في بكين بداية تسعينات القرن العشرين، عشقت الأزقة في العاصمة الصينية، أي الحواري الضيقة التي كانت سمة مميزة للمدينة القديمة، وكلمة زقاق في اللغة الصينية هي "هوتونغ"، ويقال إنها ترجع إلى زمن أسرة يوان، التي أسسها المغول. كانت أزقة بكين، على صورتها قبل التعديل والتحسين، تردني إلى القاهرة القديمة وإلى روايات نجيب محفوظ، صاحب زقاق المدق. كان لتلك الأزقة رائحة خاصة، هي خليط من رائحة امتزاج التراب بالماء ورائحة احتراق الحطب ورائحة المراحيض. وكان اللونان الرئيسيان في أي زقاق هما الأسود والرمادي، وكانت أرضية الزقاق في الغالب ممهدة بأحجار مستطيلة، سوداء أو رمادية أيضا.
كان في بكين عدد كبير من الأزقة، قدرها البعض بأربعة آلاف. وقد ارتبط ظهور الأزقة بالنظام العمراني الذي التزمت به الأسر الإمبراطورية في الصين في تخطيط المدن، حيث يوجد مركز للمدينة، يكون هو قمة السلطة، ويحاط المركز بدوائر متلاحقة حسب الأهمية في الهرم الاجتماعي، على هذا أحيطت المدينة المحرمة (مركز السلطة) بدوائر كان يقيم بها أصحاب المكانة الاجتماعية العالية، كل حسب ترتيبه في الهرم الاجتماعي، فكان أفراد الطبقة الأرستقراطية يقيمون في أزقة تقع شرقي وغربي القصر الإمبراطوري، ومع الابتعاد عن القصر باتجاه الجنوب والشمال تقع أزقة العامة من الناس، حيث يقيم التجار والحرفيون والعمال. ويسمى الزقاق عادة باسم أشهر شيء فيه، شخص أو مكان أو مَعلم طبيعي، فتجد أزقة تحمل أسماء قصور ومعابد ومخازن وورش وجسور وأنهار وأسواق وسلع وأسماء أفراد، فهناك مثلا زقاق ميشيداجيه، أي سوق الأرز، وزقاق يندينغتشياو، أي جسر يندينغ.
وقد ظل النظام الصارم في التخطيط العمراني مستمرا حتى سقوط حكم أسرة تشينغ عام 1911، وبعدها بدأ البناء العشوائي للبيوت والأزقة، ومع دخول الصين فترة الحرب الأهلية انعكس الواقع السياسي والاقتصادي على حالة الأزقة. واستمر الوضع العشوائي للأزقة حتى بداية تسعينات القرن العشرين عندما شرعت حكومة العاصمة في إعادة تخطيط المدينة، وما صاحبها من إزالة العديد من الأزقة لتفسح مكانا للأبراج العالية، وهي خطة أثارت جدلا واسعا في بكين آنذاك. هذا الجدل بين أنصار الحفاظ على الأزقة، كونها تجسد تقاليد بكين وتمثل صورتها وثقافتها القديمة، وبين أنصار التخلص من الأزقة نظرا للحالة المتردية التي وصلت إليها وافتقارها إلى الشروط الصحية للإقامة، دفع حكومة العاصمة إلى الإبقاء على عدد من الأزقة وترميمها وتحسين ظروفها ووفرت الحماية لها كمنشآت أثرية وجعلت منها منتجا سياحيا جديدا في المدينة، إذ يحرص كثير من السياح، وخاصة الغربيين، على التجول في تلك الحواري الضيقة بدراجة لها ثلاث عجلات، في محاولة لتجربة حياة سكان تلك الأزقة قديما، عندما كانت الريكشا هي وسيلة المواصلات داخلها. ولكن بعض الأزقة يصعب حتى على الريكشا، أو الدراجة ذات الثلاث عجلات ولوجها، فزقاق تشيانشي، الواقع في منطقة داشيلان عرضه سبعون سنتيمترا ليس أكثر.
وقد ارتبط اسم الزقاق، باسم آخر هو سي خه يوان، أي الدار الرباعية أو المربعة، فالدور ذات الأربعة أركان المكونة من طابق واحد فقط تصطف متلاصقة على جانبي الزقاق. كانت الدار الرباعية في الأصل مسكنا لأسرة واحدة ممتدة، مكونة من عدة أجيال. وكان كل جيل، بل وكل فرد، يقيم في جانب محدد من الدار حسب مكانته وفقا للطقوس والتقاليد الصينية. كان هذا في عصور الصين القديمة، ولكن الدور المربعة التي رأيتها في تسعينات القرن الماضي كان يقيم في الواحدة منها عدة أسر، كل أسرة في غرفة أو غرفتين، ولم يكن في الدار غالبا مرحاض، وإنما يضطر الناس إلى الخروج لقضاء حاجتهم في مرحاض على رأس الزقاق. وقد أفرزت الأزقة بدُورها الرباعية ثقافة خاصة بها، ففي تلك الغرف المتلاصقة المفتوحة تقريبا على بعضها البعض، ليس ثمة مجال للحفاظ على أسرار أو الاحتفاظ بخصوصية، فالجميع في الدار الرباعية يعيشون كأسرة واحدة بنمط حياة واحد، ويتعامل كل منهم مع غرفة الآخر على أنها بيته، فإن نقُص أحدهم شيء لا يتردد في طلبه من جاره. ولهذا لم يكن سهلا على كثير من سكان الزقاق، وخاصة كبار السن الذين أمضوا حياتهم بها، أن يتركوها وينتقلوا إلى شقق سكنية معلقة في أبراج عالية، وقد قرأت في تلك الفترة عشرات القصص لناس قاوموا جرافات شركات التنمية العقارية التي جاءت تهدم بيوتهم لتقيم مكانها تجمعات سكنية فاخرة.
الأزقة، وبمعنى أكثر دقة ما بقي منها، تحولت بعد التعديل، إلى رمز وإلى واجهة ثقافية للمدينة ولأثريائها، وأضحى امتلاك دار رباعية دليلا على الذوق الثقافي للفرد، ويتسابق عشاق التراث والماضي إلى اقتناء الدور الرباعية التي ارتفع سعرها إلى عنان السماء. وأصبح مشهدا مألوفا في بكين أن ترى سيارة فارهة تزحم الزقاق الضيق واقفة أمام دار رباعية، تحولت من الداخل إلى ما يشبه القصر أو المتحف، بمرافق كاملة وأثاث فاخر. إنها حالة من النستالوجيا، الاجتماعية والثقافية، وموضة جديدة في عالم أثرياء بكين.
الأسواق في بكين هي العتبات المقدسة التي لا بد أن يعبرها أي زائر أجنبي للعاصمة الصينية. وبالنسبة للأجانب الذين يقيمون في بكين، الأسواق إدمان مزمن حاولت أكثر من مرة أن أعالج نفسي منه وفشلت.
بعد أيام من وصولي بكين لأول مرة، وفي سياق حديث عن التسوق، سألني صديق مصري كان قد أمضى في بكين سنة وبضعة شهور: هل ذهبت إلى سوق الفلاحين؟ قلت: في الحقيقة لا أعرف أين هو حتى أذهب إليه، ورد الصديق: إنه قريب من معبد تيانتان (السماء). وحيث أنني زرت معبد السماء ضمن جولاتي الاستكشافية المبكرة بالعاصمة، ظننت أن الأمر سهلا، وفي صبيحة يوم العطلة، الأحد، شددت الرحال إلى تيانتان. وقفت أمام البوابة الرئيسية لذلك المعبد الذي بدأ العمل في بنائه عام 1420م ورحت أتأمل فيه. كان المعبد يحمل اسم "مذبح قرابين السماء والأرض"، حيث كان الأباطرة في زمن أسرتي مينغ وتشينغ يقدمون فيه القرابين لآلهة السماء والأرض، وبلغ عدد الأباطرة الذين مارسوا فيه تلك الطقوس اثنين وعشرين إمبراطورا. ولكن المعبد تنازل عن صفة الأرض في عام 1530م، عندما بُني "مذبح قرابين الأرض"، الذي يسمى حاليا "ديتان" لتقديم القرابين لآلهة الأرض في الضاحية الشمالية ببكين. لقد دهشت لحجم ومساحة معبد السماء عندما زرته، وأدركت، مرة أخرى وليست أخيرة، أن ما تختزنه ذاكرتي من صور لكلمات قد لا يكون هو الصواب، فهذا المعبد ليس بناية أو حتى عدد من البنايات تُؤدى فيها شعائر وطقوس تًعبُد، وإنما حديقة كبيرة، بل مدينة مصغرة، وقد علمت لاحقا أن مساحته تعادل أربعة أضعاف مساحة القصر الإمبراطوري ببكين. أما لماذا يكون قصر الإمبراطور أقل مساحة من معبد السماء، فلأن إمبراطور الصين قديما كان يعتبر نفسه "ابن السماء"، ومن ثم كان من الضروري أن تكون مساحة مقر إقامة ابن السماء، الذي هو القصر الإمبراطوري، أقل من مساحة من معبد السماء ذاتها، والسماء هنا تعني الرب.
ومعبد السماء محاط بسورين، واحد بعد الآخر، يقسمان المعبد إلى المذبح الداخلي والمذبح الخارجي. الجزء الشمالي من السور الخارجي يشبه القنطرة، ويتقاطع الجزء الجنوبي منه مع الجزأين الشرقي والغربي بزاوية قائمة، مما يخلق شكلا يرمز إلى "السماء المستديرة والأرض المربعة"، فقد اعتقد الصينيون قديما أن السماء قطعة مستديرة تغطي الأرض التي اعتقدوا أنها مربعة. أمام هذا السور وقفت أبحث عن سوق الفلاحين، فلا فلاحين رأيت ولا قرويات آتيات من الريف حاملات البط والحمام والبيض البلدي ظهرت لهن أمارة أمامي، إنها صورة سوق الفلاحين كما نعرفها في بلادنا.
تذكرت أن داخل هذا المعبد أقدم وسيلة للاتصال اللاسلكي، ففي نقطة محددة أمام واحدة من قاعات المعبد إذا تكلمت يُسمع صدى صوتك ثلاث مرات إلى مسافات بعيدة بفعل انعكاس الموجات الصوتية على جدار القاعة المبني بنوع خاص من الطوب الناعم. وفكرت أن أنادي "أين سوق الفلاحين"، فأنا لا أرى أمامي إلا سيارات وخط ترام (ترماي) وأكشاكا صغيرة. مر شاب بجانبي، فاستوقفته وسألته إن كان يتكلم الإنجليزية، فلغتي الصينية في ذلك الوقت لم تكن تسمح بالدخول في حوار قد يمتد. سألته عن "ذي فارمرز ماركت"، فنطر إلى السماء، وليس إلى المعبد، وهز رأسه وكتفيه. تكررت المحاولة مرات، بصينيتي المُكَسرة وبلغة الإشارة أحيانا، ولكن دون جدوى. رجعت ذلك اليوم وليس معي حتى خُفي حُنين. قررت أن أستعين بزميلي في العمل، حكيم، فهو بكيني يوحي لك مظهره أنه قادم للتو من فجر التاريخ. سألته: أين سوق الفلاحين يا حكيم بكين؟ أطرق الرجل ثم رفع رأسه ونظر من تحت نظارته السميكة، وسألني: عند تيانتان؟، قلت: هكذا قيل لي. قال: إذن هو سوق هونغتشياو وليس غيره، ومعناه سوق الجسر الأحمر، ومرة أخرى لاحظت العلاقة الحميمة بين الجسور وأسماء الأماكن في بكين. وعلى خريطة كنت أحرص دائما على أن تكون في جيبي رسم حكيم دائرة حمراء حول مكان السوق، وشرح لي كيفية الوصول إليه. في الأسبوع التالي كنت حيث وُصف لي، وللمفارقة ما إن نطقت كلمة هونغتشياو حتى ارتفعت الأنامل واشرأبت الأعناق تشير إلى اتجاه واحد. ولكن دهشتي زادت، فلا يوجد فلاحون ولا شيء من عندهم، وفقا للصورة الذهنية لدي عن الفلاحين ومنتجاتهم. فقط رأيت أكشاكا مرصوصة بجوار بعضها مواجهة الحائط الشرقي لمعبد تيانتان، ولفت انتباهي وقوف سيارات تحمل لوحات دبلوماسية أمام تلك الأكشاك.
لماذا إذن حمل سوق هونغتشياو اسم الفلاحين؟
husseinismail@yahoo.com