جريدة "الأهرام" في 9 أغسطس 2009
كان الدكتور علي الدين هلال معبرا عن الحقيقة المرة، حين قال في لقائه مع طلبة الجامعات إن هناك دولا لا تدين بأي دين سماوي مثل الصين (كونفوشية) والهند (بوذية) وهما أقوى اقتصادين صاعدين في العالم، ومنذ عشرين عاما والصين تحقق معدل نمو يبلغ 14%. ولابد أن نسأل: كيف تقدمت بلاد كثيرة ولم تتقدم الدول العربية والإسلامية؟
وتجربة الصين هي النموذج الذي يمكن أن تتعلم منه الدول النامية، فقد تحولت من دولة فقيرة متخلفة تعاني زيادة السكان إلى أن أصبحت مصنع العالم وتقدمت مائة سنة نحو المستقبل، كما يقول عنها المراقبون الغربيون، وفي أقل من عشر سنوات حققت تطويرا شاملا في التعليم والأبحاث العلمية، وفي الصناعة والتكنولوجيا.
وفي كل مرة أزور فيها الصين أجد كل شيء فيها يتغير وبسرعة مذهلة، مما يدل على قوة وكفاءة الإدارة السياسية لعملية التغيير. وفي آخر زيارة قيل لي إن عودة هونغ كونغ إلى الصين كان التحدي، لأن هونغ كونغ صارت قطعة من أوروبا، واكتشف الصينيون الفجوة الحضارية والتكنولوجية بينها وبين الوطن الأم، وكان ذلك حافزا إضافيا أمام الإرادة السياسية للتغيير.
ولم يقتصر التغيير على الصناعات والأبحاث العلمية وجذب الاستثمارات، لكنه شمل الثقافة والحياة الاجتماعية حتى أصبحت المدن الكبرى قريبة الشبه بالمدن الأوروبية، وتجاوز عدد مستخدمي الإنترنت إلى 300 مليون شخص، وعدد المشتركين في التليفون المحمول إلى647 مليونا، وازدحمت الشوارع بالسيارات بعد أن كانت تزدحم بالدراجات فقط.
حين سألت قادة الحزب الحاكم وكبار المسئولين في الحكومة وبعض من قابلتهم من الصحفيين والدبلوماسيين عن نقطة البداية لتحقيق ما يسميه البعض المعجزة الصينية، كانت الإجابة واحدة: التعليم والبحث العلمي، وقبل ذلك الإرادة السياسية ووضع الخطط والالتزام بتنفيذها بدقة ومحاسبة كل مسئول عن كل تقصير أو إفساد، ولذلك نجح الانفتاح الاقتصادي في تحقيق طفرة في الإنتاج والتصدير في خلال ثلاثين سنة فقط،
وحرصت الإدارة الصينية على أن يكون الانفتاح إنتاجيا ولا يجذب إلا المشروعات الصناعية والتكنولوجية المتقدمة لتساعد على تطوير الصناعات الصينية، ونجحت في جذب الاستثمارات في الصناعة من أوروبا، وجذبت أيضا أموال الجاليات الصينية في الخارج للاستثمار في بلادهم، ولم تمنح الأرض بالمجان ولم تسمح بتمليك الأرض للأجانب، كما لم تمنح إعفاءات من الجمارك والضرائب إلا للمشروعات الصناعية التي تسهم في إدخال التكنولوجيا المتقدمة، وجذبت أعدادا كبيرة من العلماء والخبراء الصينيين المهاجرين في الولايات المتحدة والدول الأوروبية، وتوسعت جدا في إرسال البعثات الدراسية إلى أكبر الجامعات في العالم، ونفذت سياسة ناجحة لغزو الأسواق العالمية بسلع تناسب كل بلد وبأسعار منافسة. ويكفي أن الميزان التجاري بين الصين والولايات المتحدة يميل لمصلحة الصين، والولايات المتحدة مدينة لها بمئات المليارات من الدولارات نتيجة غزو المنتجات الصينية لأسواقها.
ويرفض الصينيون اعتبار نجاحهم في تطوير بلادهم معجزة، ويقولون إنه فقط نتيجة طبيعية للاجتهاد والجدية وتحمل المسئولية، وهذا ما جعل الصين ثالث أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة واليابان، وجعلها تتقدم بخطي واثقة لتكون دولة عظمى وقوة سياسية في النظام العالمي الذي يتشكل الآن. وقد اعترف الرئيس الأمريكي باراك أوباما بأن الصين والولايات المتحدة سيكون لهما التأثير الأكبر في تشكيل العالم في المستقبل القريب!
ومع أن الصين تأثرت بالأزمة الاقتصادية العالمية، مثل كل دول العالم، فإنها كانت أقل تأثرا من غيرها، فقد استمر أربعة ملايين مصنع في الإنتاج بالمعدلات نفسها وفي تصدير الجانب الأكبر من هذا الإنتاج للخارج، واعتبرت الإدارة الصينية الأزمة الاقتصادية العالمية فرصة للصناعات الصينية لكي تبتكر وتتوسع في التصدير لقدرتها علي الصمود والمنافسة، ويضربون المثل بشركة هواوي التي تملك أكبر مصنع في العالم لإنتاج المعدات السلكية واللاسلكية، وتعتبر من الشركات العشر الأكثر تأثيرا في العالم، وتبلغ قيمة مبيعاتها في أنحاء العالم18 مليار دولار أمريكي في السنة، ولها مراكز أبحاث في 14 دولة، وتفخر أن واحدا من كل 6 أشخاص في العالم يستعمل معداتها، ومن المدهش أن هذه الشركة بدأت برأسمال4 آلاف دولار أمريكي في بداية التسعينيات من القرن الماضي كما ذكرت مجلة نيوزويك الأمريكية.
وليست هذه الشركة سوى واحدة من الشركات الصينية التي بدأت صغيرة وتحولت إلى قلاع صناعية، فهناك مثال آخر، وهو مدينة تيانجين التي أصبحت من أكبر المراكز الصناعية تضم عشرات المصانع للشركات العالمية ويصل حجم إنتاجها إلى 940 مليار يوان، وحجم الاستثمارات 3 تريليونات و3 مليارات يوان.
وبنفس العقلية نجح الصينيون في مضاعفة أعداد السياح الأجانب ليصل عام 2020 إلى 167 مليون سائح.