شاهد على إصلاح الصين وانفتاحها

حسين إسماعيل

مطار العاصمة ببكين في التسعينات

مطار العاصمة ببكين في فبراير عام 2008

الأطعمة الأجنبية متوفر في متاجر بكين

قد يجوز لي أن أعتبر نفسي جزءا، ربما متناهي الصغر، من عملية الإصلاح والانفتاح في الصين التي قطعت مسيرتها ثلاثين عاما، منذ بدئها سنة 1978. مبررات زعمي هذا أنني، أولا، وصلت الصين بعد أربع عشرة سنة من انتهاج سياسة الإصلاح، وأمضيت بها نحو ست عشرة سنة، وهذا يعني أنني قضيت في الصين أكثر من نصف فترة الإصلاح؛ ثانيا، أن الجهة التي أعمل بها منذ وصولي بكين، وهي مجلة ((الصين اليوم))، نموذج حالة للإصلاح، ذلك أن كل شيء في الصين صورة مصغرة للإصلاح والانفتاح؛ ثالثا، أنني، بحكم طبيعة عملي، أتيحت لي فرصة الزيارة المتكررة لأماكن عديدة في أرجاء الصين، ومن ثم رأيت المكان الواحد مرة ومرتين ولاحظت التغيرات التي طرأت عليه.

إنني أقارن بين أول مرة كنت أستعد فيها للسفر من القاهرة إلى بكين، في سبتمبر 1992، وآخر مرة في أكتوبر 2008، لأدرك ما أحدثه إصلاح الصين وانفتاحها. في المرة الأولى كانت الصين بلادا بعيدة، تثير دهشة، وربما شفقة، من يعرف أنني مسافر إلى هناك، بل إن البعض سألني عما إذا كان الطعام متوفرا في هذا البلد الكبير. ولعل من سأل عن ذلك كان مازال متأثرا بما سمع وعلم عن الصين في سبعينات وبداية ثمانينات القرن العشرين، حيث الفقر والعوز ومخلفات الثورة الثقافية. كانت حقيبتي تحمل من بين ما تحمل أرزا وخبزا وبقوليات وأطعمة ومستلزمات أخرى لا أملك إلا أن أضحك من نفسي كلما تذكرت أنني نقلتها من مصر إلى الصين. وعندما هبطت بي طائرة الخطوط الصينية (إير تشينا) في بكين، كان مطار العاصمة الدولي صغيرا متواضع التجهيزات، لا مقارنة بينه وبين مطار دبي الذي توقفت به في طريق الذهاب ولا حتى مطار القاهرة في ذلك الوقت. وعندما وصلنا وانتظم الركاب القادمون في طابور أمام ضابطة الجوازات بدا لي أن رحلتنا هي الوحيدة التي وصلت المطار، حيث لم يكن أمامي غير فردين، ومن خلفي عدد قليل، معظمهم صينيون. في رحلتي الأخيرة، حملت حقيبتي من القاهرة شبه فارغة، إلا من بعض الهدايا التذكارية المصرية، وهبطت بي طائرة مصر للطيران في الصالة رقم 3 بمطار العاصمة، فقد تحول المطار القديم إلى مطار للطائرات الخاصة وأنشئت بالمطار الصالتان الثانية ثم الثالثة، قبيل أولمبياد 2008، وهي تحفة معمارية تكنولوجية بمعنى الكلمة، وصارت الطاقة الاستيعابية لمطار بكين نحو ثمانين مليون فرد سنويا، وتنطلق منه رحلات إلى كل أرجاء العالم تقريبا، وتصله كافة خطوط الطيران الدولية، ومن بينها خطوط أربع شركات طيران عربية؛ مصر، قطر، الإمارات والاتحاد.

في المرة الأولى، كانت معظم عمارات بكين عبارة عن صناديق متلاصقة، وقد أعطاها الصينيون وصف "علب الكبريت"، وكانت الدراجات وسيلة المواصلات الرئيسية وكانت العاصمة محاطة بما يسمى أحزمة الفقر. في السنوات التالية، اكتست بكين وجها جديدا، ارتفعت ناطحات السحاب وتوسعت المساحات الخضراء وتحسنت الطرق وزادت. في سنة 1992 كان في بكين طريقان دائريان فقط، اليوم بها ستة طرق. اختفت العشوائيات داخل المدينة وفي محيطها. ليست عاصمة الصين وحدها التي تغير وجهها، فعندما زرت واحدة من أفقر مناطق الصين، منطقة نينغشيا الذاتية الحكم لقومية هوي، سنة 1998 كانت براثن الفقر مازالت ماثلة، وعندما زرتها آخر مرة سنة 2008 رأيت دنيا جديدة وأملا وطموحا وخيرا كثيرا. رأيت في هذه المنطقة الواقعة في شمال غربي الصين مصانع منتجات التكنولوجيا العالية ومناطق تنمية صناعية وزراعية، وكتبت، في مقال بعد زيارتها، إن الصين بلد لن يجوع أبدا، فكيف يجوع بلد الصحراء والبراري فيه تُزرع وتنتج حبا وعنبا وفاكهة وأبا وحدائق غُلبا؟ 

في رحلة 2008 إلى الصين، لم يدهش أحد عندما عرف أنني مسافر إلى الصين. صارت الصين بلادا قريبة، أصبح من الطبيعي أن تسمع في السوبر ماركت المجاور لبيتك في قرية مصرية أو محل الأدوات الكهربائية في الشارع الذي تقطنه من يقول إنه ذاهب غدا إلى الصين. لم يعد الوجه الصيني غريبا، وعندما يزور صديقي الصيني قو دي مصر مرة ثانية، لن يسأله أحد، كما حدث من قبل: أنت كوري أم ياباني؟ صار الصينيون جزءا من نسيج المجتمع القاهري، مثلما حال الصينيين في عواصم ومدن العالم الأخرى.

عندما وصلت إلى بكين أول مرة، كنت أقطع مسافة تقترب من 20 كم من بيتي لكي أشتري الخبز والجبن والزيتون وغير ذلك من الأطعمة التي لم يكن يأكلها الصينيون، ولم يكن ثمة مقهى إلا في الفنادق الكبرى. الآن محل المخبوزات والمقهى أسفل العمارة التي أقيم بها، والسوبر ماركت الذي يتوفر به الجبن والزبد والطحينة على مرمى حجر. مفردات كثيرة وتفاصيل حياة ربما لا يشعر بها غير الذين عاشوا في الصين بداية تسعينات القرن العشرين والصين أوائل القرن الحادي والعشرين، ولكنها دلالات هامة لما أحدثه الإصلاح والانفتاح في هذا البلد، دلالات تعبر عن نفسها في ملابس الصينيين وزيناتهم وملامح وجوههم وبنية أجسادهم ووسائل انتقالهم وبيوتهم. صارت مدن الصين مدنا كوزموبوليتانية، يختلط فيها البشر من كل ملة ونحلة ولون، وأصبح باستطاعتك في مدن مثل بكين وشانغهاي وقوانغتشو أن تتصل برقم الطوارئ لتجد من يتحدث معك بلغتك العربية أو الأسبانية أو الروسية الخ.

عبرت الصين مرحلة التحول الاقتصادي والاجتماعي، بل والسياسي دون هزات عنيفة. خيبت الصين ظنون من راهنوا على تعثرها وانكسارها، وأنصفت أهلها ومن علقوا آمالهم بها. رسمت الصين خريطة طريق للعديد من الدول النامية؛ مستفيدة من تجارب الدول المتقدمة ومساهمة في سلام واستقرار العالم. تبنت الصين دعوة جديدة، قد تبدو غريبة للبعض، في السياسة الدولية هي الدعوة إلى عالم متناغم. هذه الدعوة التي تجد أصولها في الفكر الصيني القديم، سواء في مفهوم "رن" أي التراحم للكونفوشية أو نظرية "ين ويانغ" للطاوية، أو مفهوم "الكُلية" المحوري في الفلسفة الصينية، تسعى إلى تحقيق التوازن والتناغم بين البشر، وبين الإنسان والطبيعة، فجميع الأشياء تشكل كُلا موحدا. هي دعوة إلى نبذ الصراع والعنف والحروب، دعوة إلى السلام والتنمية. هي أبلغ رد على من يرددون نظرية "التهديد الصيني" و"الخطر الصيني".

في بيتي الثاني، ((الصين اليوم))، أرى الإصلاح والانفتاح مجسدا في هذه المطبوعة الصينية. عندما وصلت مكاتبها في بكين سنة 1992، كان ثمة جدل حول بقاء واستمرار طبعتها العربية. كان هذا الهاجس شاغلا للعاملين بها. وأذكر أنني قلت لواحد من زملائي إن ((الصين اليوم)) العربية سوف تستمر بل وستتوسع وتزدهر أكثر، لسبب بسيط هو أن الصين، الدولة والأمة، تنمو وتزدهر بقوة، وسوف ينمو ويزدهر كل شيء فيها، الرياضة والثقافة والإعلام والفنون الخ. تحولت ((الصين اليوم)) العربية من الصفحات باللونين الأبيض والأسود إلى الصفحات الملونة وصارت تنشر على شبكة الإنترنت، وتحول مكتبها في القاهرة إلى فرع إقليمي في إطار سياسة توطين أجهزة الإعلام الصينية الموجهة للخارج، زاد عدد المطبوع منها وعدد التوزيع وتوسعت مجالات اهتماماتها وأبوابها. صارت ((الصين اليوم)) العربية جزءا من سوق الإعلام في الدول العربية. أقارن بين مقر ((الصين اليوم)) ببكين قبل ست عشرة سنة ومقرها الآن فأدرك ما حدث في الصين؛ فمن حجرات قليلة متواضعة إلى بناية فاخرة مزودة بأحدث نظم المعلومات والإدارة، من فكر جامد وإعلام دعائي في الغالب إلى عقول متفتحة وفكر متحرر وإعلام جديد موضوعي بكل ما تعنيه الصحافة.

تنطلق الصين برا وبحرا وفضاء، فقبل أيام ترك رائد الفضاء الصيني تشاى تشي قانغ آثار قدميه في الفضاء، بعد أن دخلت الصين نادي الفضاء الدولي الذي لم يكن يضم، قبل انضمام الصين، غير دولتين فقط.  

لم تخلو رحلة الثلاثين عاما المنصرمة في الصين من عثرات ومشاكل، فقد أفرزت تلك  المرحلة جُملة من المعضلات التي لم يكن ثمة مفر منها، ولكن القيادة الصينية تعاملت، وتتعامل، معها بحكمة وتدرسها دراسة متأنية وتعالجها بأفضل السبل الممكنة، يشمل ذلك قضايا البيئة والطاقة والبطالة وفجوة الثراء وغيرها.

ثلاثون عاما منذ انتهاج سياسة الإصلاح والانفتاح، حققت خلالها الصين ما حققته دول غيرها في مئات السنين. وتواصل الصين رحلة تنميتها، ويصر قادتها على أنها دولة مازالت نامية وأن الطريق أمامها مازال طويلا للحاق بالدول المتقدمة. غير أن أهم ملامح الإصلاح والانفتاح في الصين، في تقديري، هو أن المواطن الصيني يشعر به ويستفيد منه، فلا قيمة لعمل إن لم ينعكس إيجابا على المواطنين، وتلك هي معضلة التنمية والإصلاح في دول عديدة.

husseinismail@yahoo.com   

 

 

Address: 24 Baiwanzhuang Road, Beijing 100037 China
Fax: 86-010-68328338
Website: http://www.chinatoday.com.cn
E-mail: chinatoday@chinatoday.com.cn
Copyright (C) China Today, All Rights Reserved.

فرع مجلة ((الصين اليوم)) الإقليمي للشرق الأوسط بالقاهرة
رئيس الفرع: حسن وانغ ماو هو
العنوان: 5 شارع الفلاح، المتفرع من شارع شهاب
- المهندسين- الجزيرة- مصر
تليفاكس: 3478081(00202)
  ص.ب208 – الأورمان – الجزيرة – القاهرة – مصر
   الهاتف المحمول: 0105403068(002)
البريد الإلكتروني: kailuofenshe@yaoo.com.cn