لينتان، موطن طلاب الدراسات العليا المسلمين

كانت جلسة طيبة تلك التي جمعتني بأصدقاء مسلمين على مائدة إفطار رمضاني هذا العام، فقد تحدثنا خلالها، من بين موضوعات عديدة، حول التعليم الإسلامي في الصين، ولفت انتباهي ما أشار إليه الصديق مين جيون تشنغ، طالب الدكتوراه بجامعة القوميات المركزية في بكين، من أن محافظة لينتان بمقاطعة قانسو، مسقط رأسه، تعتبر موطن حملة الدكتوراه من أبناء قومية هوي. أثارتني قصة التعليم لقومية هوي في لينتان، وكان ذلك دافعي للكتابة عن ثقافة المسلمين بتلك المحافظة الواقعة في شمال غربي الصين.

خلال الثلاثين عاما للإصلاح والانفتاح في الصين، وبفضل اهتمام الدولة والمجتمع بالتربية والتعليم، وتخصيص موارد مالية كبيرة للتعليم، وبتأثير من عوامل عديدة، تاريخية وجغرافية وبشرية، تتطور قضية التعليم لأبناء قومية هوي بلينتان بمعدلات أسرع من المعدل الوطني، مما يشكل ظاهرة ثقافية ذات خصائص تعليمية إسلامية تسترعي انتباه دوائر مختلفة.

تقع محافظة لينتان، التي كانت تسمى قديما "تاوتشو"، في جنوبي مقاطعة قانسو، فهي في المنطقة الرابطة بين المنطقة الزراعية ومنطقة الرعي بالطرف الشمالي لهضبة تشنغتسانغ (تشينغهاي- التبت) العالية، وهي منطقة تمتزج فيها ثقافة قومية هان وثقافة قومية التبت. يبلغ متوسط ارتفاعها عن سطح البحر 2825 مترا، وتبلغ مساحتها 68ر1557 كيلو مترا مربعا، وحسب الإحصاء السكاني الوطني عام 2000، يبلغ إجمالي عدد سكانها 8ر146 ألف نسمة، منهم 134 ألفا في الريف، ويقطنها إضافة إلى قومية هان، أبناء تسع أقليات قومية، هي هوي، التبت، منغوليا، دونغشيانغ، تو، مان، مياو، لي، سالار، وتبلغ نسبة أبناء الأقليات القومية 30 % من إجمالي عدد سكان المحافظة، حيث يبلغ عدد أبناء قومية هوي 23 ألف فرد، وتعد محافظة لينتان أكبر محافظة بولاية قومية التبت الذاتية الحكم بجنوب مقاطعة قانسو من حيث عدد أبناء هوي.

بتأثير من حركة الثقافة الصينية الجديدة وتطبيق نظرية التربية والتعليم لنخبة من علماء قومية هوي الإسلامية، تشكل النظام الحديث للتربية والتعليم لقومية هوي بلينتان في أوائل فترة جمهورية الصين (1912- 1949م). وقبل جمهورية الصين أسس السيد ما تشي شي، من قومية هوي، أول مدرسة أهلية إسلامية هي قاعة جينشينغ(مدرسة جينشينغ) في محافظة لينتان، كما أقام دينغ يوي تشيان، ودينغ يانغ ليان، ومين تشي تشينغ وغيرهم من المسلمين المحليين مدرسة قومية هوي  وكانت الدراسة فيها مجانية. خلال فترة جمهورية الصين، وبرغم الصعوبات الجمة، تطور التعليم الحديث لقومية هوي بلينتان تطورا سليما وسريعا، وخرج منه عدد كبير من الشخصيات الهامة  للدولة، وأصبح نظام التربية والتعليم الحديث لقومية هوي بلينتان فرعا هاما للأنظمة الجديدة للتربية والتعليم لقومية هوي على نطاق الدولة في فترة جمهورية الصين. تجاوز تطبيق نظام التربية والتعليم الحديث لقومية هوي بلينتان حدود الجنس والقومية مسايرة لخطوات تطور التعليم الحديث في الصين، حيث امتزج تطوير الثقافة الإسلامية بقضية التعليم لنهضة الدولة. وقد تحملت مهمة تطبيق نظام التربية والتعليم الحديث لقومية هوي بلينتان الجمعيات الإسلامية بلينتان، ويعتبر هذا عملا إبداعيا في تاريخ الإسلام بالصين وتاريخ التربية والتعليم لقومية هوي. من أجل تطبيق نظام التربية والتعليم الحديث لقومية هوي بلينتان ورفع مستوى التعليم، أقامت الجمعيات والمنظمات الإسلامية بلينتان مدارس كثيرة، وعلى سبيل المثال، أقامت شيداوتان(هيئة إسلامية) مدرسة بورن الابتدائية بلينتان سنة 1919، المدرسة الرابعة الابتدائية العالية الأهلية سنة 1922، مدرسة المروج الابتدائية ببلدة لارنقوان سنة 1929، مدرسة تشيشي الأهلية للفتيات سنة 1942، مدرسة تشيشي الإعدادية سنة 1946، والخ.

شيداوتانغ هيئة إسلامية بلينتان تأسست في أواخر أسرة مينغ (1368- 1644م) وأوائل أسرة تشينغ (1616- 1911م)، وقد جمعت شيداوتانغ بين الحضارة الإسلامية وحضارة الصين التقليدية التي يمثلها رئيسيا المذهب الكونفوشي، وأقامت مدارس رسمية لقومية هوي تدرس فيها العلوم الإسلامية إلى جانب المواد الدراسية الوطنية واللغة الإنجليزية، وتقبل التلاميذ من القوميات المختلفة مجانيا، فتخرج فيها دفعات كثيرة من المؤهلين والأكفاء، ووضعت أساسا عميقا للتعليم الحديث لقومية هوي. حتى خمسينيات القرن الماضي تخرج المئات في مدارس شيداوتانغ، والتحق أكثر من عشرة منهم بالجامعات الشهيرة في الصين، مثل جامعة بكين، جامعة تشونغشان، وجامعة لانتشو، وتلقى 60 % من أطفال قومية هوي بلينتان في سن الدراسة التعليم الأساسي.

يوجد حاليا في محافظة لينتان 140 مدرسة متنوعة، بما فيها مدرستان متوسطتان كاملتان (إعدادية وثانوية)، وثلاث مدارس إعدادية (واحدة منها لقومية هوي)، ومدرسة مهنية، وست مدارس مدة الدراسة بها تسع سنوات، و125 مدرسة ابتدائية ( منها 12 مدرسة لقومية هوي)، وثلاث رياض أطفال.

في عام 2004، بلغت نسبة دخول المدرسة للأطفال في سن الدراسة 96 %، وبلغ عدد الطلاب من قومية هوي الذين يدرسون في المعاهد والجامعات للحصول على شهادات الليسانس، الماجستير، الدكتوراه، ما بعد الدكتوراه، حوالي ألفي فرد، يمثلون 10 % من أبناء قومية هوي في محافظة لينتان، وهي نسبة تفوق المعدل الوطني للتعليم في الصين. حتى عام 2003، بلغ عدد خريجي الجامعات من مسلمي لينتان، الذين حصلوا على شهادات الماجستير والدكتوراه وما بعد  الدكتوراه، أكثر من ثلاثين فردا. وفي قرية شيتشوانغتسي لقومية هوي، التي تعتبر قرية متفوقة في التعليم، يظهر في كل خمسين مترا بشوارعها طالب دكتوراه وطالب ماجستير و15 طالبا جامعيا، ويدل هذا على التطور السريع لقضية التعليم الحديث لقومية هوي بلينتان.

خلال مسيرة تحديث تعليم المسلمين  تشكلت خصائص التعليم الحديث لقومية هوي بلينتان، وبزغت ظاهرة ثقافية للمسلمين بلينتان. كان من عوامل ظهورها ما يلي:

1-    العامل الديني

من المعروف أن الإسلام يحض المسلم وغير المسلم على تعلم العلم وتعليمه، بل إن طلب العلم فريضة على كل مسلمة ومسلمة. وتعاليم <<القرآن الكريم>> و<<الحديث الشريف>> حول التعليم والمعرفة والعلماء تعتبر أساس رؤية المسلمين للتعليم. كما أن دعوة الإسلام إلى العلم، يستوي في ذلك المسلم والمسلمة، تمثل قوة دافعة لطلب العلم، سواء العلوم الإسلامية أو العلوم الاجتماعية، مما شكل نظرية التعليم للمسلمين.

2-    العامل البشري والجغرافي

برغم أن محافظة لينتان تقع على حدود  شمال غربي الصين غير أنها تحتل موقعا رابطا بين هضبة التبت وهضبة التراب الأصفر، فتعد بوتقة تجمع بين ثقافة التبت وثقافة هان الصينية، وتتمتع بظروف طبيعية ممتازة لاستقبال الثقافات المتعددة ومعرفة معلومات التجارة. في ظل هذه الظروف الجغرافية الطبيعية واجه أبناء قومية هوي الإسلامية ضغوطا غير منظورة للتأثير الثقافي ونسبتهم بين السكان، وقد جعلت هذه الصعوبات أبناء هوي يهتمون بالتعليم، فقد آمنوا بأنه لا سبيل للتغلب على صعوبات المعيشة والثقافة إلا بتقدم التعليم الإسلامي والتعليم الوطني، مما ساعد على تشكيل نظام التعليم الحديث يوما بعد يوم بين المسلمين، والمنافسة في التعليم بين المناطق التي يقطنها المسلمون بمحافظة لينتان.

3-    العامل التاريخي

أتى أبناء قومية هوي بلينتان من منطقة نانجينغ ذات حضارة هان المزدهرة. ولهم تقاليد متوارثة في الاهتمام بثقافة هان، مما وضع لأبناء قومية هوي بلينتان أساسا متينا لثقافة هان وتشكل تقليدا لاهتمام بالتعليم. وبتأثير من حركة الثقافة الصينية الجديدة وأفكار الإسلام الحديثة حقق أبناء قومية هوي بلينتان نتائج هامة في صياغة نظام تعليمي حديث وجديد لأبناء قومية هوي بلينتان وفتح فضاء لتطوير التعليم المعاصر لقومية هوي مرة أخرى.

4-    العامل السياسي

لكل دولة تقاليد حضارية وسياسية خاصة بها، كما أن لكل مرحلة من مراحل تنميتها فكرها المسيطر الذي يكون له تأثيره على ما تتخذه حكومة هذه الدولة أو تلك من سياسات وقرارات ولوائح لإدارة البلاد وتنظيم حياة مواطنيها. في الصين ومع انتهاج سياسة الإصلاح والانفتاح، تدعم الدولة التعليم العام للمواطنين. وقد شهد تعليم أبناء قومية هوي بلينتان تطورا سريعا بفضل مساعدة وتأييد الدولة.

5-    العامل الفكري

تحديث التعليم يسهم في إرشاد الإنسان إلى إنجاز التغيرات المادية والروحية، وفي الوقت نفسه، تحقيق تغيير الأفكار والسلوكيات البالية إلى أفكار وسلوكيات تتجه صوب المستقبل، فتلك هي الغاية النهائية للتعليم. في الفترة ما بين تأسيس الصين الجديدة وحتى قبيل انتهاجها سياسية الإصلاح والانفتاح، تعطلت العملية التعليمية لأبناء قومية هوي بلينتان فارتفعت نسبة الأميين بين البالغين فوق أربعين سنة. ولكن لأن المسلمين من هوي وغيرها من القوميات الإسلامية يتميزون بالجلد والمثابرة، والمهارة في التجارة، فإنهم يتمتعون بالخير الوافر للسفر كما يحتاجون أيضا العلم والمعرفة. وخلال حراكهم الاجتماعي المتكرر تخلص المسلمون من أفكارهم المنغلقة وصاروا أكثر انفتاحا واهتماما بتعليم أبنائهم.