ã

من الصحافة العربية

الصين‏..‏ في زمن الأزمة

عبد الله عبد السلام‏

صحيفة "الأهرام" المصرية في 18 نوفمبر 2008

مفارقة مثيرة لاحظتها فور وصولي إلي مطار بكين في زيارة صحفية قصيرة للصين‏..‏ صالات الوصول تمتلئ بأعداد لا حصر لها من الأجانب الراغبين في رؤية الصين الجديدة والتعامل معها وصالات المغادرة تمتلئ بأعداد لا حصر لها من الصينيين المسافرين إلي شتي دول العالم لعرض المنتجات أو عقد الصفقات‏.‏

بكين الآن تشبه نيويورك في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين‏،‏ مدينة تعلن عن بزوغ قوة عظمى جديدة، تسير بثبات وعزم لتحتل المكانة اللائقة بها رغم الأزمات التي تواجهها من حين لآخر‏..‏ وأحدثها الأزمة المالية العالمية‏.‏

بعد خروجي من المطار‏،‏ أعددت نفسي ذهنيا لمواجهة ازدحام لا مثيل له‏، فبكين هي عاصمة دولة المليار و‏300‏ مليون نسمة‏..‏ عاصمة الصين الشعبية وهو المُسمى الذي نطلقه نحن في مصر علي المناطق المزدحمة في القاهرة،‏ وكانت المفاجأة بالنسبة لي أن حركة المرور شديدة اليسر والسهولة ولا يوجد اختناق أو تكدس، لا في السيارات ولا في البشر‏.‏

حركة المرور في بكين، وقد وصلتها يوم ثلاثاء أي منتصف الأسبوع، تشبه حركة المرور في القاهرة يوم الجمعة أو السبت وربما كانت أسهل وأكثر انسيابية.‏
السبب كما قال لي مرافقونا‏، إن السلطات الصينية أقامت شبكة طرق وكباري عملاقة داخل العاصمة بحيث تشعر أنك في مدينة أوروبية أو أمريكية حديثة. ثم أن هناك احتراما يصل إلي درجة التقديس لقواعد المرور‏،‏ فليس هناك من السائقين من يجرؤ على الخروج من هذه الحارة المرورية إلى تلك‏، أو أن يصدر صوتا من سيارته،‏ وإذا حدث وتوقف السائق في مكان غير مخصص لوقوف السيارات،‏ كما حدث لنا‏،‏ ستجد شرطيا يأتي إلى السائق مباشرة ويبلغه بصوت عال تماما أن يغادر المكان على الفور‏..‏ إنه صوت الدولة الذي تشعر به وتلاحظه في كل مكان‏.‏

السبب الآخر لتلاشي أزمات المرور في بكين هو وجود شبكة مترو أنفاق تغطي العاصمة كاملة، وهي مرتبطة بشبكة الأتوبيسات، بمعنى أن من لديه تذكرة أو اشتراك مترو يمكنه أن يستخدم الأتوبيسات، كما في العواصم الأوروبية‏.‏

 

استراتيجية مواجهة الأزمة

وبرغم أن صوت الدولة محسوس في بكين إلا هذا الصوت لا يرتفع سوى عند الضرورة. وهو يرتفع ليصحح خطأ ما أو يعيد الأمر إلى نصابه ثم يعود إلى هدوئه مرة أخرى‏..‏ وهذا هو ما حدث بالضبط عندما وقعت الأزمة المالية العالمية الأخيرة وأصابت دول العالم بالهلع والذعر، خاصة في أوروبا وأمريكا، بحيث شعر الناس كما لو أن حربا عالمية مالية توشك أن تهاجم العالم كله‏،‏ البعض تحدث عن زلزال مالي أو تسونامي يدمر ما يجده أمامه‏.‏

في الصين، كان رد الفعل مغايرا تماما فقد كان الهدوء والثقة وعدم المبالغة من أهم سمات استراتيجية المواجهة الصينية. ويكاد يجمع الخبراء علي أن أهم عناصر قوة الاقتصاد الصيني تتمثل في الكفاءة العالية لأساليب عمل أجهزة وضع وتنفيذ السياسات لإدارة الاقتصاد وفقا لرقابة واعية ودقيقة للتطورات المحلية والإقليمية والدولية‏.‏

وكما يقول السيد أحمد أبو الغيط، وزير الخارجية المصري، الذي رافقناه ضمن وفد صحفي خلال زيارة لإطلاق جلسات الحوار الاستراتيجي المصري ـ الصيني،‏ فإن هذا يثبت خطأ رؤية البعض في الغرب بأن النظام الصيني سوف ينفجر من الداخل أي بسبب أزماته الداخلية‏. ويستطرد الوزير قائلا‏،‏ كلما تطورت الصين اقتصاديا‏،‏ امتد التطور إلى المجال السياسي بشكل يفتح المجتمع تدريجيا‏.‏

ماذا فعلت الصين إذا في مواجهة الأزمة؟ فور اتضاح التباطؤ في معدلات النمو وبروز ملامح الأزمة العالمية‏،‏ اجتمعت لجنة السياسة المالية والنقدية المنبثقة عن مجلس الدولة لوضع تصور متكامل يهدف إلى تحجيم التداعيات السلبية للأزمة العالمية من ناحية، ومواجهة التحديات الداخلية من ناحية أخرى‏.‏

وخلصت اللجنة إلى عدة قرارات، أهمها تخفيف القيود على الائتمان وتحديدا ما يتعلق بإقراض المشروعات الخاصة والإسراع في إعادة هيكلة دور الحكومة لصالح المنشآت الخاصة وتحويل دور الدولة إلى القطاعات الخدمية بشكل كبير، (لاحظ من فضلك أننا نتحدث عن دولة شيوعية كبرى وليس رأسمالية‏).‏ قررت السلطات الصينية أيضا زيادة حجم الاستثمارات في قطاعي الزراعة والتكنولوجيا العالية ورفع الحد الأدنى للمرتبات لشرائح الدخل المنخفض، والهدف هو رفع معدلات الاستهلاك المحلي‏.‏
كما قررت الحد من الصادرات عالية الاستخدام للطاقة مقابل زيادة تلك التي ينخفض مكون الطاقة في إنتاجها. وقررت أيضا تحويل جانب من الصادرات الموجهة للسوق الأمريكية إلى أسواق أخرى لتفادي تداعيات الأزمة في الولايات المتحدة‏.‏
وعلى الصعيد النقدي، تبنت الحكومة الصينية عدة إجراءات فورية لمواجهة الأزمة من أهمها خفض أسعار الفائدة والحد من الارتفاع السريع لقيمة العملة الوطنية (يوان) أمام الدولار الأمريكي وتخفيض القيمة المضافة على العقارات وتخفيض الضريبة المفروضة على الصادرات وزيادة الإنفاق على البنية الأساسية بمقدار‏300‏ مليار يوان عام 2009 (الدولار الأمريكي يساوي‏8ر6‏ يوان)‏.‏

 

الخوف محظور

لكن الصين، وهي تتخذ مثل هذه الإجراءات السريعة، كانت لديها عناصر قوة كبيرة جعلتها تتحرك بشكل هادئ وتبتعد عن التصرفات المصحوبة بالخوف والذعر التي رافقت معالجة الأزمة في دول أخرى عديدة، فالناتج المحلي بلغ ‏6ر3‏ تريليونات دولار أمريكي عام‏2007‏ والصادرات وصلت في نفس العام إلى ‏2ر1 تريليون دولار أمريكي مقارنة بـ‏956‏ مليار دولار أمريكي للواردات، ثم أن تدفق الاستثمار الأجنبي يتواصل، إذ بلغ ‏68‏ مليار دولار أمريكي خلال الشهور التسعة الأولى من عام 2008 بزيادة ‏46%‏ عن نفس الفترة من العام السابق. كما أن الاحتياطي النقدي بلغ‏ 8ر1تريليون دولار أمريكي في نهاية يوليو 2008 ويقترب الآن من ‏2‏ تريليون دولار أمريكي. هذه القوة والمناعة الاقتصادية جعلت رئيس الوزراء الصيني ون جيا باو يقول، إن المحافظة على معدل نمو اقتصادي عال هو المساهمة الأكبر للصين في مواجهة الأزمة العالمية‏.‏ ورغم أن الصين خفضت من توقعاتها للنمو لعام 2008 إلى ‏9%‏ بدلا من 10 أو 11%‏ فإن نسبة الواحد في المائة تلك مهمة للغاية. ويكفي أن نعلم‏، حسب ما يقوله جاستن لين، نائب رئيس البنك الدولي‏،‏ أن كل نمو بنسبة ‏10%‏ في الاقتصاد الصيني يعني نموا بنسبة ‏1%‏ في الاقتصاد العالمي‏‏.‏

لكن ليس معني ذلك كله أن الصين لن تتأثر، فهي بدأت بالفعل تشعر بالتداعيات السلبية للأزمة المالية، وكما يقول السفير محمود علام، سفير مصر في بكين‏،‏ فإن بدايات هذا التأثر هو انخفاض عدد المشاركين في المعارض التجارية الصينية التي تستهدف التصدير وعقد الصفقات مع الأجانب‏، وعلى سبيل المثال‏،‏ فإن معرض قوانغتشو في دورته الأخيرة شهد تراجعا في عدد الزائرين لدرجة أن بعض الأجنحة كانت فارغة تماما‏.‏ كما بدأت بعض المصانع في الاستغناء عن عمالها‏، مما فجر العديد من الاحتجاجات‏.‏

ومع ذلك‏،‏ فإن كل هذا لا يقارن بحالات الانهيار والإفلاس التي أصابت البنوك ومؤسسات المال في الغرب، الأمر الذي طمأن المسئولين الصينيين على أن الطريق الذي يسلكونه حاليا سليم، وأن كل الانتقادات التي تعرضوا لها في السابق من الحكومات الغربية والمؤسسات المالية الدولية بشأن السياسات الاقتصادية والمالية ثبت عدم صحتها‏.‏

وحسب تقرير لمجلة "ايكونوميست" في شهر أكتوبر‏،‏ فإن القيادات الصينية تشعر بالفخر حاليا لكنها لا تريد أن تعلن الانتصار علانية، وهي طلبت من وسائل الإعلام الرسمية عدم المبالغة في الحديث عن قوة اقتصاد الصين وقدرته على مواجهة الأزمة بالمقارنة مع اقتصاديات الدول الأخرى، غير أن أهم دروس الأزمة التي مازالت مستمرة هو أنه عندما تُصاب الولايات المتحدة بالزكام فإنها تطلب من الصين مساعدتها في العلاج‏،‏ وهذا ما اتضح من مناشدات المسئولين الأمريكيين للصين بمساعدة المؤسسات الغربية ماليا على الخروج من أزمتها‏.‏


مشروع الصين العظيم

لقد جاءت الأزمة المالية بينما كانت بكين تواصل إطلاق مشروع الصين العظيم‏، كما يقول السفير علام، وهو يعني أن الصين تعيد تشكيل العالم حاليا بحيث تحتل فيه المكانة التي تناسبها وليس المكانة التي يريد الآخرون أن يضعوها فيها‏.‏

وعندما كانت بكين تستضيف دورة الألعاب الأولمبية، لم تكن مجرد دورة أولمبية بقدر ما كانت حفلة لرفع الستار عن الصين، القوة الجديدة‏..‏ كان التنظيم باهرا والإنجاز الصيني المتمثل في احتلال المركز الأول في الميداليات أكثر إبهارا‏.‏

ثم جاء الإنجاز التالي المتمثل في إطلاق مركبة فضاء صينية وسير ‏3‏ رواد فضاء صينيين على سطح القمر، لتكون بذلك الدولة الثالثة في العالم التي تغزو القمر. إن لكل ظاهرة إشارات وعلامات، ودورة بكين وإطلاق المركبة من علامات نهوض الصين ومازالت الإشارات والعلامات تتوالى‏.‏

غير أن ذلك لا يعني أن الطريق أصبح ممهدا أمام الصين لتسلم زمام القوة والسيطرة والنفوذ في العالم‏، فمازال هناك مئات الملايين من البشر لم يستفيدوا من النهوض الاقتصادي ومازال على القيادة أن تحل معضلة الانفتاح الاقتصادي الكبير في مقابل التحفظ الكبير في الانفتاح السياسي. هناك أيضا مشكلة تايوان‏،‏ وكيف ستعود إلى الوطن الأم.

 

 

Address: 24 Baiwanzhuang Road, Beijing 100037 China
Fax: 86-010-68328338
Website: http://www.chinatoday.com.cn
E-mail: chinatoday@chinatoday.com.cn
Copyright (C) China Today, All Rights Reserved.

فرع مجلة ((الصين اليوم)) الإقليمي للشرق الأوسط بالقاهرة
رئيس الفرع: حسن وانغ ماو هو
العنوان: 5 شارع الفلاح، المتفرع من شارع شهاب
- المهندسين- الجزيرة- مصر
تليفاكس: 3478081(00202)
  ص.ب208 – الأورمان – الجزيرة – القاهرة – مصر
   الهاتف المحمول: 0105403068(002)
البريد الإلكتروني: kailuofenshe@yaoo.com.cn