بدأ الصينيون يشربون الشاي الأخضر قبل آلاف السنين، ومازال الشاي من لوازم بيوتهم، مثله مثل الأرز والزيت والملح. والصينيون لا يقدمون الشاي الأخضر مشروبا لضيوفهم فحسب، وإنما يذهبون برفقة الأهل والأصدقاء إلى مقاهي الشاي للاستمتاع بوقت فراغهم، على نحو مشابه للقهوة تماما للعرب. لذا يمكن القول إن مقاهي الشاي التي تنتشر بشوارع مدن الصين تجسد الثقافة الصينية التقليدية أكثر من أي شيء آخر. ولكن بعد أن انتهجت الصين سياسة الإصلاح والانفتاح في بداية ثمانينات القرن الماضي، وفي ظل اقتصاد السوق وظهور المقاهي الغربية في الصين، شهدت مقاهي الشاي الصينية التقليدية ركودا، وباتت حماية وتطوير هذه الثقافة وجعلها تواكب تطور العصر مهمة وطنية. وبعد جهود من جهات مختلفة، عادت تلك المقاهي إلى الشوارع في ثوب حديث وبوجه جديد.
ثقافة قديمة في عصر جديد
قديما، كان مقهى الشاي أكثر من مجرد مكان لتحقيق الربح، بل كان يتحمل وظائف اجتماعية متعددة، فهو صالون يتبادل الناس فيه الأخبار والآراء، وملتقى للتجار وسوق شعبية، وحجرة للدرس، ومطعم ومسرح، وملتقى هواة تربية الطيور الخ. وكان سعر فنجان الشاي رخيصا، لم يكن يتجاوز في مقهى لاوشه بشارع تشيانمن ببكين الذي أنشأه ين شنغ شي سنة 1979، ثلاثة فن، أي نصف سنت أمريكي. في ذلك الوقت كانت شوارع مدن الصين بها الكثير من مقاهي الشاي الأخضر، في ظاهرة مشابهة للمدن العربية.
بعد انتهاج سياسة الإصلاح والانفتاح، تحولت الصين من الاقتصاد المخطط إلى اقتصاد السوق، حيث بدأت كل القطاعات تعمل بهدف الربح، مما أثر على قطاع مقاهي الشاي، فراحت تلك المقاهي الشعبية تخبو ويزول بريقها، وحلت محلها المقاهي التي تستهدف جذب الأثرياء، وصار الشاي الأخضر سلعة كمالية، مثله مثل القهوة في المقاهي الأوروبية، وصار سعر فنجان الشاي يتراوح بين خمسين ومائة يوان (الدولار الأمريكي يساوي 6،9 يوانات)، وفي بعض المقاهي يتم الحساب بالساعة.
ويقال إن عددا من ربات البيوت دخلن وهن حاملات سلال الخضار مقهى ووفو للشاي الذي تأسس سنة 1994، وسألن عن سعر فنجان الشاي فقال النادل: "ثمانين يوانا"، فانصرفن لا يلوين على شيء وهن يسألن أنفسهن: "كيف يمكن لبضعة أوراق من الشاي توضع في ماء مغلي أن تحقق أرباحا هائلة هكذا؟"
بسبب ارتفاع تكلفة شرب الشاي في المقاهي، ومع ارتفاع مستوى المعيشة في الصين وتنوع النشاطات الاجتماعية والاقتصادية، لم يعد الصينيون يمضون وقت فراغهم في مقاهي الشاي، ولكنهم مازالوا محافظين على عادة شرب الشاي، في بيوتهم.
مع قلة عدد الزبائن ركدت مقاهي الشاي منذ بداية الثمانينات وواجهت صعوبات مالية واضطر بعضها إلى الإفلاس، وفي تسعينات القرن الماضي انخفض عدد مقاهي الشاي إلى أدنى مستوى.
في عام 1998، غير مقهى ووفو نظام الإدارة التقليدية، وكان رائد مسيرة إصلاح مقاهي الشاي التقليدية. أعيد تصميم وبناء وترميم المقهى على الطراز القديم وإدخال عناصر حديثة فيه، ونفذ خطة ترويج حديثة تضمنت تقديم كعك وتذكارات مجانية للزبائن لجذبهم، ونشر إعلانا في صحيفة جاء فيه: "نحن نسعى لإحياء ثقافة الشاي القديمة!" وكان أول مقهى صيني ينشر إعلانا في صحيفة.
الخطوات التي اتخذها مقهى ووفو أثارت اهتمام أجهزة الإعلام، فنشرت مقالات عنه وأثنت عليه، كونه "يبرز وينشر ثقافة الشاي الصينية"، فزاد الإقبال عليه باستمرار، لدرجة أن مقاعده لم تكن تكفي الزبائن ويضطر من يأتي متأخرا أن ينتظر.
مدير مقهى ووفو، يانغ تشون وو، قال: "بعد ركود استمر فترة طويلة، استلزمت الظروف في الصين ظهور مقاهي للشاي من نمط جديد، وهذا تحديدا ما فعله مقهى ووفو".
النجاح الذي حققه مقهى ووفو والاهتمام الإعلامي به كظاهرة جديدة أعاد لمقاهي الشاي الأخضر الحياة، وصار افتتاح مقاهي الشاي نشاطا اقتصاديا مربحا يقبل عليه رجال الأعمال. في الربع الأول من عام 2006، تسلمت مصلحة إدارة الصناعة والتجارة ببكين أكثر من ثلاثمائة طلب لافتتاح مقاهي شاي. وحسب إحصاء جمعية بكين للشاي الأخضر، بلغ عدد مقاهي الشاي ببكين في نهاية عام 2004 حوالي سبعمائة، مقارنة مع ثلاثمائة في عام 2001.
الجديد حقا هو ظهور مطاعم الشاي، وهي مطاعم تقدم الشاي الأخضر لزبائنها بجانب قائمة الطعام، ومن تلك المطاعم سلسلة بي فور تايم (Be for Time) ومطعم أر بي تي (RBT) الذي يقع مقره الرئيسي في تايوان.
تشاو دان يانغ، وهو خبير استشارات في شركة فانجياشي للدراسات الاستشارية للشركات، قال: "برغم وجود كثير من مقاهي الشاي في بكين حاليا، قليل منها حجمه كبير أو ذو سمات خاصة، ولهذا فإن المسألة الجديرة بالانتباه هي كيفية تطوير مقاهي الشاي لجعلها ذات خصائص مختلفة".
الاستفادة من ستاربكس
كتب تشنغ دان يانغ، في مدونته على شبكة الإنترنت: " شعرتُ بأن القهوة في السنوات الأخيرة وجدت مكانا لها بجوار الشاي في الصين، وخير دليل على ذلك هو ازدهار سلسلة مقاهي ستاربكس في الصين، التي أرتاد فروعها أحيانا لاحتساء فنجان من القهوة. لكني ما زلت أشعر بأن الشاي الأخضر يروي عطشي بشكل أفضل. وبرغم أن القهوة تفرض تهديدا على الشاي في الصين، ما زال الصينيون يفضلون الشاي الأخضر، ولهذا أتمنى أن تظهر في الصين ماركة مشهورة موحدة لمقاهي الشاي وتعمل بطريقة السلسلة التجارية مثل شركة ستاربكس".
إن عدم وجود ماركة مشهورة موحدة لمقاهي الشاي في بلد الشاي هو المشروب الأول لأهله، أمر عجيب. وفي ذلك يمكن القول إن سلسلة ستاربكس قدمت للصين نموذجا جيدا لتطوير قطاع مقاهي الشاي. قال تشنغ دان يانغ، إن الشاي والقهوة مشروبان لعامة الشعب، وهناك حاجة ضرورية لتطوير مقاهي الشاي، ويمكن تحقيق ذلك من خلال إبراز فائدتها لصحة الناس وإقامة ماركة مشهورة موحدة وتشكيل سلسلة للمقاهي، بالاستفادة من خبرات سلسلة مطاعم كنتاكي (KFC) وماكدونالدز (mcdonalds) ومقاهي ستاربكس، التي تعتبر أقدم ثلاث شركات استخدمت طريقة الإدارة التسلسلية.
تأسست ماركة ستاربكس للمقاهي في عام 1971 في مدينة سياتل الأمريكية، الآن يتجاوز عدد فروعها في العالم عشرة آلاف. قال تشنغ: "القهوة التي تقدمها ستاربكس ليست أفضل قهوة، لكنها الأكثر انتشارا في العالم، تجدها في كل مكان، في ساحات المدن والمراكز التجارية ومحطات البنزين الخ. وأفضل طريقة لتطوير مقاهي في الصين هي الإدارة التسلسلية مثل مقاهي ستاربكس، من خلال إقامة ماركة موحدة وإقامة مقاهي تسلسلية في مدن مختلفة وتوحيد عملية الإنتاج ومعايير مكونات المنتجات وتحديد الأسعار بشكل معقول".
يثق تشنغ أنه بهذه الطريقة ستتحقق فوائد كثيرة، حيث قال: "الفائدة الأولى، ستقدم مقاهي الشاي للزبائن تيسيرات أفضل، حيث يمكنهم احتساء كوب من الشاي بطعم واحد في أي مكان والأهم أن ذلك سيساهم في إبراز وتطوير ثقافة الشاي الصينية."
على العكس من مقاهي ستاربكس التي تدعو إلى نمط الحياة الكمالية المعاصرة، تتحمل مقاهي الشاي في الصين مهمة نشر وإبراز ثقافة الشاي الصينية التقليدية. وأشار المدير يانغ تشون وو إلى أن هذه المهمة جزء هام من أعمال المقهي، حيث قال :"نحافظ على هذه الثقافة والتقاليد بشكل كامل وشامل، بدءا من تقييم نوعية أوراق الشاي وتصنيفها، وصولا إلى طرق تحضير الشاي وتذوق الشاي الجاهز". ويحرص يانغ على أن يستوعب العاملون المعارف حول الشاي الأخضر، لكي يجيبون أسئلة الزبائن، حتى الصعبة منها، كان يسأل زبون مثلا عن أصل تسمية نوعي "إلهة الحديد" و"العباءة الحمراء" من الشاي.
لا تناقض بين الشاي والقهوة
عشاق الشاي في الصين حاليا لا يذهبون إلى المقاهي لري عطشهم، وإنما لأنهم يرغبون في التمتع بالثقافة الصينية التقليدية. المدير يانغ، الذي شغل من قبل منصب نائب مدير فندق خمس نجوم، يدرك الأهمية الكبيرة لإرضاء الزبون، ولذا يذكر العاملين في المقهى دائما بأن "الزبون هو الذي يدفع رواتبهم، وليس المدير".
يعتقد يانغ أن مقاهي ستاربكس ليست منافسا، حيث قال: "يمثل الشاي والقهوة ثقافتين مختلفتين وليس بينهما تناقض، بل إنهما يؤديان مهمة واحدة هي تسلية الناس من مختلف الأعمار والطبقات."
في مقهى ووفو يتم تسجيل بيانات كل زبون عندما يدفع الحساب، بما في ذلك العمر والمهنة والجنس. وبناء على ذلك أقام المقهى منذ سنة 2005 قاعدة بيانات أرشيفية لزبائنه الدائمين، ووجد أن 80% منهم تتجاوز أعمارهم الثلاثين، ويفضلون مكانا هادئا وأنيقا للدردشة مع أصدقائهم أو إجراء المحادثات التجارية.
خلال السنوات الأخيرة، بفضل نظام المقاهي التسلسلية والإنتاج وفقا لمعايير موحدة، تطورت سلسلة مقاهي ستاربكس في الصين بسرعة البرق، مثل معظم الشركات الأمريكية والأوروبية. يانغ معجب بهذا الأسلوب في العمل التجاري، ولهذا حدد معايير موحدة لاختيار وتحضير الشاي وإدارة مقهى ووفو، وينفذه بشكل صارم. حيث عيّن المقهى عددا من خبراء تذوق الشاي ويرسلهم إلى مزارع الشاي في أنحاء الصين ليختاروا أجود أنواع الشاي. بفضل الإدارة الجيدة تطور مقهى ووفو بسرعة واجتذب مستثمرين ورجال أعمال يريدون المساهمة فيه وصار له في الصين 13 فرعا. في العام الماضي قام المدير يانغ بجولة في بريطانيا وأستراليا ولمس بنفسه وجود إمكانات كبيرة لتطوير أعماله في الدول الغربية، فوقع اتفاق نوايا مع حكومتي البلدين، بشأن افتتاح فروع لمقهى ووفو للشاي هناك.