
في ختام الدورة التدريبية الأولى لسلامة الطيران التي نظمتها الصين للموظفين والفنيين الأفارقة سنة 2008

فريق متطوعين صينيين قبل المغادرة إلى زيمبابوي للعمل هناك لمدة سنة

ممثلو منطقة خليج السويس الاقتصادية المصرية يبحثون عن شريك تعاون في مدينة نينغبوه الصينية

مجلة ((السياسة الخارجية))
في نوفمبر سنة 2006، أثناء القمة الصينية الأفريقية عندما استقبلت العاصمة الصينية بكين زعماء أكثر من أربعين دولة أفريقية اجتمعوا مع قادة الصين وفي مقدمتهم الرئيس هو جين تاو، لم يلفت انتباه أجهزة الإعلام الغربية في الحدث الكبير ولم تجد كاميرات التلفزة الغربية إلا صورة رئيس السودان عمر البشير ورئيس زيمباوبي روبرت موغابي لتركز عليهما. وفي ذلك الوقت، دارت أحاديث كثيرة وكتبت مقالات عديدة في صحف ومجلات غربية حول مطامع الصين في أفريقيا. وقد سُئلت آنذاك من جانب وسائل إعلامية عديدة عن الأهداف الخفية لما أسماه البعض "التمدد الصيني" وما وصفه آخرون بـ "الاستعمار الجديد" الصيني لأفريقيا. لم يحظ ما أعلنته الصين من مبادرات عديدة ومشروعات مساعدة للقارة السمراء بشيء من الاهتمام الإعلامي الغربي.
وأستطيع أن أزعم أن الجدل الغربي حول الدور الصيني في أفريقيا سوف يتجدد، ولكن ربما بصورة أقل حدة من جدل سنة 2006، عندما يلتئم المؤتمر الوزاري الرابع لمنتدى التعاون الصيني الأفريقي في مدينة شرم الشيخ المصرية في الفترة من السادس إلى التاسع هذا الشهر، نوفمبر سنة 2009. بل إن معزوفة الاتهامات الغربية للصين استهلتها بالفعل مجلة ((السياسة الخارجية)) التي تصدر في الولايات المتحدة بمقالة يوم 29 سبتمبر هذه السنة، حملت عنوانا لافتا وإن لم يكن جديدا... ((الاستعمار الجديد الصيني China's New Colonialism)) كتبتها خديجة شريف. بدأت المقالة بعبارة مؤثرة .. ارتأت الصين أن تميز نفسها عن الغرب في أفريقيا بالاستثمار في التنمية بدلا من الارتكان إلى وسائل المنح، بيد أن عاقبة ما تخطط له، مؤخرا، في دولة الغابون الغنية بالحديد- سيكون مدمرا تماما مثل أي شيء فعله الغرب هناك". ومضت الكاتبة تقول" إن الصين، بدلا من السير على خطى الغرب وإقامة علاقة منح مع الدول الأفريقية التي تعاني ضائقة مالية، تقوم بمقايضة عوائد التنمية بالموارد الطبيعية، وقد ضخت أكثر من 3ر29 مليار دولار أمريكي في القارة منذ سنة 2002 في مشروعات تنموية تهدف إلى استغلال الموارد المحدودة بتمويل من البنك الصيني للتصدير والاستيراد. إن نظام المقايضة هذا لا يسمح للصين بأن تميز نفسها عن المستعمرين فقط وإنما أيضا بإعادة تعريف ملف مخاطر الاستثمار في أفريقيا مما أتاح للبنك الصيني للتصدير والاستيراد أن يعقد اتفاقا مع البنك الدولي سنة 2007 للتعاون في الاستثمار من خلال مشروعات بناء. ولكن لا تنخدع... فأهداف الصين في الغابون ليست أقل أنانية من والعواقب المحتملة ليست أقل كارثية عن أي مشروع استعماري مضلِل في الماضي".
هذا نموذج من الصورة التي يقدمها الإعلام الغربي لأهداف الصين في أفريقيا.
ولعل السؤال المشروع هنا حقا هو ماذا تريد الصين من أفريقيا وماذا تريد أفريقيا من الصين؟ ولكن الإجابة عن هذا السؤال تقتضي منا أن ننظر إلى الوراء قليلا لنستعرض ما حدث خلال السنوات الثلاث المنصرمة منذ قمة بكين الصينية الأفريقية، حيث جرت مياه كثيرة في نهر علاقات الصين مع أفريقيا في هذه الفترة القصيرة.
في يناير سة 2006، قبل نحو عشرة شهور من قمة بكين، أصدرت الحكومة الصينية وثيقة حددت فيها مبادئ وأهداف ومعالم سياستها تجاه أفريقيا، وسبل وخطط التعاون المستقبلي في مختلف المجالات.
وإذا كانت التجارة في العصر الحديث هي أحد أهم مؤشرات تطور ومتانة علاقات أي طرفين دوليين فإن نمو حجم التبادل التجاري بين الجانبين الصيني الأفريقي خير شاهد على الدفعة الكبيرة التي شهدتها العلاقات الصينية الأفريقية، حيث ينمو حجم التبادل التجاري بين الصين وأفريقيا بنسبة 5ر33% سنويا منذ عام 2000. وفي السنة الماضية كان حجم التبادل التجاري بين الجانبين 8ر106 مليارات دولار أمريكي، أي ضعف رقم سنة 2006 وعشرة أضعاف سنة 2000. والأهم من ذلك أن الميزان التجاري بين الطرفين يكاد يكون معتدلا، فقد كانت قيمة صادرات الصين إلى أفريقيا 8ر50 مليار دولار أمريكي بينما بلغت قيمة وارداتها منها 56 مليار دولار أمريكي. وكانت الصين ألغت سنة 2005، التعريفة الجمركية على وارداتها من بعض منتجات الدول الأفريقية الأقل نموا. فضلا عن ذلك، توجد استثمارات صينية في 49 دولة أفريقية بلغت قيمتها في سنة 2008 فقط نحو مليار دولار أمريكي.
في قمة بكين الصينية الأفريقية 2006 أعلنت الصين ثماني مبادرات لأفريقيا شملت زيادة المعونات المقدمة للدول الأفريقية وإقامة صندوق لتشجيع الشركات الصينية على الاستثمار في أفريقيا وإلغاء الديون عن بعض الدول الأفريقية وإقامة منطقة تعاون اقتصادي وتجاري، وتعزيز التعاون في مجالات تدريب الموارد البشرية والزراعة والصحة والتعليم. الأهم، هو أن هذه المبادرات تم تنفيذها جميعا برغم الأزمة المالية العالمية التي اجتاحت دول العالم ومنها الصين. واللافت في هذا الإطار هو الاهتمام الصيني الكبير بتنمية الموارد البشرية، فلا يكاد يمر يوم إلا وتستقبل المدن الصينية وفودا أفريقية معظم أعضائها من الشباب لتدريبهم في مجالات متنوعة، وقد بلغ إجمالي عدد الأفارقة الذين تلقوا تدريبات في الصين 3400 دارس، مقارنة مع عشرات الطلاب فقط قبل سنين قليلة.
هذه نظرة سريعة على ما تحقق منذ قمة بكين، فماذا تهدف الصين من وراء ذلك؟
تنبغي الإشارة هنا إلى عدة ملاحظات:
الأولى، أن سياسة الصين ما بعد الإصلاح والانفتاح سياسة براغماتية ولكنها ليست نفعية، ومن ثم فإن الصين عندما تكثف تعاونها وعلاقاتها مع أفريقيا، تريد تحقيق مصالح جوهرية ومكاسب حقيقية لها، ولكن في ذات الوقت تحقيق مصالح ومكاسب للطرف الآخر بتعظيم الاستفادة من إمكانيات كل طرف. وفي الحالة الصينية الأفريقية، تتمتع الصين بمزايا نسبية في مجال التقنيات ورأس المال والخبرات الفنية، وتتمتع أفريقيا بتفوق في الموارد الطبيعية وإمكانات التنمية والتطوير والأسواق.
ثانيا، أن الصين لا تنظر إلى أفريقيا من منطلق المصلحة الاقتصادية فحسب، وإنما من منظور شامل في إطار استراتيجي أوسع كثيرا، يشمل مجالات التعاون السياسي على الصعيد الدولي وتأمين إمدادات الطاقة ومكافحة الإرهاب والأعمال الهدامة، وخير شاهد على ذلك هو وجود القطع البحرية الصينية على الشواطئ الأفريقية في الساحل الصومالي، من أجل التعاون مع قوى دولية أخرى في مكافحة عمليات القرصنة في البحر الأحمر. إن تعاظم قوة الصين يعني توسع إطارها الاستراتيجي ليشمل نطاقات أبعد من محيطها الآسيوي وتعتبر أفريقيا، لأسباب عديدة، مجالا حيويا للصين أكثر لينا وأقل مشاكل من مناطق أخرى قد تكون أقرب جغرافيا منها.
ثالثا، أن تاريخ العلاقات الصينية الأفريقية، قديما وحديثا، لم يعرف أي خلافات جوهرية وليس للصين ماض استعماري في أفريقيا ومن ثم فإن علاقات الطرفين تخلو من الحساسية والمخاوف والشكوك.
رابعا، أن هناك تكاملا مثاليا لاقتصادات الطرفين، حيث تتوفر تقريبا لدى كل منهما احتياجات الآخر، فالصين لديها رأس المال والتقنيات وتمر بمرحلة نمو اقتصادي في حاجة إلى موارد عديدة، وأفريقيا أرض بكر للاستثمارات ومتعطشة لتقنيات تناسب ظروفها وإلى شريك دولي يستثمر وينمي ويطور مواردها دون أن تكون له مطامع أبعد من الاستفادة الاقتصادية المشتركة.
الصين تريد إذن من أفريقيا شريكا دوليا يعتمد عليه، وتحتاج الموارد الأولية المتوفرة في أفريقيا وفي مقدمتها النفط، وتريد مجالا أرحب لاستثمار فوائضها المالية التي تبلغ 13ر2 مليار دولار أمريكي وأسواقا لكثير من منتجاتها التي لا تناسب الأسواق الأكثر تطورا في أوروبا وأمريكا الشمالية. ولكن الصين لا تريد ، كما فعلت القوى الاستعمارية الغابرة، أن يكون لها وجود يحمل أي صفة استعمارية ولا تسعى إلى فرض نفوذها وتوجهاتها ومبادئها ونظمها الاجتماعية أو السياسية أو الثقافية في أفريقيا. الصين تريد علاقة تحقق الربح المشترك، أي ما يسمى win- win ولهذا فإن المحاولات الغربية والادعاءات بأن الصين تمارس استعمارا جديدا في أفريقيا لم تفلح في أن تجد من يسمع لها في أفريقيا.
هذا ما تريده الصين، فماذا تريد الدول الأفريقية؟
إن الشعوب الأفريقية التي ذاقت مرارة الاستعباد والاستعمار واستنزاف مواردها، صارت من الوعي والفطنة بحيث يمكنها أن تميز بين من يأتيها رافعا شعارات براقة ويضمر أهدافا خفية ومن يأتيها طالبا المشاركة في ثمار التنمية. إن خبرة الأفارقة مع الغرب خلال مئات السنين علمتهم دروسا عديدة. وأتذكر ما قاله عميد السلك الدبلوماسي الأفريقي السابق لدى الصين إيليه إيليه إتيان، بأن من يروجون لمقولة الاستعمار الصيني الجديد في أفريقيا إنما يهينون أبناء القارة السمراء أكثر، خاصة وأن من يردد تلك المقولات هم الذين مازالت بقايا لحوم الأفارقة عالقة في أظافرهم ومازالت ندوب ظلمهم موجودة في أفريقيا.
ولكن..
هناك عدد من الاعتبارات التي يجب أن تراعيها الصين في علاقتها مع أفريقيا حتى تواصل هذه العلاقات نموها وازدهارها، ولتكون نموذجا لعلاقات صحية سليمة وحيوية بين الدول النامية، ومن هذه الاعتبارات:
أولا، أن تحرص الصين على توعية أبنائها من المستثمرين أو التجار أو العاملين في أفريقيا بمراعاة الحساسية الأفريقية تجاه أي ميول أو نزعات سيطرة أو استعلاء، قد تكون غير متعمدة، ولكنها تترك أثرا بالغ السوء لدى الأفارقة على خلفية ماضيهم مع الاستعمار الغربي؛
ثانيا، أن تتحمل الشركات الصينية العاملة في أفريقيا واجباتها الاجتماعية، وأن تعتبر جزءا من عوائدها وأرباحها حقا للمجتمعات التي تعمل في وسطها، وذلك من خلال تبني مبادرات العمل الخيري في مجالات مختلفة حتى يشعر المواطن العادي في تلك المجتمعات بقيمة الاستثمار الصيني ونفعه له على المستوى الشخصي؛
ثالثا، أن تكون الاعتبارات البيئية في أولويات المشروعات التي تقيمها الصين في أفريقيا، حيث تتزايد الهواجس البيئية يوما بعد يوم على المستوى العالمي، حتى لا تكون البيئة هي الخاصرة الضعيفة للتعاون الصيني الأفريقي؛
رابعا، أن تتجاوز مبادرات الصين لتدريب الكوادر البشرية الإطار الحكومي وتمد تعاونها إلى المؤسسات المجتمعية ومنظمات المجتمع المدني غير الحكومية حتى تحقق التواصل مع كافة فئات وطوائف المجتمعات الأفريقية؛
خامسا، أن تعي الدول الأفريقية أن الصين مازالت دولة نامية وأن هناك حدودا لقدراتها، فلا تطالبها بما يتجاوز إمكانياتها، وأن تنظر إلى علاقتها مع الصين على أنها علاقات تعلم متبادل وعطاء متبادل وليست علاقات منح من جانب واحد، عملا بالحكمة القديمة الجديدة.. "أن تعلمني الصيد خيرا من أن تعطيني السمكة".