بكين مدينتك ومدينتي (4)

تحفة الأسماء في عجائب الأسواق 

حسين إسماعيل

في سوق هونغتشياو، أنت دائما الزبون الأولى بالرعاية

التحف مفروشة على الأرض في بانجيايوان

سوق الحرير يواكب دائما الأحداث الهامة في بكين 

 عن سبب تسمية سوق هونغتشياو بسوق الفلاحين، قال أهل الذكر في بكين، إن هذا السوق ظهر في بداية ثمانينات القرن الماضي كأكشاك صغيرة بل وخرق قماش وخيش تُفرش على الأرض وفوقها بضاعة إلى جوار مبعد تيانتان، وإن الذي بدأه هم  الفلاحون القادمون من خارج بكين، ويحملون لقب "وايدي رن"، أي القادمون من خارج المكان. وكان أول من أقام كشك بيع هنا رجل من مقاطعة تشجيانغ الصينية جاء إلى بكين لبيع اللؤلؤ، فبات اللؤلؤ من السمات المميزة لهونغتشياو، صار بل مرادفا له، إذ يسميه البعض بسوق اللؤلؤ.

الذي حدث هو أن الإقبال زاد على هونغتشياو، لدرجة حولت المنطقة المحيطة بمعبد تيانتان إلى فوضى، وأصيب المرور فيها بشلل تام تقريبا، وكان لابد من حل. في تلك الفترة كانت حكومة بكين تنفذ برنامجا لإزالة كافة الأسواق العشوائية، التي كانت موجودة في كل ركن بالمدينة، ولكنها لم تُلق بباعة تلك الأسواق إلى العراء، وإنما أنشأت لهم أسواقا حديثة متعددة الطوابق ووفرت لها كافة شروط الأمن والأمان فجعلتها أماكن نظيفة، وجعلت شعار "متعة التسوق" حقيقة تلمسها في كل سوق. ولم يكن هونغتشياو استثناء، ففي عام 1995 قامت حكومة العاصمة بإنشاء بناية ضخمة متعددة الطوابق مزودة بسلالم كهربائية وأجهزة وقاية من الحريق ومكان لانتظار السيارات، ونقلت التجار إليه. وتوقع كثيرون أن تلك النقلة الحضارية سوف يصاحبها ارتفاع جنوني في الأسعار، في حين كان انخفاض السعر وتنوع البضائع هما السببان الرئيسيان في رواج تجارة هونغتشياو، ولعل هذا هو السبب في أن السوق لم يشهد إقبالا خلال ستة الشهور الأولى بعد انتقاله إلى البناية الجديدة التي تقع في نفس مكان المقر القديم. ولكن لم تستمر مقاطعة المتسوقين لهونغتشياو طويلا، حيث عاد الزحام إلى سابق عهده. والباعة في هونغتشياو يجيدون تسويق بضاعتهم، برغم أن عددا قليلا منهم فقط درس تخصص التسويق وفنون البيع في المدارس. وفي هونغتشياو، كما في أسواق بكين الشعبية الأخرى، يستطيع البائع أن يجعلك تُخرج نقودك من جيبك راضيا، ويؤكد عليك أن تعود إليه مرة أخرى، وأن تنصح أصدقاءك بأن يأتوا إليه أيضا، وكل بائع منهم يؤكد لك أن بضاعته هي الأفضل، وأنها تختلف عن بضائع الآخرين. ومع كل بائع تشعر أنك المشتري الأولى بالرعاية، وأنه يخصك بمعاملة تفضيلية، والحقيقة أنه شعور صادق، ولكن ليس لديك وحدك فكل مشتر هنا أولى بالرعاية. ومن كثرة تردد الأجانب على السوق بات الباعة فيه خبراء في تمييز الأجناس البشرية، فهم وهن ينظرون إليك ويقولون أنت روسي أو ليبي أو ألماني الخ. وقد تعلم الباعة بضع كلمات من لغات مختلفة، فإن ظنوا أنك عربي رحبوا بك بلغتك وإن كان المتسوق هنديا كلموه بلغته. وأقام بعض الباعة علاقات دائمة مع كثير من الزبائن الأجانب، فترى الزبون يدخل السوق قاصدا صديقه البائع مباشرة، واثقا بأنه سيحصل منه على أفضل بضاعة بأقل سعر. وفي هونغتشياو، كما في كل أسواق بكين الشعبية، لابد أن تتحلى بطول البال والصبر، ليس على المكاره، وإنما على التفاوض والمساومة في السعر. وقد تحولت المساومة على السعر، بالنسبة لي، لفترة، هواية ولعبة ممتعة، ولكنها لعبة تحتاج نفسا (بتسكين الفاء) هادئة، ونفسا (بفتح الفاء) طويلا.

وقد تحول هونغتشياو، وغيره من أسواق بكين المشهورة، إلى مزارات سياحية، وإذا أتيحت لك فرصة زيارة سوق هونغتشياو سترى في صدر المحل رقم 113 صورة معلقة لرئيسة وزراء بريطانيا السابقة، السيدة الحديدية مارغريت ثاتشر، التي حرصت على التجول في ((سوق الفلاحين)) عندما زارت بكين.

ليس هونغتشياو وحده الذي يحمل اسما غريبا، على الأقل بين جاليات معينة في بكين، وإنما أسواق أخرى، فهناك سوق مسعودة، فالجالية العربية في العاصمة الصينية تطلق اسم ((سوق مسعودة)) على واحد من الأسواق الشعبية في بكين، وقد حظي السوق بهذا الاسم نسبة إلى عاملة صينية في إحدى السفارات العربية، اختار لها مستخدموها اسم مسعودة، وهي التي دلتهم على هذا السوق، وهناك سوق ((الأحد)) للأنتيكات والتحف، الذي هو في الحقيقة سوق بانجيايوان وسوق ((الحرامية))، الذي هو في الحقيقة سوق الحرير (شيوي شوي)، الشهير بلقب((سلك ماركت)) ولكل منها قصة وتاريخ.

 كان سوق الحرير عبارة عن حارة ضيقة طويلة تقع بالقرب من حي شيشايوان للسفارات، خلف السفارة الأمريكية ببكين تماما. في تلك الحارة التي لم يكن عرضها يتجاوز المترين كنت تجد كل شيء، إذا كنت من هواة التدافع بالمناكب وتحمُل إفرازات الزحام، خاصة في شهور الصيف. وقد حقق سوق الحرير شهرة بالغة في أوساط الأجانب، بل إن عديدا من الفنادق التي تستقبل وفودا سياحية أجنبية طبعت بطاقات تعريف للسائح بها أسماء أهم المزارات في العاصمة، ومنها سوق الحرير. ومثلما حدث مع هونغتشياو حدث مع شيوي شوي، حيث أقيمت بناية فخمة متعددة الطوابق نُقل التجار إليها، واستمرت الأسعار كما هي، أو زادت قليلا.

أما سوق بانجيايوان للتحف فعالم خاص لعشاق الأنتيكات والتحف الأثرية، وقد تسوقت منه هيلاري كلينتون، سيدة الولايات المتحدة الأولى السابقة، التي سعت لتكون أول سيدة تجلس على عرش الولايات المتحدة الأمريكية. لم يحمل بانجيايوان لقب ((سوق الأحد)) من فراغ. في بداية ثمانينات القرن الماضي، كان أبناء بكين وضواحيها الذين لديهم مقتنيات قديمة أو سلع مستعملة يتجمعون في الأزقة بحي تشاويانغ يوم العطلة الأسبوعية، الأحد، يبيعون ما لديهم في الخفاء، حيث أن هذا النوع من التعاملات كان ممنوعا، فلم يكن مسموحا لشخص ليس مهنته التجارة أن يبيع شيئا، ولهذا كانت هناك حرب خفية بين هؤلاء الناس وأفراد شرطة البلدية. كان هذا السوق المكشوف يُنصب ساعات قليلة في الصباح الباكر وينفض قبل قدوم عسكر البلدية، وقد حمل في تلك الفترة اسما معبرا هو ((سوق الأشباح))، فالباعة فيه كانوا مثل أشباح تظهر وقتا قليلا ثم تختفي. زادت شهرة السوق وازدحمت الأزقة بالمعروض فيها، ولهذا نقل هؤلاء الناس، الذين تحولوا إلى تجار، بضاعتهم في بداية تسعينات القرن الماضي إلى مكان واسع كثير يظلله الشجر بالقرب من جسر بانجيايوان. وفي عام 1994 اعترفت البلدية بالمكان سوقا للتحف والأنتيكات ونقلته عام 1995 إلى مكانه الحالي على مساحة حوالي خمسين ألف متر مربع وأقامت به ثلاثة آلاف كشك يستأجرها الباعة، ليكون أكبر سوق تحف في آسيا، وصار يفتح كل أيام الأسبوع وإن كان مازال يحمل اسم سوق الأحد. وصار بانجيايوان من معالم بكين ومزاراتها السياحية. وأثبتت بكين أنها مدينة تفتح أبواب ونوافذ الرزق لأهلها، فشهد السوق تحسنا يوما بعد يوم وزود بمستلزمات الأمان ومكافحة الحرائق وغيرها. وفي بانجيايوان يؤكد لك الباعة أن البضاعة أصلية وأن الزهرية التي تفحصها يرجع زمنها إلى أسرة مينغ، والحقيقة أن مهارتهم في التقليد تجعل من الصعب حتى على ذوي التجربة أن يميزوا بين الأصلي والمقلد، فهم مثلا  ينقعون البرونز في حامض ليصدأ، فتبدو التحفة قديمة، وقد اشتريت من أحدهم نموذجا مصغرا للعربات الحربية المكتشفة في حفر التماثيل الصلصالية للجنود والخيول في ضريح الإمبراطور تشين شي هوانغ، وأكد البائع أن التحفة أصلية، وكان مظهرها حقا يوحي بقدمها، وظننت أنني ظفرت بصفقة مربحة، فقد دفعت فيها ثمنا هينا، ولكن اكتشفت لاحقا أنني خدعت خدعة يُضرب بها المثل. وهناك من يجتهد بتقديم نصائح للتمييز بين الأصلي والمقلد، فيقول أحدهم إنه لكي تعرف تحفة الأثاث الأصلية من المقلدة، فإن الأصلية تكون أثقل وعندما تطرق علي الألواح تصدر أصواتا مختلفة، ولكن ثبت، على الأقل بالنسبة لي، أنها نصائح لا تفيد كثيرا، ولعل النصيحة الناجعة هي أن تذهب إلى هذا السوق وفي يقينك أنك ستشتري تحفة مقلدة، ستكون رائعة الجمال بدون شك، ولكن لا توهم نفسك بأنك اقتنيت كنزا عمره مئات السنين.

هذه الأسواق بكل إغرائها وجمال بضاعتها التي تغوي السائح تجعله يخرج نقوده من جيبه راضيا مرضيا سعيدا، وحسب السلطات السياحية في العاصمة الصينية كان متوسط إنفاق كل سائح أجنبي في بكين العام الماضي 1033 دولارا أمريكيا كثير منها في الأسواق، وحيث أن العاصمة استقبلت نحو أربعة ملايين سائح أجنبي عام 2006، يكون إجمالي ما أنفقوه أربعة مليارات دولار أمريكي، وهو رقم يقترب من إجمالي الدخل السياحي لدولة سياحية كبيرة، مثل مصر، من السياحة الأجنبية. وبكين تجذب السياح المحليين أيضا، فقد زارها العام الماضي  حوالي مائة وثلاثين مليون فرد من أقاليم الصين الأخرى، أنفقوا فيها ما يقرب من عشرين مليار دولار أمريكي.

 

 

 

 

 

 

Address: 24 Baiwanzhuang Road, Beijing 100037 China
Fax: 86-010-68328338
Website: http://www.chinatoday.com.cn
E-mail: chinatoday@chinatoday.com.cn
Copyright (C) China Today, All Rights Reserved.

فرع مجلة ((الصين اليوم)) الإقليمي للشرق الأوسط بالقاهرة
رئيس الفرع: حسن وانغ ماو هو
العنوان: 5 شارع الفلاح، المتفرع من شارع شهاب
- المهندسين- الجزيرة- مصر
تليفاكس: 3478081(00202)
  ص.ب208 – الأورمان – الجزيرة – القاهرة – مصر
   الهاتف المحمول: 0105403068(002)
البريد الإلكتروني: kailuofenshe@yaoo.com.cn