادي المعارضة أو التشكيك في سياسات الإصلاح الجديدة من قبل بعض العناصر السياسية. كما كان الإصلاح التدريجي والتجريبي نهجا براغماتيا يناسب البيئة الاقتصادية الضعيفة، الأمر الذي أتاح للسلطات تتبع آثار الإصلاحات وسمح بتطوير واختبار الإجراءات الإدارية والسياسات التكميلية والمهارات اللازمة لتصميم وتنفيذ الإصلاحات، ومن ثم توسيع التجربة عند ثبوت جدواها. كما عززت هذه الإستراتيجية التدريجية مصداقية الإصلاح بمرور الوقت. وهكذا، قامت الصين من خلال الإصلاح التدريجي ببناء نموذج الإصلاح الخاص بها.

خلق هذا المنهج التدريجي دينامية واضحة تمثلت في استمرار سمة المواءمة والبراغماتية في التعامل مع النتائج والتحولات الاقتصادية والاجتماعية المستجدة، من خلال التقييم والمراجعة المستمرة وإدخال التعديلات الضرورية على السياسات المتبعة لتتوافق مع هذه التحولات، التي رافقتها في كثير من الأحيان تحديات صارخة.

تدرجت السياسات من التركيز على زيادة الإنتاجية وتحرير وتحسين نظام السوق والإصلاحات المالية، إلى ضبط النمو السكاني وتحديد النسل وزيادة تحسين الظروف المعيشية للمواطنين، وتوسيع التجارة الخارجية والتعاون الدولي والاستثمار، والعمل على بناء التنمية الاقتصادية على أساس التقدم العلمي والتكنولوجي، والاستثمار في الموارد البشرية من خلال التعليم والتدريب، والعودة أحيانا إلى اتخاذ بعض الإجراءات المركزية في إدارة الاقتصاد وفق الضرورة، وإصلاح نظام توزيع الدخل ونظام الخدمات الاجتماعية، ومحاربة الفساد بكل مستوياته، وإيلاء المزيد من الاهتمام لقضايا الطاقة ونوعية البيئة، وتحقيق التنمية المستدامة.

وهذه السمة البراغماتية مازالت مستمرة حتى الآن ومن غير المحتمل أن تتغير، لأن التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي تشهدها الصين باستمرار ومكانتها المتزايدة عالميا تفرض عليها واقعا متجددا ومتطلبات جديدة وظروفا جديدة تتطلب آليات وسياسات لمواكبتها.

وهنا تبرز أهمية الدور الذي تلعبه القيادة الصينية الحالية، وخصوصا بعد انعقاد المؤتمر الوطني الثامن عشر للحزب الشيوعي الصيني ووصول الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى سدة الحكم، الذي حرص ويحرص على تفعيل النهج الإصلاحي وتجاوز التحديات التي ترافق عملية النهوض الوطني.

فعلى مدى الخمس سنوات التي تلت انعقاد المؤتمر، ارتفع إجمالي الناتج المحلي الصيني من 54 مليار يوان إلى 7ر82 مليار يوان وسجل معدل نمو سنوي يبلغ 1ر7 في المائة، وحافظت الصين على مكانتها كثاني أكبر اقتصاد في العالم وتساهم بأكثر من 30 بالمائة من النمو الاقتصادي العالمي، وتم انتشال أكثر من 68 مليون صيني من الفقر وارتفع المتوسط السنوي لدخل الفرد بنسبة 4ر7 في المائة، كما ارتفع المتوسط السنوي لمستوى التحول الحضري إلى 2ر1 نقطة مئوية مع تأمين أكثر من 66 مليون وظيفة جديدة في المناطق الحضرية، وتم معاقبة عشرات الآلاف من أعضاء الحزب ضمن حملة مكافحة الفساد، بالإضافة إلى تسريع جهود إنشاء نظام لبناء الحضارة الإيكولوجية بما في ذلك التحول إلى مصادر الطاقة البديلة وخفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون.

هذا الانسجام بين سمات المواءمة والبراغماتية والتجريبية في السعي لتحقيق التنمية الاقتصادية المستقرة والتحول إلى الاقتصاد المختلط في الصين تبلور تدريجيا في بناء وتعزيز نهج "الاشتراكية ذات الخصائص الصينية" الذي كان قد اقترحه دنغ شياو بينغ وسارعلى مساره لاحقا القادة الصينيون. ولعل نواة هذا النهج أكثر ما تتمثل في الدمج بين أفضل ما في النظامين الرأسمالي والاشتراكي. فعلى الرغم من التقليص الكبير لمستوى تدخل الحكومة والحزب الشيوعي الصيني في حركة السوق وعملية صنع القرار في العديد من المجالات والمستويات، مازال الحزب يلعب الدور التوجيهي المركزي الفاعل والمؤثر في إدارة العديد من القطاعات ورسم المخطط العام لمسار التنمية والتقدم وقيادة أنماط التنمية الاقتصادية في الصين.

يعود الفضل لهذه القيادة الإيجابية للحزب الشيوعي الصيني في نجاح المسيرة التنموية للبلاد. وإن استمرارية نجاح هذه المسيرة يتوقف بدون شك على نوعية ومدى إيجابية هذه القيادة في المستقبل. ومن هنا تأتى أهمية توجيهات الرئيس شي جين بينغ، الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني، في التأكيد على القيادة المطلقة للحزب وتحسينها عبر محاربة الفساد ضمن مؤسسات الحزب المختلفة لضمان قيادة أفضل لنهج "الاشتراكية ذات الخصائص الصينية".

 

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4