ã

ماذا بقي من رابع مايو؟

حسين إسماعيل

تشن دو شيو، أحد زعماء حركة رابع مايو

الزعيم المصري سعد زغلول

شارك الصينيون من مختلف فئات الشعب في احتجاجات الرابع من مايو 1919

طالبات مدرسة السنية في مظاهرات مارس 1919 بالقاهرة

 

لا أحسب أن مهتما بشؤون الصين يمكن، أو ينبغي، أن يجهل حركة الرابع من مايو، التي تُسمى أيضا "حركة الثقافة الجديدة" والتي كانت أول انتفاضة ثقافية، أو تسونامي ثقافي، كما يصفها البعض، في تاريخ الصين الحديث. أقول ذلك لأن هذه الحركة التي يحتفل الصينيون هذه الأيام بمرور تسعين سنة على انطلاقها، صاغت معالم تطور الصين اجتماعيا وثقافيا وسياسيا وفكريا خلال السنوات اللاحقة لانطلاقها، بل ومازال تأثيرها مستمرا إلى اليوم، ولا يستقيم أي تحليل لتاريخ وفكر وثقافة الصين الحديثة دون الرجوع إلى الجذور والبذور التي غرستها حركة رابع مايو.  

بدأت إرهاصات حركة "الثقافة الجديدة" سنة 1916، بعد أن فشلت ثورة عام 1911 في تأسيس حكومة جمهورية دستورية، واستمرت حتى بدايات عشرينات القرن المنصرم. كانت حركة رابع مايو تعبيرا واضحا عن الازدراء الذي شعر به المثقفون الصينيون تجاه الثقافة التقليدية الصينية، إذ اعتبر هؤلاء المثقفون أن الثقافة التقليدية القديمة للصين هي المسؤولة عن الانهيار السريع للصين وخنوعها دوليا، ورأوا أن القيم الثقافية للصين هي التي حالت بينها وبين مسايرة التطور الصناعي والعسكري لليابان وللغرب.

أخذت حركة رابع مايو اسمها من الاحتجاجات الشعبية الواسعة التي وقعت في شهر مايو سنة 1919، عقب الإعلان عن بنود معاهدة فرساي التي أنهت الحرب العالمية الثانية، وقد بدأ تلك الاحتجاجات آلاف من الطلاب تجمعوا في ساحة تيان آن من ببكين، وقد ألقت السلطات القبض على عدد كبير من الطلاب فانضم إلى المظاهرات العمال والتجار في كافة أرجاء البلاد، وفي النهاية أرغموا الحكومة على إطلاق سراح الطلاب ورفض توقيع معاهدة فرساي التي كان من بين بنودها أن تؤول حقوق ملكية لأرض ألمانيا في الصين إلى اليابانيين، وليس إلى الصينيين كما كان متوقعا. تلاحم الغضب الشعبي معا مكونا نزعة وطنية جديدة مع دعوات متكررة من أجل "ثقافة جديدة" تعيد الصين إلى مكانتها الدولية السابقة. اعتقد كثيرون أن المخرج للصين هو اتباع المفاهيم الغربية بشأن المساواة والديمقراطية، والتخلي عن المنهج الكونفوشي الخاص بالعلاقات والطاعة. وصار العِلم والديمقراطية الكلمة الرمز في تلك الفترة.

على الجانب الآخر من الشرق كان هناك فوران اجتماعي وفكري مشابه، ففي التاسع من مارس سنة 1919 كانت مدن مصر تعج بمظاهرات حاشدة لأسباب لا تختلف كثيرا عن أسباب اندلاع مظاهرات الرابع من مايو في الصين. في مصر كان القبض على الزعيم الوطني سعد زغلول ورفاقه الشرارة التي فجرت الاحتجاجات في أنحاء البلاد. وقد أرغمت ثورة الشعب المصري سلطات الاحتلال على إطلاق سراح سعد، وأجبرت بريطانيا على إلغاء الأحكام العرفية في مصر وإصدار تصريح 28 فبراير سنة 1922 باستقلال مصر، ولكنه كان استقلال منقوصا.

      في فبراير سنة 1916، كتب تشن دو شيو، محرر مجلة "الشباب الجديد" الصينية، وهو واحد من زعماء حركة رابع مايو، في مقالة له بعنوان "يقظتنا النهائية"، يرثي ضعف قوة الصين الاقتصادية وحضارتها، ولكنه حذر الذين يظنون أنه من السهل تأسيس الديمقراطية والحكم الدستوري في الصين، قائلا إنه من الضروري أولا تغيير فكر وشخصية الناس، بما يجعلهم مؤيدين للحكم الدستوري، وأكد على أنه بدون ثقافة جديدة لن يكون هناك نظام سياسي جديد. وكتب أيضا: "نحن الذين نعيش في ركن واحد من العالم لعقود عديدة، لابد أن نسأل أنفسنا، ما هو مستوى قوتنا الوطنية وحضارتنا. هذه هي اليقظة النهائية التي أتحدث عنها. بعبارة أخرى، لو أننا نفتح عيوننا وننظر بجد إلى الوضع داخل بلادنا وفي الخارج، ما المكان الذي تشغله بلادنا وشعبنا، وما العمل الذي ينبغي علينا أن نقوم به..؟ يمكن القول إن مهمتنا اليوم هي القتال المكثف بين التيارات الفكرية القديمة والحديثة. أصحاب الرؤية الضحلة، يتوقعون جميعا أن ذلك يقظتنا النهائية، من دون فهم لصعوبة وضع (الحكم الدستوري) موضع التطبيق".

بالإضافة إلى تشن دو شيو (1879- 1942)، رئيس جامعة بكين والمعلم التربوي، كان من رواد حركة "الثقافة الجديدة"، الفيلسوف الصيني وكاتب المقال المشهور هو شي (1891- 1962)، والمعلم التربوي تساي يوان بي (1867- 1940)، وأستاذ التاريخ والمكتبات بجامعة بكين لي دا تشاو (1888-1927).

ويبدو هنا أن جامعة بكين لعبت في النصف الأول من القرن العشرين دور الريادة الثقافية والتحررية في الصين، وقد استمر هذا الدور بشكل أو بآخر في النصف الثاني للقرن العشرين بعد قيام الصين الجديدة سنة 1949.   

خلال التسعين سنة الفائتة ظلت حركة الرابع من مايو محور مناقشات وجدل وخلاف، ذلك أنها اشتملت على تيارات روحية وثقافية ساخنة، كما يقول تشين شياو ينغ، الباحث بالمؤسسة الصينية للدراسات الدولية والاستراتيجية، الذي يرى أن الحركة ليست حدثا بائدا وإنما فكر حي مازال يعبر عن نفسه في جدالات الناس وتأملاتهم بعد كل تحول تاريخي. ومازال الصينيون، جيلا بعد جيل يولون اهتماما للمصير التاريخي للشخصيات التي كانت ناشطة في تلك الحركة، ومازالوا يتخذون من حركة رابع مايو مرآة تنعكس عليها حياتهم الواقعية.

إذن حركة "الثقافة الجديدة" لم تمت بعد مرور تسعين عاما عليها، والسبب كما يقول تشين شياو ينغ هو المبدأ السياسي المصون والمقدس للمجتمع الصيني الحديث. لقد أيقط ناشطو الحركة ملايين الصينيين على روح الوطنية المتحمسة وحققوا حراكا اجتماعيا غير مسبوق من خلال شعارات الحركة، ومنها مثلا "حافظوا على سيادتنا وعاقبوا الخونة". ولأنها كانت حركة جامعة وعميقة لم تشهد الصين مثيلا لها من قبل، صارت مَعْلما في تاريخ الصين الحديث واكتست مغزى طويل الأمد مازال باقيا في الصين حتى اليوم. وضعت الحركة مبادئ سياسية للمجتمع الصيني ولكل السياسيين الصينيين، ورسمت خطا واضحا جليا للرأي العام الصيني للحكم على أداء الشخصيات السياسية والأحزاب والحكومة. بعبارة أخرى وضعت الحركة معايير للتقييم، في مقدمتها الدفاع بحزم عن سيادة الوطن والحفاظ عليها ووحدة الوطن، وعدم التسامح مع وجود أي قوة أو نشاط يستهدف تقسيم البلاد. وتتضمن المعايير انتهاج وممارسة الديمقراطية في السياسة الداخلية وعدم السماح بالاستبداد. كانت الوطنية والديمقراطية المُسَلّمَتين الأساسيتين اللتين وضعتهما حركة رابع مايو. وقد ثبت خلال التسعين عاما الماضية أن كل من حاد عنهما كان مصيره الهلاك؛ من أمراء الحرب في بييانغ حتى عصابة الأربعة في نهاية الثورة الثقافية.

كانت رابع مايو حركة وطنية ولم تكن، كما يرميها البعض، شينوفوبيا (كراهية للغرباء) عمياء وإنما كانت تمزج بين الوطنية والتعلم من الدول الأجنبية، وتميز بين الغزو والإهانة من الدول الأجنبية وبين التعلم من الثقافة الغربية المتقدمة. لم يدافع أنصار الحركة عن التعلم من الدول الأجنبية بشجاعة وانتقائية فحسب وإنما أيضا عارضوا النسخ دون استيعاب. وقد أوضح هذا التوجه بجلاء لو شون، الكاتب الصيني المشهور آنذاك، في رائعته "نا لاي تشو يي" (أخْذُ أي شيء دون تمييز)، معترفا بالحضارة المتقدمة للعالم، ومنتقدا بهدوء الأمة الصينية. تمسكت الحركة بتوجه عقلاني للتعلم من الغرب.

معظم الخلاف حول حركة الرابع من مايو ينطلق من تأثيرها على الثقافة التقليدية الصينية، وخاصة الكونفوشية، فمنتقدو الحركة يطعنون في توجهها الثقافي ويرون فيها هدما للقيم التقليدية الصينية ودعوة للتغرب الأعمى. ولكن رابع مايو، كحركة إصلاحية، لم تدع إلى التخلي عن القديم لمجرد أنه قديم وإنما لأن هذا القديم، ممثلا بالفكر الكونفوشي هنا، تم توظيفه لتخدير الشعب من قبل الحكومات الفاسدة والطغاة وأمراء الحرب الذين تنازلوا عن أرض الصين للقوى الأجنبية. فالمبادئ الأساسية للكونفوشية هي الولاء، طاعة الأهل، الوحدة الأخلاقية، الاستقامة، السلطة المطلقة للحاكم على المحكوم، الوالد على الابن، الزوج على الزوجة. كان طبيعيا أن ينتقد دعاة الحركة هذا الفكر الكونفوشي الذي يضع النظام فوق كل شيء، ويُستخدم في تسويغ الظلم والهوان والتفريط في حقوق الأمة. لم يكن نقد حركة رابع مايو للكونفوشية انسلاخا تاما عن كل القيم الثقافية الصينية التقليدية بقدر ما كان تعبيرا عن القلق وعدم الرضا عن الأوضاع التي سادت الصين في تلك الفترة، وامتداح الحرية الفردية والحكم الدستوري.

استطاعت حركة رابع مايو تعبئة القدرات الوطنية للصينيين وغيرت بشكل كبير طريقة تفكيرهم، أيقظت الأمة الصينية وطرحت أملا لإحياء الحضارة الصينية. اكتشف خلالها المثقفون الصينيون قوة الشعب وراحوا يعبئون الناس لتحقيق خلاص الأمة، ولهذا فإنها كانت نقطة تحول في تاريخ الصين الحديث، من حافة الانزلاق إلى هاوية الاستعمار إلى طريق الخلاص الوطني.  

حركة رابع مايو التي تأججت في بداية القرن العشرين بالصين، لم تكن بعيدة عن فكر وتوجه رهط من الإصلاحيين العرب في ذات الفترة الزمنية، أو قبلها. وأحسب أن دعوة حركة رابع مايو الصينية تتقاطع كثيرا مع دعوة عبد الرحمن الكواكبي (1854 - 1902) صاحب كتاب "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، والإمام محمد عبده (1849-1905م) صاحب كتاب "رسالة التوحيد) والشيخ علي عد الرازق (1888- 1966) صاحب كتاب "الإسلام وأصول الحكم".

في كتابه «تاريخ الأستاذ محمد عبده»، ينقل محمد رشيد رضا عن محمد عبده قوله، "هناك أمر آخر كنت من دعاته والناس جميعا في عمى عنه، وبُعد عن تعقله، ولكنه هو الركن الذي تقوم عليه حياتهم الاجتماعية، وما أصابهم الوهن والضعف والذل إلا بخلو مجتمعهم منه، وذلك هو التمييز بين ما للحكومة من حق الطاعة على الشعب وما للشعب من حق العدالة على الحكومة. نعم كنت فيمن دعا الأمة المصرية إلى معرفة حقها على حاكمها، فقد دعوناها إلى الاعتقاد بأن الحاكم وإن وجبت طاعته، هو من البشر الذين يخطئون وتغلبهم شهواتهم، وأنه لا يرده عن خطأه ولا يوقف طغيان شهوته إلا نصح الأمة له بالقول والفعل. جهرنا بهذا القول والاستبداد في عنفوانه والظلم قابض على صولجانه ويد الظالم من حديد والناس كلهم عبيد له وأي عبيد!"

الآن ونحن في القرن الحادي والعشرين، مازلنا في حاجة إلى فكر وروح ودعوة حركة رابع مايو والإصلاحيين العرب، مازلنا في حاجة إلى أن "نتحدث بشجاعة وننسى المكاسب والخسائر" كما قال لو شون، الذي اعتبر حرية الفرد الشرط الأساسي للفكر الخلاق والحراك الاجتماعي.

 

 

Address: 24 Baiwanzhuang Road, Beijing 100037 China
Fax: 86-010-68328338
Website: http://www.chinatoday.com.cn
E-mail: chinatoday@chinatoday.com.cn
Copyright (C) China Today, All Rights Reserved.

فرع مجلة ((الصين اليوم)) الإقليمي للشرق الأوسط بالقاهرة
رئيس الفرع: حسن وانغ ماو هو
العنوان: 5 شارع الفلاح، المتفرع من شارع شهاب
- المهندسين- الجزيرة- مصر
تليفاكس: 3478081(00202)
  ص.ب208 – الأورمان – الجزيرة – القاهرة – مصر
   الهاتف المحمول: 0105403068(002)
البريد الإلكتروني: kailuofenshe@yaoo.com.cn