الدراسة في الخارج

نزيف عقول أم رصيد للمستقبل؟

حسين إسماعيل

الحديقة الصناعية في سوتشو تشجع الدارسين العائدين على الاستثمار بها

مزيد من الصينيين يطلبون تأشيرة دخول بريطانيا للدراسة

إقبال كبير من الصينيين على امتحانات للغة الإنجليزية المؤهلة للدراسة بالخارج

الدراسة وتحصيل العلم تقليد صيني عريق، بدأ منذ عصر فيلسوف الصين ومعلمها الأول، كونفوشيوس، الذي كسر احتكار الطبقة العليا للتعليم عندما أقام أول مدرسة غير حكومية وقبل تلاميذه بدون النظر إلى أصولهم العائلية، في خطوة قد تبدو متناقضة مع دعوته الطبقية إلى الهرمية أو الهيراركية الاجتماعية. اعتبر كونفوشيوس التعليم مثل الماء والهواء، حق لكل إنسان بغض النظر عن وضعه الاجتماعي أو طبقته، ولعله أول صيني اعتبر التعليم أحد الحقوق الأساسية للإنسان. وقد وضع كونفوشيوس هيكل النظام التعليمي القديم في الصين، شاملا الأهداف التربوية والمناهج الدراسية وأساليب التعليم. وارتبط التعليم في العقلية الصينية بارتقاء السلم الاجتماعي، فالأفضل تعليما وعلما لديه فرصة أفضل لتقلد المناصب الرسمية والارتقاء الاجتماعي. وقد تكرس هذا التقليد مع اعتماد نظام الامتحان الإمبراطوري في الصين القديمة، الذي كان السبيل الوحيد لقبول الموظفين والمسئولين الحكوميين. بدأ هذا النظام في السنة السابعة  لعهد الإمبراطور ون دي لأسرة سوي  (618 –907 م) واستمر حتى نهاية أسرة تشينغ (1644- 1911م )، أي أنه دام أكثر من 1300 سنة. وفي العصر الحديث كان عدد كبير من رواد نهضة الصين الثقافية، وزعماء حركة الرابع من مايو الثقافية وقياداتها السياسية، من الذين درسوا في الخارج وخصوصا في الدول الغربية واليابان وعادوا إلى وطنهم، ومنهم صون يات صن زعيم ثورة 1911، الأديب الصيني لو شيون وهو أحد رواد حركة رابع مايو الثقافية سنة 1919 والزعيم الراحل دنغ شياو بينغ.

 ومع قيام الصين الجديدة وارتباطها بالكتلة الاشتراكية كان الاتحاد السوفيتي المقصد الرئيسي للدارسين الصينيين في الخارج، وقد درس هناك عدد من قادة الصين الجديدة، جمهورية الصين الشعبية. وأثناء الثورة الثقافية توقفت تقريبا البعثات التعليمية الصينية إلى الخارج، ولكن مع انتهاج الصين سياسة الإصلاح والانفتاح سنة 1978، عاد الصينيون إلى حلبة الدراسة في الخارج، ومع انفتاح الصين أكثر في السنوات الأخيرة، وتيسيرات السفر التي أدخلتها الحكومة الصينية لمواطنيها يتزايد عدد الطلاب الصينيين الذين يختارون الدراسة في الخارج، وصارت المقاصد المفضلة لديهم هي الولايات المتحدة وبريطانيا واليابان، وحسب أرقام منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) يمثل الطلاب الصينيون 14% من الطلاب الدوليين حاليا، وحسب دراسة نشرتها الجمعية الصينية للخريجين، يختار 40% من الطلاب الصينيين الذين يحققون أفضل نتائج في الامتحان الصيني الوطني للقبول بالجامعات، الدراسة في الخارج. وقد بلغ عدد الصينيين الذين درسوا في الخارج منذ ثمانينات القرن الماضي حتى عام 2006 مليون فرد. ومنذ عام 2002، يخرج سنويا أكثر من مائة ألف طالب صيني للدراسة بالخارج، في حين يرجع إلى الصين ما بين 20 و30 ألفا منهم، وفقا لتقرير للأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية صدر في شهر فبراير 2007. وحسب هذا التقرير أيضا يوجد 35 مليون شخص من أصل صيني يعيشون في أكثر من 150 دولة بالعالم.

وحسب استطلاع أجراه مركز المسوح الاجتماعية التابع لجريدة ((شباب الصين)) في ديسمبر العام الماضي، شمل  2400 من طلاب المرحلة الثانوية، قال أكثر من 80% منهم إن فكرة الدراسة بالخارج تراودهم، مقابل 16% فقط قالوا إنهم لم يفكروا في ذلك. وأرجع 70% منهم سبب التفكير في الدراسة بالخارج إلى: "توسيع الأفق وإثراء التجارب الشخصية"، بينما قال 44% إن السبب هو تخلف المؤسسات التعليمية في الصين مقارنة مع نظيراتها في الخارج. وأعرب 66% منهم عن الرغبة في العودة إلى البلاد بعد الدراسة مسلحين بقدرات تنافسية أعلى، فهم يعتقدون أن فرص العمل للخريجين العائدين من الخارج خلال السنوات الخمس المقبلة ستكون أفضل كثيرا من فرص خريجي الجامعات الصينية. وينبغي هنا توضيح أن كلمة "الخارج" في هذا السياق تعني الدول الغربية المتقدمة، فالدول التي يرغب الطلاب الصينيون عموما الدراسة بها جاء ترتيبها على النحو التالي: الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، أستراليا، كندا، ألمانيا، سنغافورة، كوريا الجنوبية، اليابان ونيوزيلندة.

ولكن الحقيقة هي أنه ليس كل من يخرج للدراسة، سواء على نفقة الدولة أو على نفقته الخاصة، يعود إلى الصين بعد تحصيل العلم والمعرفة، فمن بين المليون الذين خرجوا خلال الثلاثين عاما الأخيرة للدراسة فضل ثلثاهم عدم العودة إلى وطنهم بعد التخرج، وبقوا في الخارج، حيث يعملون في مؤسسات دولية كبيرة. وحسب تقرير للأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية بعنوان ((الكتاب الأزرق حول السياسات العالمية والأمن)) صدر سنة 2007 يوجد 300 ألف صيني يعملون في الصناعات ذات القيمة المضافة العالية في الدول الصناعية.

علينا أن نشير هنا إلى أن ظاهرة هجرة العقول المميزة ليست مقتصرة على الصين، وإنما تشمل عددا كبيرا من الدول النامية، مثل الهند ومصر، فحسب دراسة بعنوان "المشروع القومي لتنمية قاعدة بيانات المصريين المتميزين بالخارج" صدرت عن الجهاز المركزي للإحصاء بمصر سنة ٢٠٠٣ يبلغ عدد العقول المصرية المتميزة علميا بالخارج ٨٣٤ ألفا ، ٣١٨ ألفا بالولايات المتحدة، ١١٠ آلاف في كندا، ٧٠ ألفا في أستراليا، و٣٣٦ ألفا في أوروبا. ويعتبر كثير من الخبراء المصريين هذه الظاهرة نزيفا للعقول وإهدارا لموارد بشرية كان يمكن أن تساهم في نهضة بلادهم. ولكن السؤال هو: هل إذا بقى هؤلاء في بلادهم كانوا سيحققون النجاح والتميز الذي حققوه في الخارج، فهل كان أحمد زويل، صاحب نوبل أو فاروق الباز، العالم الجيولوجي أو مصطفى السيد الحاصل على قلادة العلوم الأمريكية في نهاية سبتمبر 2008 والطبيبان المتميزان مجدي يعقوب وذهني فراج، مصطفى السيد وغيرهم سيصلون ما وصلوا إليه؟

في الصين تختلف الرؤى لتلك الظاهرة، فالبعض يرى أن الصين تخسر كثيرا ببقاء أبنائها النابغين في الخارج يساهمون في بناء دول أخرى، بينما بلادهم تحتاج إلى خبرتهم ومعارفهم، وتتكرر من حيث إلى آخر الدعوات للحكومة الصينية بأن تبذل المزيد لتشجيع هؤلاء الدارسين على العودة. ولكن ثمة رأيا آخر، يذهب إلى أن وجود مزيد من الدارسين والعلماء الصينيين بالخارج يعزز التبادل الأكاديمي بين الصين والدول الأخرى، ويساعدها في الظفر بفرص سباق معرفة أحدث العلوم في الخارج، فأيا كانت نسبة من يفضلون البقاء في الخارج، فإن من يعود منهم يرجع بأحدث العلوم والتكنولوجيا وخبرات الإدارة والعمل، وهو ما تحتاجه الصين بشدة. بل إن أنصار هذا الرأي، يعتقدون أنه في بلد مثل الصين عدد سكانه مليار وثلاثمائة مليون نسمة، وفي ظل مستوى التنمية الراهن، عدد قليل للغاية من السكان لديه الفرصة للدراسة بالجامعات داخل البلاد، ومن ثم فإن الدراسة بالخارج لمن يستطيع تخلق فرصا لعدد أكبر من الدارسين داخل الصين.

بيد أن الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن نمو الاقتصاد الصيني خلال الثلاثين عاما الفائتة جعل من الصين قوة جاذبة لطيورها المهاجرة من العلماء والخبراء، خاصة أن عديدا من مناطق الصين أنشأت ما يسمى بالحدائق الصناعية للعائدين من الدراسة في الخارج، حيث تقدم لهم شروطا تفضيلية في العمل والاستثمار للاستفادة من خبرتهم في إقامة مشروعات تنمية تكنولوجية، وهناك نماذج عديدة لدارسين صينيين أمضوا فترة في الخارج وعادوا إلى وطنهم وحققوا نجاحا كبيرا. فالصين خلال الخمس والعشرين سنة الماضية، على عكس الهند مثلا التي تشكو من "نزيف العقول"، تشجع بطريقة منهجية أفضل عقولها على اكتساب الخبرات القيمة في الخارج، ثم العودة لإقامة مشروعات أو العمل في المواقع الحكومية المميزة. وإضافة إلى الحوافز المباشرة، نجحت الصين في خلق بيئة اقتصادية كلية ديناميكية تغري دارسيها بالعودة. ويلعب الباحثون الصينيون الذين درسوا بالخارج دورا مؤثرا في المشروعات العلمية الصينية الكبيرة، مثل برنامج الفضاء وخريطة الجينوم البشري. والدارسون العائدون هم الذين أسسوا تقريبا كل شركات التكنولوجيا العالية المسجلة ببورصة ناسداك، ومنهم تشارلز تشانغ، مؤسس ومدير أشهر شبكة إنترنت في الصين sohu.com، إدوارد تيان رئيس تشاينا نتكوم، ثاني أكبر شركة تليفونات ثابتة في الصين،، روبين لي المدير التنفيذي لأكبر محرك بحث باللغة الصينية، بايدو، وغيرهم. تسعى الصين بكل السبل للاستفادة من عقولها التي تعلمت في الخارج، وصار العائدون قوة أساسية في كل مجال مهم، فالمؤسسات المالية المهمة، مثل البنك المركزي ولجنة تنسيق البورصة، مليئة بأفراد درسوا في الخارج، يفيدون بلدهم بخبرات عملية تساعد في صياغة النظم والسياسات المستقبلية للصين التي تزايد انخراطها واندماجها في المجتمع الدولي. الجامعات الصينية من جانبها تنفق مبالغ كبيرة لاجتذاب العلماء الصينيين الحاصلين على شهاداتهم الأكاديمية من الخارج، حيث تقدم لهم مزايا في الراتب والإقامة والمعاملات الأخرى. وحسب  البروفيسور فنغ لو، من مركز الصين للبحوث الاقتصادية بجامعة بكين، يتراوح الراتب السنوي للاقتصادي العائد بين ثلاثين وخمسين ألف دولار أمريكي، إضافة إلى المسكن والمعاملات الأخرى.

 كما أن وجود عدد كبير من الشركات المتعددة الجنسيات في الصين عامل آخر لجذب هذه الفئة من العقول المميزة،  حيث خلقت الشركات المتعددة الجنسيات في الصين فرص عمل كثيرة للعائدين بعد الدراسة في الخارج، خاصة مع زيادة عدد مراكز البحث العلمي لتلك الشركات في الصين، فحسب تقرير لمنظمة مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد)، أصبحت  الصين من كبرى مراكز الأبحاث والتطوير في العالم، حيث  تعتبرها 8ر61% من الشركات المتعددة الجنسيات أول  اختيار لها لإقامة مراكزها البحثية في الخارج. ربما لهذه الأسباب، يختلف الأمر بالنسبة للصين والصينيين الدارسين والعلماء في الخارج عن الدول الأخرى، فعقول الصين المهاجرة ليست نزيف عقول بقدر ما هي رصيد للمستقبل.

Husseinismail@yahoo.com    

 

 

 

Address: 24 Baiwanzhuang Road, Beijing 100037 China
Fax: 86-010-68328338
Website: http://www.chinatoday.com.cn
E-mail: chinatoday@chinatoday.com.cn
Copyright (C) China Today, All Rights Reserved.

فرع مجلة ((الصين اليوم)) الإقليمي للشرق الأوسط بالقاهرة
رئيس الفرع: حسن وانغ ماو هو
العنوان: 5 شارع الفلاح، المتفرع من شارع شهاب
- المهندسين- الجزيرة- مصر
تليفاكس: 3478081(00202)
  ص.ب208 – الأورمان – الجزيرة – القاهرة – مصر
   الهاتف المحمول: 0105403068(002)
البريد الإلكتروني: kailuofenshe@yaoo.com.cn