ã

بكين مدينتك ومدينتي (2)

شوارع ومسالك

حسين إسماعيل

المسرح الوطني الصيني

شارع وانغفوجينغ التجاري المشهور

القصر الإمبراطوري

بدأ العمل سنة1267، في بناء دادو، التي احتلت جزءا من شمال شرقي العاصمة القديمة، لتكون عاصمة لأسرة يوان، واستمر اثني عشر عاما. وقد خُططت المدينة على شكل شبكة متسامتة ذات خطوط أفقية ورأسية متساوية الأبعاد على مساحة 50 كيلو مترا مربعا تقريبا، وأحيطت بسور مرتفع له ثلاث بوابات؛ في الشرق والغرب والجنوب، وبوابتان في الشمال. وتشير المكتشفات الأثرية إلى أن الطريق المركزي، الذي شكل محورا من الشمال إلى الجنوب عبر المدينة، كان عرضه 28 مترا. وكان عرض الشوارع الفرعية 14 مترا، أي نصف عرض المحور المركزي، وعرض الأزقة سبعة أمتار، أي نصف عرض الشوارع الفرعية، فكل شيء مخطط وفقا لحسابات هندسية دقيقة.

إن كون الصين دولة مركزية، خضعت للحكم المركزي للإمبراطوريات الإقطاعية قديما، وللحكومة المركزية في العصر الحديث، جعل التخطيط العمراني  بها مهمة الحكومة فقط، فليس ثمة جهة تقرر شيئا غير السلطة المركزية، ولهذا فإنه من النادر أن تجد في العاصمة الصينية بنايات عشوائية مزمنة يصعب التخلص منها كتلك التي تعرفها مدن كثيرة في العالم الثالث. وقد لفت انتباهي عرض الشوارع الكبير ببكين برغم أن تلك الشوارع شقت منذ زمن بعيد، فكيف كان أفق هؤلاء الناس واسعا وكم كان نظرهم بعيدا في إبداع هذا التخطيط المنظم الرائع الذي يشتمل على شوارع وأحياء مرسومة الحدود بوضوح. ولعل هذا هو الذي ساعد حكومة مدينة بكين في الفترة الأخيرة على التخلص من العشوائيات بها، لأنها كانت عشوائيات غير مؤسسة، مجرد مزاحمات في الشوارع والأزقة لم يكن التخلص منها مشكلة مستعصية، فالشوارع الأصلية قائمة ولها حدودها أما تلك الكيانات الطفيلية التي التصقت بها في فترة معينة فظلت أجساما عالقة يمكن التخلص منها بأضرار قليلة، ولعل هذه الحقيقة تجعل فكرة البعض من الاستفادة من تجربة بكين في إزالة عشوائيات مدينة مثل القاهرة غير عملية، فالعشوائيات في القاهرة جزء بات أصيلا من المنظومة المعمارية للمدينة وأمسى التخلص منها يحتاج ثورة معمارية وتكلفة باهظة.

وتقول وثائق التاريخ الصينية إن دادو، الاسم السابق لبكين، التي بنيت في القرن الثالث عشر الميلادي شيدت وفقا لمبادئ العمارة في الكتاب الكونفوشي تشو لي، كاوقونغ جي ((طقوس تشو، المرجعيات الهندسية)). وقد جاء في  هذا الكتاب: "عند تصميم مدينة عاصمة، يجب أن تخطط على شكل شبكة متسامتة ذات خطوط أفقية ورأسية متساوية الأبعاد، بمقياس 9×9 لي (لي وحدة قياس صينية تساوي نصف كيلو متر) لكل جانب، وثلاث بوابات على كل من أسوار المدينة الثلاثة. ووفقا لهذا الكتاب يجب أن يكون في المدينة العاصمة تسعة شوارع وساحات، كل منها يتسع لتسع عربات خيل للمرور متجاورة. ويجب أن يكون قصر الملك في قلب المدينة، وأن يقام معبد الأسلاف في اليسار، ومعابد الآلهة على اليمين، وأن تكون البنايات الإدارية في المقدمة والسوق في الخلف.

وبالفعل أقيم معبد تايمياو لعبادة الأسلاف ومنصة شهجي لعبادة إله الأرض والحبوب على جانبي الخط المحوري للمدينة الذي ينتهي بالقصر الإمبراطوري بحيث يكون عرش الإمبراطور متجها إلى الجنوب بما يعني سيطرة الإمبراطور الدائمة على أطراف الإمبراطورية.

وذكرت بعض الكتب أن الذي خطط مدينة بكين مهندس عربي اسمه اختيار الدين، وأنه استلهم تصميمه من بغداد، عاصمة هارون الرشيد، وأدخل عليه تعديلات تتناسب مع البيئة والظروف والتقاليد الصينية. كما تشير السجلات التاريخية الصينية إلى شخصيات إسلامية وعربية ساهمت في بناء بكين علميا وثقافيا، ومنهم الفلكي جمال الدين الذي يقال إن هولاكو بعث به من منطقة مراغة، الواقعة في غربي إيران، إلى الصين للعمل فيها، فحمل معه كتاب "جامع المبادئ والغايات في علم الميقات" للفلكي العربي علي الحسن بن على المراكشي. وفي سنة 1267م رفع جمال الدين إلى بلاط يوان "التقويم الدائم" الذي اعتمد فيه على التقويم العربي، وتم إقراره والعمل به لفترة. وفي العام نفسه أنشأ جمال الدين مرصدا في بكين. وهناك أيضا السيد الأجل شمس الدين، المعروف صينيا باسم شمس الدين تاي يان، والذي يقال إن أصوله تعود إلى جزيرة العرب، بل إلى الأسرة الهاشمية. وقد تولى شمس الدين القضاء في دادو لفترة، قبل أن يعين واليا على منطقة يوننان في جنوب غربي الصين.

غير أن قيام أسرة مينغ في الصين عام 1368 واتخاذها مدينة نانجينغ في الجنوب عاصمة لها، جعل دادو تفقد شيئا من مكانتها السياسية والاقتصادية. ولكن ذلك لم يستمر طويلا، إذ سرعان ما سيطرت قوات أسرة مينغ على دادو وتم تغيير اسمها إلى "بيبينغ"، وفي عام 1420 تغير اسمها مرة أخرى إلى بيجينغ، وترجمة هذا الاسم حرفيا هي "العاصمة الشمالية". وخلال هذه الفترة بنيت المدينة المحرمة ونقل معبد تايمياو ومنصة شهجي إلى جانبي الشارع المحوري أمام المدينة المحرمة، وأقيم جبل اصطناعي إلى الشمال منها، هو جبل جينغشان، بمخلفات تطهير نهر نانهاي والمجرى المائي الذي حفر حول المدينة المحرمة لحمايتها، بحيث يتوسطه الخط المحوري. وبني معبد تيانتان (السماء) ومعبد شانتسوان (معبد شياننونغ حاليا) شرقي وغربي ضاحية المدينة الجنوبية، وتم ضمهما إلى داخل المدينة في أواسط أسرة مينغ خلال عملية توسيع للمدينة، بينما امتد الخط المحوري إلى الجنوب حتى بلغ طوله الإجمالي ثمانية كيلومترات. وقد ظلت بيجينغ على هذه  الصورة تقريبا حتى بعد زوال أسرة مينغ وقيام أسرة تشينغ، آخر أسرة إمبراطورية في الصين، ثم زوالها وقيام جمهورية الصين التي اتخذت من نانجينغ عاصمة لها، وانهيارها مرورا بفترة أمراء الحرب والحرب الأهلية حتى إعلان قيام جمهورية الصين الشعبية في غرة أكتوبر عام 1949، من بيجينغ وتحديدا في ساحة تيان آن من، أمام المدينة التي كانت محرمة على عامة الشعب.

مع تأسيس الصين الشعبية دخلت بيجينغ مرحلة جديدة في تاريخها، ليس فقط لأن الجمهورية الوليدة اتخذتها عاصمة للبلاد وإنما للتغيرات الهائلة التي شهدتها المدينة، وهي تغيرات تعكس الوضع السياسي والاقتصادي بل والثقافي والفكري للصين في تاريخها المعاصر.

عندما اعتلى ماو تسي تونغ بوابة تيان آن من وأعلن تأسيس جمهورية الصين الشعبية قائلا "إن الشعب الصيني لن يُذل أو يُقهر بعد اليوم"، كانت حشود غفيرة من الصينيين تتدافع نحو الميدان لمشاهدة الاحتفال الضخم المقام هناك، ولكن أسوار الميدان العالية حالت دون وصولهم وحرمتهم من الاستمتاع بتلك اللحظات الفارقة في تاريخ بلادهم، ولهذا تقرر هدم تلك الأسوار. لم يكن مغزى عملية الهدم هو إزالة حواجز مادية فحسب، بل زوال عصر وبزوغ عصر جديد، عبرت عنه البنايات التي أقيمت حول ساحة تيان آن من في الفترة اللاحقة، حيث أقيمت جنوبه قاعة الشعب الكبرى، كرمز للسلطة السياسية الجديدة، وشرقه متحف تاريخ الصين، الذي تغير اسمه مؤخرا إلى المتحف الوطني، ووسطه نصب تذكاري لأبطال الشعب الصيني.

ولأن بكين تجدد كل شيء فيها، فقد بدأ العمل في إعادة بناء المتحف الوطني، ومن المتوقع أن يكتمل هذا العمل عام 2009. ويرجع تاريخ المتحف الوطني إلى عام 1959، عندما افتتح بمناسبة مرور عشر سنوات على تأسيس الصين الجديدة. وكان المتحف نموذجا للتصميم المعماري الاشتراكي في فترة ماو تسي تونغ، وكان رمزا للتأثير السوفيتي على فن العمارة والآداب الصينية. البناية الجديدة للمتحف تغطي سبعين ألف متر مربع، ليكون أكبر  متحف في العالم. وسوف تُبقي البناية الجديدة على بعض من ملامح تصميم المتحف القديم وستضاف أربعمائة ألف قطعة أثرية إلى مقتنياته الحالية التي يبلغ عددها ستمائة وعشرين ألف قطعة أثرية. وإعادة بناء المتحف الوطني في بكين جزء من خطة حكومة العاصمة لبناء عشرين متحفا جديدا ليصل عدد متاحف العاصمة إلى مائة وثلاثين متحفا بحلول موعد إقامة أولمبياد 2008، وذلك في إطار خطة الحكومة الصينية لبناء ألف متحف جديد حتى عام 2015  لتضاف إلى الألفي المتحف الموجودة حاليا في الصين وتضم عشرين مليون قطعة أثرية.

 واستقبل الميدان الشهير أحدث ضيوفه، المسرح الوطني الذي وضع تصميماته المهندس المعماري الفرنسي بول أندرو، مصمم مطار شارل ديغول بباريس. المسرح، الذي أخذ في البداية اسم دار الأوبرا، مصمم على شكل قبة عملاقة من الزجاج مقامة في قلب بحيرة، ويشتمل على قاعة أوبرا بها ألفان وخمسمائة مقعد، وقاعة موسيقى بها ألفا مقعد، ومسرح كبير يتسع لألف ومائتي متفرج، ومسرح صغير به خمسمائة وعشرون مقعدا. وسوف يكون دخول الجمهور عبر نفق تحت البحيرة.

لقد أثار بناء المسرح الوطني، في تيان آن من جدلا واسعا في الصين حول مدى ملائمة طرازه المعماري لمحيطه من البنايات التي تعكس فن العمارة الصيني، وأيضا لمدى تأثير البحيرة الصناعية تحته على سلامة البنايات القريبة منها، ولكن الرأي المؤيد لبنائه انتصر في النهاية ليضيف إلى تيان آن من درة أخرى، وليظل هذا  الميدان كتابا مفتوحا تقرأ فيه تاريخ الصين وتطورها.

ويتواصل الحديث عن بكين.

husseinismail@yahoo.com

 

 

 

 

 

 

 

 

Address: 24 Baiwanzhuang Road, Beijing 100037 China
Fax: 86-010-68328338
Website: http://www.chinatoday.com.cn
E-mail: chinatoday@chinatoday.com.cn
Copyright (C) China Today, All Rights Reserved.

فرع مجلة ((الصين اليوم)) الإقليمي للشرق الأوسط بالقاهرة
رئيس الفرع: حسن وانغ ماو هو
العنوان: 5 شارع الفلاح، المتفرع من شارع شهاب
- المهندسين- الجزيرة- مصر
تليفاكس: 3478081(00202)
  ص.ب208 – الأورمان – الجزيرة – القاهرة – مصر
   الهاتف المحمول: 0105403068(002)
البريد الإلكتروني: kailuofenshe@yaoo.com.cn