ã

الوجه الآخر.. مرة أخرى

حسين إسماعيل

  منتجات شركة نوكيا في الصين تصدر إلى أنحاء العالم

في الصين الكل يعمل

المبادرات الأسرية جزء من الاقتصاد الصيني

 

لم أعجب لعدد الرسائل التي وصلتني تعقيبا وتعليقا على موضوع "وجه آخر للتجربة الصينية" ولم أدهش كثيرا لتشابه محتواها، فقد صارت الصين، لكثير من العرب، الصندوق السحري الذي يختزن الحلول لكل شيء، حتى ما عجز العلم الحديث عن حله، ولدي قائمة طويلة من الأصدقاء الذين طلبوا مني أن أرسل لهم من الصين قطرة العين التي تشفي ولاصقة الظهر التي تخفف الألم وأدوية وزيوت تطيل الشعر وتنعمه بل وتنبته، وعلاجا للكبد والكلي والقلب الخ، وعبثا أقول إن جحا أولى بجلد ثوره، فإذا كانت تلك الأشياء خارقة للطبيعة وتشفي كل شيء هكذا فالصينيون أولى بها. قبل أيام طلب مني صديق عزيز أن أرسل له من الصين "ينسون" لأنه شاهد في التلفزيون تقريرا أو خبرا يفيد بأن طبيبا صينيا نصح بشرب الينسون الصيني لأنه يساعد في تجنب الإصابة بفيروس أنفلونزا إنش1إن1. سألت عددا كبيرا من الصينيين عن ذلك فضحكوا وقالوا إنهم لم يسمعوا بتلك النصيحة الطبية، وأصر الصديق على أن يأتي الينسون النجمي إليه من الصين. الخيال العربي الواسع يرسم للصين صورة مثالية تنعكس عليها كل آماله وتلبي طموحاته المحبطة في وطنه وفي نفسه، ولكن الصين، كما كتبت وأردد منذ أكثر من خمس عشرة سنة، إن لم تكن الجحيم كما قد يصورها البعض في الغرب فإنها ليست الفردوس كما يتعشم الشرق، أو كثيرون فيه.    

اخترت رسالتين مما وصل إليَّ، أعرضهما ثم أبدي بعض الملاحظات. الرسالة الأولى من القارئ العزيز ملاذ محمد، وهو عراقي يقيم في الأردن يعد بحثا حول التجربة الإدارية الصينية. يقول ملاذ: "تعتبر التجربة الصينية واحدة من التجارب التي أدهشت المجتمع الإنساني في عصرنا الحالي، حيث أحدثت تأثيرا عميقا على شعبها الذي يصل تعداده إلى خمس تعداد سكان العالم ومع ذلك نبقى نحن العرب في جانب آخر من هذه التجارب العملاقة غارقين في أحلامنا وتاريخنا العريق ومتباهين. لقد قرأت مقالتك ((وجه آخر للتجربة الصينية)) في مجلة "الصين اليوم" واستمتعت كثيرا بالأسلوب الرائع ووفرة المعلومات عن الصين وأهميتها، وودت أن أسألك إن كنت تمتلك معلومات قد تفيدني في بحثي الذي أكتبه الآن عن التجربة الإدارية الصينية في المشاريع الصغيرة وأنماط القيادة الإدارية فيها وخصائص الإدارة الصينية.

الرسالة الأخرى للقارئ العزيزعمرو محمد بهجت إبراهيم، الذي لم يذكر جنسيته أو أين يقيم.

يقول عمرو: "أعجبني ما قرأته لكم في المقال الخاص بمجلة "الصين اليوم" والذي يحمل عنوان ((وجه آخر للتجربة الصينية)). وأسمح لي أن أوضح لك تعليقي على ما كتبته بخصوص تلك التجربة.

لست أنا الوحيد الذي يجد انبهارا بما قامت وتقوم به الصين من تقدم في كافة المجالات، وأنا أتابعها باندهاش وإعجاب لما وصلت إليه. وزاد انبهاري بعد قراءتي لمقالكم الرائع عن تلك التضحيات التي قام بها شعب الصين. وأعتقد أنهم يجنون الآن ثمار هذه التضحيات وإعجابي بهذه البلد ليس فقط لما تقوم به،  ولكن لأنها من البلاد التي تمتلك حضارة كبيرة وذات أصول عميقة. ودعني أقول لك إن سر نجاح هذه البلد التي يبلغ تعداد سكانها مليارا وأربعمائة مليون نسمة، هذا السر يكمن في "العمل والانتماء"، فليس مهماً لهم أن تصل، ولكن المهم أن تستمر على نفس الطريق دون كلل أو ملل. ودعني أقول لك سيدي إنه في كل دول الدنيا حينما تقوم ثورة اقتصادية كانت أم سياسية، فمن المؤكد أن يكون لها ضحايا كُثر يخلدون دائماً الذكرى لمرحلة صعبة وقاسية من التضحيات المستمرة، والأهم من ذلك أنهم يعتبرونهم أول من جعلهم فيما وصلوا إليه الآن. وأقول لك إن ما قام به الأجداد والآباء أمس من تضحيات كبيرة يجنى ثمارها الآن الأبناء يرجع – في تقديري الشخصي- إلى كلمة بسيطة ولكنها تحمل في طياتها كل المعاني؛ إنه الانتماء سيدي. هذا هو مفعول السحر لأي أمة، فقط عليك الانتظار أكثر حتى ترى ما ستصل إليه الصين بعد عدد محدود من السنوات القادمة، سيصبح أبناء اليوم آباء الغد وسيتعامل معهم أبناؤهم بكل التقدير والاحترام الذي يحظى به الآباء اليوم. إنها سلسلة سيدي يعرف كل فرد فيها ما له وما عليه وتشجعهم الحكومات المتعاقبة أيا كانت، فهذا نظام يسير عليه كل أفراد المجتمع. وبنظرة بسيطة لدول كثيرة، ولتكن الدول العربية، ورؤية ما بها من تخلف ستعرف الفرق بيننا وبينهم، وحجة عدد السكان الكبير دمرتها الصين من أساسها. سيدي الانتماء والحب من جانب الشعب للدولة، وقبل كل ذلك إحساس المواطن بأن الدولة تفعل من أجله كل شئ ليكون على الأقل راضيا عما هو فيه. ولن أنسى موقفاً قد رأيته بعيني- وإن كان هذا يبعد قليلاً عن الموضوع- في نشرة الأخبار، عندما كان هناك عرض عسكري بدولة كوريا الشمالية وعندما بدأ السلام الجمهوري رأيت بعيني بعض الجنود يبكون بشدة، وهذا أكبر دليل على الانتماء الكامل لبلدهم. فالصين جعلت كل أفراد المجتمع  يعملون كأنهم كيان واحد لهم هدف واحد ومسار واحد يسعون دائماً إلى تحقيقه. المهم أن ترى بنفسك وتشعر بالفارق حتى ولو كان بسيطاً ولكنه الأمل سيدي، هو فقط الأمل فإذا أخذته دليلاً لك سيصل بك إلى ما ترنو إليه. علنا نتعلم!

أما ملاحظاتي فهي:

 أولا، أن معظم الرسائل التي تناولت التعليق على موضوع التجربة الصينية، تشتمل من ناحية على مدح لكل ما هو صيني مرفقا بكلمات من قبيل الدهشة والإعجاب والانبهار والجدية والانتماء، ومن ناحية أخرى، تشتمل على قدح وجلد للذات وبكاء وعويل على ما يعانيه العرب من تخلف وأحلام وأوهام الخ. إن النزعة العاطفية عند العربي وخياله الواسع يجعلانه يتصور أشياء مثالية أو سوداوية، ويرسم خيالا ورديا أو رماديا، ويصدقه. وقد سألني شاب مصري عن صدق ما أكده زميل له من أن الصينيين الذين يسافرون إلى خارج الصين ويبقون هناك للعمل هم في الواقع محكوم عليهم بالسجن وأن الحكومة بدلا من أن تضعهم في سجون داخل الصين، ترسلهم لقضاء العقوبة في بلد آخر. ولسوف يفجع الأصدقاء العرب الذين علقوا على مقالة "وجه آخر للتجربة الصينية" إذا أتيحت لهم فرصة الاطلاع على ما تنشره أجهزة الإعلام الصينية من قصور في أداء أجهزة السلطة ومن فساد ومن فقر ومعاناة، وهذا هو الوجه الآخر للتجربة الصينية التي لابد عند التعرض لها أن نلم بكل جوانبها وأن نعرف تضحيات الشعب الذي نهض بها على أكتافه وأن نسأل أنفسنا، هل نستطيع أن نتحمل تضحيات هذه التجربة، هل نستطيع أن نكظم ما قد نتعرض له من إجحاف وأن نعمل في صمت. أما مسألة الزيادة السكانية، فعلى عكس ما قد يظن كثير من العرب، الصين استطاعت خلال ثلاثين سنة منع إضافة أربعمائة مليون نسمة إلى حجمها السكاني وذلك من خلال التنفيذ الصارم لسياسة تنظيم الأسرة، اقتناعا من الحكومة الصينية بأن الانفجار السكاني أكبر عقبة  على طريق التنمية، ولنا أن نتخيل أن عدد سكان الصين حاليا مليار وسبعمائة وعشرين مليونا وليس مليارا وثلاثمائة وعشرين مليونا، فكيف كان يمكن للحكومة الصينية أن تلبي أحتياجاتهم من مسكن ومأكل ومشرب وعمل. السؤال هو إلى أي مدى يمكن أن يقبل مواطن عربي أن تُلزمه حكومته بأن ينجب طفلا واحدا؟  

 أما مشهد بعض جنود كوريا الشمالية الذين رآهم عمرو بهجت، فهو مؤثر حقا، ولكنه لا ينفي حقيقة أن الشعب في كوريا الشمالية يعيش ظروفا تعيسة وتخلفا يجعلهم مازالوا في القرون الوسطى، ومن من واقع تعاملاتي مع عدد من أبناء كوريا الشمالية، وهم بالمناسبة من الفئات الأكثر حظا بين شعبهم كونهم يعملون في جهات سيادية رسمية، أشك أن الأخ عمرو أو غيره يمكن أن يحتمل الحياة يوما واحدا في هذا البلد الذي يموت فيه الناس جوعا، ولم يصل إليهم حتى الآن اختراع اسمه التليفون المحمول، ولولا مغامرة رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس، الذي قرر أن تنفذ شركته شبكة الاتصالات النقالة هناك، ربما لن يعرف أبناء كوريا الشمالية شيئا عن تليفون ليست له أسلاك. البعض يتوهم أن الناس في كوريا الشمالية أشباه ملائكة أطهار، والحقيقة هي أن فيهم الفاسد وقليل الضمير والمنافق، وقد رأيت ذلك بنفسي.

ثانيا، أن هناك ضبابية عربية كثيرة يغذيها إحباط محلي بشأن ما يسمى بالتجربة الصينية، ويشيع في كثير من الأقطار العربية حديث عن تجربة المشاريع الصغيرة في الصين واعتقاد بأن الصين نهضت على ما يسمى بالمشاريع الصغيرة التي تمولها أو تقيمها الحكومة، والحقيقة عكس ذلك تماما، فالنمو الاقتصادي الذي حققته الصين كان ومازال يعتمد على المشروعات العملاقة التي أقامتها شركات عملاقة متعددة الجنسيات باستثمارات هائلة. وبشكل عام، فإن ما يسمى بالمشروعات الصغيرة في الصين هي شركات أسرية يقيمها أفراد من أسرة واحدة بتمويل يدبرونه من مدخراتهم أو الاقتراض من أصدقاء وأقارب، وهو أمر يختلف تماما عن تجربة تمويل وإدارة المشروعات المتناهية الصغر لعالم الاقتصاد البنغالي محمد يونس، مؤسس بنك جرامين. يكفي أن نعلم أن حوالي 60% من صادرات الصين تنتجها شركات استثمارية أجنبية خالصة أو مشتركة. السؤال للمواطن العربي هو ما إذا كان يمكنه أن يخلق، هو وليس حكومته، بيئة جاذبة للاستثمار الأجنبي وأن يضع جانبا أي عوامل أخرى. وهنا أضرب مثالا من الصين عندما قصفت الطائرات الأمريكية السفارة الصينية في بلغراد سنة 1999 وعندما وقع حادث تصادم طائرة تجسس أمريكية مع طائرة صينية بالقرب من السواحل الصينية، ظهرت أصوات في الصين طالبت بمقاطعة المنتجات الأمريكية، وعلى رأسها سلسلتا مطاعم كنتاكي وماكدونالذز الشهيرتان اللتان تحققان في الصين أعلى مبيعات لهما في العالم، ولكن الصوت الغالب كان رفض هذه الدعوات لأنها تضر في النهاية بالاقتصاد الصيني. هل تسمح ثقافة العربي وعقيدته بأن يضع حدا فاصلا بين ما يعتقده وبين ما يحقق نموا لاقتصاد بلده؟  

ثالثا، أن مسألة الانتماء للوطن، في تقديري، لا تختلف من شعب إلى آخر، فمشاعر الانتماء للوطن أمر طبيعي، ربما تنقص قليلا فتسمى ضعف انتماء أو تزيد قليلا فتسمى تعصبا قوميا، ولكلا الحالتين أسبابهما، ولكن أن يقال إن شعبا ليس لديه انتماء لوطنه فذلك يجافي الطبيعة. ليس ثمة مواطن طبيعي ينقصه الانتماء إلى وطنه. ولكن ينبغي عليَّ هنا أن أشير إلى أن الصين بها منظومة لها جذورها التاريخية ولها أسبابها الاجتماعية والسياسية تجعل المواطن الصيني أكثر حساسية بمسألة الانتماء، وهو الأمر الذي يدفع البعض في الغرب أحيانا إلى اتهام الصينيين بالتعصب القومي. وقد أثار كتاب صدر مؤخرا في الصين بعنوان "الصين غير سعيدة" جدلا واسعا في المجتمع الصيني حول مسألة التعصب القومي، فالكتاب الذي يدعو إلى تعزيز حقوق الإنسان داخليا يدعو أيضا إلى أن تكون الصين قوة عظمى عسكريا على الساحة العالمية وينتقد التدخل الغربي في قضية صعود الصين.

رابعا، أن التجربة الصينية، في تقديري، غير قابلة للاستنساخ عربيا لاختلاف الثقافة والعقيدة والتاريخ. لقد كانت الخطوة الأولى في التغيير الذي قاد إلى التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الصين هي تحرير الفكر، وفقا للرؤية التي وضعها مهندس إصلاح الصين وانفتاحها دنغ شياو بينغ. وأعتقد أن أكبر صعوبة للتغيير في المجتمع العربي هي تغيير الفكر لاعتبارات تتعلق بطبيعة الثقافة العربية والعقيدة والتقاليد في المجتمع العربي. الصينيون على الرغم من حداثة عهدهم بالانفتاح استطاعوا التكيف مع ثقافات دخيلة والتعايش معها، ولكنهم في ذات الوقت لم يفقدوا هويتهم. ولكن يمكن للمواطن العربي أن يتعلم من نظيره الصيني أن يتوقف لفترة عن الشكوى وجلد الذات وأن يعمل بنصف المجهود الذي يبذله في الشكوى وجلد الذات. هذا تحديدا كان الغرض من موضوع (وجه آخر للتجربة الصينية)، وكان سؤالي في النهاية موجها للفرد أكثر مما هو موجه إلى أي جهة رسمية لاقتناع مني بأنه إذا كان القرار الحكومي هو الذي يحدد بوصلة المسيرة فإن الفرد هو الذي يدفع القارب ويحدد سرعته ويتحكم في توازنه. لا قرارات حكومية تحقق وحدها التنمية والتقدم.

 

 

Address: 24 Baiwanzhuang Road, Beijing 100037 China
Fax: 86-010-68328338
Website: http://www.chinatoday.com.cn
E-mail: chinatoday@chinatoday.com.cn
Copyright (C) China Today, All Rights Reserved.

فرع مجلة ((الصين اليوم)) الإقليمي للشرق الأوسط بالقاهرة
رئيس الفرع: حسن وانغ ماو هو
العنوان: 5 شارع الفلاح، المتفرع من شارع شهاب
- المهندسين- الجزيرة- مصر
تليفاكس: 3478081(00202)
  ص.ب208 – الأورمان – الجزيرة – القاهرة – مصر
   الهاتف المحمول: 0105403068(002)
البريد الإلكتروني: kailuofenshe@yaoo.com.cn