ã

نينغشيا

خمسون عاما والحلم يتواصل

استطلاع: حسين إسماعيل

 حسين إسماعيل(الوسط) في اجتماع مع مسئولي منطقة نينغشيا 

في مصنع شياوجورن، في ينتشوان

صورة جماعية لأعضاء وفد بيئي عربي في محمية بايجيتان الطبيعية

 

تقع منطقة نينغشيا الذاتية الحكم لقومية هوي في الشمال الغربي للصين، بالمجاري العليا والوسطى لنهر هوانغخه (الأصفر). وهي تربط بين المنطقة التي تسمى قوبي (صحراء غوبي) في منطقة منغوليا الداخلية وهضبة هوانغتو (التراب الأصفر). تبلغ مساحة نينغشيا حوالي 66 ألفا وخمسمائة كيلومتر مربع، ويبلغ عدد سكانها ستة ملايين ومائة ألف نسمة، 35% منهم ينتمون لقومية هوي.

عندما زرت نينغشيا للمرة الأولى، كانت تحتفل بذكرى مرور أربعين سنة على تأسيس المنطقة الذاتية الحكم بها، وكان عنوان التحقيق المطول الذي كتبته بعد هذه الزيارة ونشرته "الصين اليوم" في عدد شهر سبتمبر 1998 "إنجازات وأحلام ومشاكل". وقد زرت نينغشيا للمرة الثانية قبل ثماني سنوات، ولاحظت تغيرا محدودا بها، ولعل فترة السنتين بين الزيارتين لم تكن كافية لظهور مشاهد لافتة. في زيارتي الثالثة للمنطقة، بعد عشر سنوات من الزيارة الأولى، لاحظت خلال الأيام العشرة التي أمضيتها بها في النصف الثاني من شهر يونيو 2008، من أقصى شمالها إلى جنوبها، أن الإنجازات زادت كثيرا وأن المشاكل قلت إلى حد كبير، ولكن التحديات مازالت قائمة ومع ذلك الأحلام تتوالد.

في الساعة الواحدة وخمسين دقيقة بعد ظهر الثامن عشر من يونيو هبطت الطائرة التي أقلتنا من بكين إلى ينتشوان، حاضرة المنطقة، حيث رأيت مطارا جديدا جميلا. وعلى طريق ينكو الممتد عشرين كيلومترا من المطار إلى وسط المدينة حيث فندق هونغتشياو (جسر قوس قزح) الذي نزلنا به، لفت انتباه القادمين من العاصمة الصينية شجر الحور الوارف الظل؛ فاللون الأخضر في نينغشيا الصحراوية لا بد أن يكون له وقع آخر.

 

استراتيجية تنمية الغرب ليست كلاما أجوف

عندما أعلنت الحكومة الصينية في يناير عام 2000 استراتيجية التنمية الكبرى للمنطقة الغربية، ربما ظن البعض أن الأمر مجرد كلام في مواجهة حديث صاخب حول فجوة التنمية المتزايدة بين جنوبي الصين الذي يزداد ثراء وتقدما وشمالها الغربي المتخلف الفقير. ولكن ما شهدتُه في نينغشيا، يؤكد أن حكومة الصين جادة في خطتها لتنمية المناطق الغربية لتقلل الفجوة بينها وبين مناطق الساحل الجنوبي والشرقي المتقدمة.

بعد وصولنا وقبل أن نبدأ جولتنا في أنحاء نينغشيا، جلس معنا مسئولو الإدارات الرئيسية في حكومة نينغشيا وقدم كل منهم عرضا لإنجازات إدارته وخطتها للمستقبل، وكان مدهشا، على الأقل بالنسبة لي، أن متوسط زيادة إجمالي الدخل المحلي للمنطقة زاد في السنوات الأخيرة بنسبة 12% وأن متوسط دخل الفرد ارتفع بنسبة 10% سنويا. وقد أدركت حكومة المنطقة أهمية الحفاظ على البيئة، فجعلت تقليل نسبة الانبعاثات على قمة أولويات عملها سنة 2007، وفي نهاية تلك السنة وصلت جودة مياه نهر هوانخه (النهر الأصفر) في نينغشيا الدرجة الثالثة وفقا للمعايير الصينية، وجودة هواء المنطقة الدرجة الثانية حيث انخفضت الانبعاثات بنسبة 44ر3%.  ويرتبط هذا بجهود المنطقة في مكافحة التصحر، حيث أن 8ر22% من مساحة نينغشيا أرض رملية، وقد أنفقت حكومتها حوالي 6 مليارات يوان على مكافحة التصحر وحولت أكثر من مائتي ألف هكتار صحراء إلى واحات، وزرعت عشرة ملايين شجرة سنويا في عشر قواعد للتشجير، وقد بلغ عدد المشاركين في هذا العمل 200 ألف فرد. الأكثر هو الاستفادة من الرمال وتحويلها من عبء إلى ثروة بتصنيعها.

 

تنمية نعم، تدمير للبيئة لا

في مدينة شيتسويشان، الواقعة شمالي المنطقة، نموذج تطبيقي لذلك يتجسد في مصنع للسيليكا باستثمارات صينية- سنغافورية مشتركة. المصنع يطبق مفهوم الاقتصاد الدوري من خلال سلسلة من الصناعات التي تستخدم كل منها مخلفات الصناعة الأخرى، فحجر السيليكا المتوفر بالمنطقة يستخدم في صناعة بلورات السيلكا وتذهب مخلفاته إلى محطة للطاقة، ومخلفات المحطة تستخدم في صناعة الأسمنت. لا فاقد ولا تلوث.

النموذج الآخر هو بحيرة شينغهاي بمدينة شيتسويشان، حيث تم تطهيرها من كافة الملوثات للحفاظ على النظام البيئي لمنطقة مساحتها 23 كيلومترا مربعا، وبجوار البحيرة مكان أسميته أنا "حديقة الأحجار". في حديقة "تشونغهوا تشيشيشان" مجموعة هائلة من الأحجار والصخور النادرة. كان موقع الحديقة في السابق منجم فحم تمت تغطيته بالتربة الصالحة لزراعة الأشجار لاستعادة النظام الإيكولوجي الطبيعي وتحسين البيئة وتوفير مكان جميل للسياحة لأهل المنطقة وللسياح القادمين من خارجها. الأكثر، أن حكومة المدينة قررت نقل مقرها إلى هذا المكان، في خطوة ستكون عامل جذب للاستثمار في صناعة الخدمات على نحو يخلق مزيدا من فرص العمل للسكان. ما أنفقته حكومة مدينة شيتسويشان على تطهير البحيرة وإنشاء الحديقة وجه آخر للاستثمار من أجل المستقبل في نينغشيا، فالطرق الفسيحة والمرافق الكاملة المتكاملة التي لا تخلو من لمسات جمال، هي بلا شك بنية أساسية للأجيال القادمة.

هذه المدينة التي تحتضن ما يسمى ببحر الرمال الجنوبي، أي نانشاهاي باللغة الصينية، أنفقت 30 مليون يوان لتخضير الثلاث عشرة كم مربعا من حوض رمال وأرض سبخة ومخلفات وحولته إلى منطقة سياحية، تشبه ملعب جولف عملاقا وشقت فيه بحيرة اصطناعية يقصدها السائحون. وحرصت حكومة المدينة على الإبقاء على بقع من بحر الرمال كما هي ليدرك زائرها حجم التحول الذي حدث. ولمنطقة نانشاهاي الخضراء ثلاث وظائف، هي أولا، تحسين المناخ والأجواء البيئية، تحسين النظام الإيكولوجي، والوقاية من السيول بتوفير قنوات لها بحيث تصب في البحيرة الاصطناعية.

استثمارات أجنبية في التكنولوجيا العالية

 أسئلة كثيرة دارت في ذهني، وسمعتها من الأربعة أجانب الذين رافقونا في رحلة نينغشيا، عندما دخلنا مصنع شياوجورن لآلات الماكينات. المصنع المقام باستثمار كامل لشركة MAZAK اليابانية متخصص في إنتاج آلات تصنيع الماكينات Macheinery Tools، وتحتل الشركة اليابانية المركز الأول عالميا في هذا المجال كما أنها من أقوى الشركات في العالم. مصنع شياوجورن ينتج سنويا منتجات قيمتها 10 مليارات يوان (الدولار الأمريكي يساوي 8ر6 يوان)، ومتوسط إنتاج كل فرد فيه يبلغ 200 ألف يوان. لم أكن أتخيل أن شركة كهذه يمكن أن تأتي إلى نينغشيا، ولكن، وحسبما قال المسئول الياباني في المصنع، الشركات اليابانية تذهب إلى حيث بيئة الاستثمار الجيدة، وقد وفرت حكومة نينغشيا بيئة استثمار جاذبة تغري رأس المال الساعي إلى الربح.

في مكان آخر، وتحديدا في شرقي نينغشيا، توجد قاعدة داندونغ الصناعية للكيماويات والطاقة. المنطقة تستفيد من مزايا موقعها ومواردها وخاصة الفحم، والطقس والمواصلات، وتستخدم الفحم في إنتاج الطاقة والكيماويات بطريقة الاقتصاد التدويري أو الدوري التكاملي، حيث يتم توظيف الموارد والمخلفات في سلسة متكاملة تحافظ على البيئة. قاعدة داندونغ هي تفعيل حي لاستراتيجية تنمية المناطق الغربية التي دشنتها الحكومة الصينية سنة 2000، في إطار مشروع نقل الطاقة من الغرب الثري بالطاقة والفقير نسبيا، إلى الشرق المتعطش للطاقة والثري جدا. 

منطقة تايانغشان للتنمية الاقتصادية بمدينة ووتشونغ، صورة رائعة للفكر الجديد في الصين. المنطقة مقامة على مساحة 556 كم مربعا في عمق الصحراء. لم تفعل الحكومة أكثر من وضع أسس المرافق الأساسية؛ الطرق وإمدادات الكهرباء والمياه الخ، أي أنها مهدت الأرض للاستثمار، وتركت الباقي للشركات التي تريد أن تستفيد من موارد المنطقة. لا تزاحم المنطقة أرضا زراعية ولا تتعارض مع السلامة البيئية لأي مكان، ولا أدري لماذا سألت نفسي هنا، في هذا المكان: لماذا يصر المسئولون في مصر على إقامة المشروعات الصناعية على أرض زراعية أو محميات طبيعية بينما الصحراء واسعة؟ مزرعة الرياح بمنطقة تايانغشان للتنمية الاقتصادية نموذج آخر لتوظيف إمكانيات البيئة. مشروع مزرعة الرياح لتوليد الطاقة الكهربائية يتكون من ثلاث مراحل؛ المرحلة الأولى تشمل 60 برج مراوح بطاقة قدرها 20 ألف كيلو وات/ ساعي، بينما المستهدف هو 370 ألف كيلو وات/ ساعي عند انتهاء المشروع بعد سبع سنوات.

 

  بلد لن يجوع

في الطريق من مدينة ووتشونغ إلى مشروع شابوتوه لمكافحة التصحر، رأيت على البعد مستوطنات بشرية جديدة. تدهشك نباتات البطيخ الراقدة في حضن أغشية بلاستيكية على أرض قاحلة، أو بالأحرى كانت قاحلة وتلمع على الأرض ثمار البطيخ مثل حبات لؤلؤ عملاقة تطوقها سلاسل من شتلات أشجار متنوعة. هنا تدرك أن الحديث عن أزمة الغذاء لغو فارغ.. كيف يمكن أن يجوع بلد يزرع الحصى والرمل بدون نهر؟

وهنا تدرك أن عدد سكان الصين ليس هائلا. لقد قطعت السيارة بنا على هذا الطريق أكثر من مائة كم لم نر خلالها إلا نفرا قليلا من البشر. كنت أسأل نفسي: من يرعى تلك الشجيرات التي لا شك ستكون غابة هائلة بعد سنوات قليلة؟ من يجمع ثمار البطيخ، من أين يأتون بالماء إلى جوف تلك الصحراء المعروفة بقلة المطر، كم من الجهد البشري بُذل لعمل مدرجات على تلك التلال المكونة من تربة طفلية وحصى يبدو أنها خصبة من لون مزروعاتها. نينغشا منطقة حُبلى بالأمل ليس لأهلها فقط بل لكل الصين. لم أمد بصري في أي اتجاه بصحرائها وتلالها وجبالها إلا ورأيت أبراج الكهرباء العملاقة وأنابيب المياه التي تستخدم للري بالتنقيط، فالري بالغمر رفاهية لا تستطيعها المنطقة. صورة مبهجة أن ترى بقعة خضراء تتوسط المساحات الصفراء الممتدة، تراها بين الفينة والأخرى؛ أشجار بلغت النضوج وأخرى مازالت أعوادا نحيلة، شبكة طرق قوية تربط محافظات ومدن بل وقرى المنطقة بما حولها. نينغشيا رسالة موجزة بأن الصين بلد يفكر للمستقبل، يستفيد من الماضي ولا يقف عند الحاضر. هنا ملحمة صراع ونضال مع قسوة الطبيعة وترويضها دون الإخلال بالنظام الإيكولوجي. بيوت الفلاحين في تلك الأرض التي حلا لي أن أسميها "البراري" تشبه الفيلات التي تراها في أطراف المدن، لكل منها حديقة صغيرة من أمامها وخلفها يزرعها أهل البيت خضراوات وشجر فاكهة. بدا لي أن الصينيين لا يتركون شبر أرض صالحا للزراعة إلا واستغلوه، وما لا يصلح للزراعة يقيمون فيه المناطق الصناعية. وعى الصينيون الدرس واستخلصوا العبر من أخطاء سابقة بإقامة المصانع على أرض زراعية وفي مناطق ذات ظروف بيئية مميزة، ولعل تجربة المناطق الصناعية في نينغشيا تكون مفيدة لمصر في اتخاذ قرار بشأن مصنع أجريوم المختلف على إقامته في محمية رأس البر. الناس هنا يطبقون مفهوم الكفاءة والكفاية الإدارية.

لوحة رائعة تلك التي تتراءى أمامي لبيوت فلاحين، سقوفها المائلة قرمزية وحوائطها بيضاء داكنة متدثرة بكتلة من اللون الأخضر لأشجار الحور التي أعطيتها لقب "سيدة أشجار نينغشيا". حركة إنشاءات هائلة؛ طرق وجسور وبنايات تبرر لك لماذا الصين أكبر مستهلك في العالم للأسمنت وحديد التسليح وكافة مواد البناء. نينغشيا برهان عملي بأن استراتيجية تنمية المنطقة الغربية لم تكن أبدا تصريحات مسئولين تذهب أدراج الرياح.

في محمية بايجيتان الطبيعية صادفت وفدا كبيرا من المتخصصين في شئون البيئة من ثماني دول عربية. كان من بين الوفد من مصر، المهندس سيد مدين، مدير فرع جهاز البيئة بالبحر الأحمر والمهندسة هبة شعراوي والمهندس حمدي محيي الدين، من وزارة البيئة المصرية. قال المتخصصون المصريون إن فكرة تثبيت الرمال بمربعات من القش تستقبل المطر الشحيح فينبت بعض العشب، يمكن الاستفادة منها في الصحراء الغربية بمصر. ورأى علي أرحيل، من الأردن أن هذه الفكرة لا تناسب بلاده، حيث أنهم في حاجة إلى المطر فقط. أعضاء الوفد العربي أدهشتهم بيوت العمال الذين يعملون في المحمية، فهي تشبه فيلات محاطة بمساحات يزرعونها بالفاكهة والخضار.

وعدت أسأل نفسي مرة أخرى: كم من الوفود العربية رأيتها هنا، وكم من أعضائها عادوا واستفادوا شيئا مما رأوا في الصين؟

 

 

 

 

 

 

 

Address: 24 Baiwanzhuang Road, Beijing 100037 China
Fax: 86-010-68328338
Website: http://www.chinatoday.com.cn
E-mail: chinatoday@chinatoday.com.cn
Copyright (C) China Today, All Rights Reserved.

فرع مجلة ((الصين اليوم)) الإقليمي للشرق الأوسط بالقاهرة
رئيس الفرع: حسن وانغ ماو هو
العنوان: 5 شارع الفلاح، المتفرع من شارع شهاب
- المهندسين- الجزيرة- مصر
تليفاكس: 3478081(00202)
  ص.ب208 – الأورمان – الجزيرة – القاهرة – مصر
   الهاتف المحمول: 0105403068(002)
البريد الإلكتروني: kailuofenshe@yaoo.com.cn