ã

بكين مدينتك ومدينتي (1)

من علب الكبريت إلى ناطحات السحاب

حسين إسماعيل

هذه أيام بكين، ومن شاء أن يتيقن يأتي إلى عاصمة الصين في زيارة لا ينبغي أن تكون خاطفة، ليرى ما يحدث بها، فقد صار الرقم 2008 قرينا لاسم العاصمة القديمة المتجددة.

في بكين تشعر أنها مدينتك، كما أشعر أنا أنها مدينتي، فبيني وبين بكين، التي ينبغي أن ننطقها ونكتبها ((بيجينغ)) مثل أهلها، حكايات وأحداث، فقد أمضيت بعاصمة الصين، سنوات لا ينافسها في عددها إلا مسقط رأسي. ولا أستطيع أن أخفي عشقي لبكين وأهلها، وهو عشق جعلني أعرف كل ركن فيها، أسواقها وأزقتها وحدائقها ومسارحها وساحاتها وناسها على مختلف أطيافهم وفئاتهم الاجتماعية. لقد صرت أعرف في بكين كثيرا مما لا يعرفه بعض أهلها. وقد يجوز لي أن أشعر بشيء من الزهو عندما يأتيني أحد من أهلها ويستفسر مني عن كيفية الذهاب إلى مكان ما في مدينته.

مثل أي زائر لأي بلد، يكون المطار دائما الصورة الأولى لذلك البلد، ويكون الطريق من المطار إلى وسط المدينة رحلة، تطول أو تقصر، لتأكيد انطباعك الأول أو نفيه أو تعديله. وعند وصولي بكين أول مرة عام 1992، لم يكن مطار العاصمة الجديد قد أنشئ بعد. كان المطار القديم، الذي تحول إلى مطار للطائرات الخاصة حاليا، متواضعا في بناياته وتجهيزاته، وأذكر أن عدد الركاب القادمين والمغادرين لم يكن كبيرا، فعندما انتظمتُ في الطابور أمام ضابطة الجوازات للحصول على ختم الدخول بعد وصولي لم يكن أمامي أكثر من أربعة أفراد، وعندما توجهت إلى صالة تسلم الأمتعة، تذكرت مخازن الخشب في مصر، فالسير الذي يحمل حقائب الركاب يكاد يلامس أرضية صالة تسلم الأمتعة الصغيرة المساحة، وبالقرب منه بوابة الخروج مباشرة من المطار. في الطريق من المطار إلى وسط المدينة، وحتى الوصول إلى ساحة تيان آن من، وهي مسافة 25 كم تقريبا، كان أكثر ما أثار انتباهي كمية وكثافة الغطاء الأخضر على جانبي الطريق، لدرجة ظننت معها أنني دخلت في غابة، ولعل هذه الصورة خففت إلى حد ما من وقع حال المطار الذي لم يكن يقارن على الإطلاق بمطار دبي الذي توقفت به لمدة ساعة في طريقي إلى بكين، بل كان مطار القاهرة في ذلك الوقت أفضل منه. وقد أدهشني أنني عندما قصصت ذلك، على رجل بريطاني يعمل في الصين منذ سنوات عديدة، حيث جاء إليها في ثمانينات القرن الماضي، قال لي بول وايت إن مطار بكين عندما وصلها هو كان يشبه مطار قرية أمريكية. هذا المطار الذي تم افتتاحه رسميا في الثاني من مارس عام 1958، كان به صالة ركاب واحدة، تغطي هي وملحقاتها 60 ألف متر مربع تم تشغيلها في الأول من يناير عام 1980، وكانت مصممة لخدمة 60 رحلة يوميا بقدرة إجمالية 1500 راكب في ساعة الذروة.

ولكن مطار العاصمة الدولي ببكين تطور بنفس حجم تطور الصين وصار ينافس أكبر وأفخم المطارات في العالم، ولا أذكر أنني صادفت أحدا زار الصين لأول مرة إلا وحدثني عن مطا ر بكين، فهذا المطار ليس فقط بوابة بكين والصين وإنما عنوان التغير الذي تشهده العاصمة وكل الصين. في الفترة من 1995 إلى 1999 تم توسيع صالة الركاب الأولى عدة مرات. وفي الأول من نوفمبر عام 1999 افتتحت صالة الركاب الثانية التي تغطي 336 ألف متر مربع ومزودة بأحدث التجهيزات، بطاقة 9210 ركاب في ساعة الذروة، وقدرة إجمالية سنوية حوالي 27 مليون راكب. والآن تعمل 67 شركة طيران في المطار، منها ثلاث شركات عربية، هي مصر للطيران، والقطرية، وطيران الإمارات. وتنطلق منه أكثر من خمسة آلاف رحلة إلى 91 مدينة داخل الصين و78 مدينة خارجها. ومن  المتوقع أن يستقبل مطار العاصمة  66 مليون راكب في عام 2008، عام دورة بكين الأولمبية.

بعد أيام في بكين خبت في ذهني صورة المطار وحلت محلها صور أخرى، كان منها صورة العمارات السكنية المتجاورة والتي تشبه بعضها تماما في كل شيء، وهي قريبة الشبه بما يسمى في مصر بالمساكن الشعبية التي أنشئت في ستينات وسبعينات القرن الماضي، أيام الاشتراكية. وقد أطلق الصينيون على تلك المساكن وصفا معبرا هو "علب الكبريت" في تشبيه طريف لها بعلب أعواد الثقاب المتراصة بجوار بعضها بعضا، كل منها مكون من خمسة أو ستة طوابق. كانت هذه البنايات، التي اختفت تقريبا حاليا، من معالم مرحلة المد الثوري الاشتراكي بالصين، عندما سادت فكرة مساواة الناس في كل شيء، ومنها البيوت. وكان دخول الأجنبي أي من تلك البنايات مهمة صعبة، فلم يكن مسموحا للأجنبي الإقامة إلا في أماكن محددة للأجانب فقط، ولم يكن الصينيون يستضيفون في بيوتهم عادة أجانب، للهواجس الأمنية الموروثة من الفترة السابقة أولا، ولضيق مساحات الشقق وفقر حالها ثانيا. وقد كنت محظوظا بأن أتيحت لي فرصة نادرة لولوج عالم شُقق علب الكبريت تلك في ذلك الزمان، بعد أن تعرفت مصادفة بواحدة من سكانها. كانت لي جيه، تقيم مع أسرتها في حارة قريبة من شارع وانغفوجينغ التجاري الشهير. ولا أنسى مشهد دخولي إلى العمارة التي تقطنها لي جيه والعيون المتطلعة من النوافذ والأبواب المجاورة تراقب هذا الأجنبي الذي يقتحم عليهم معقلهم. طرقت لي جيه، وأنا على مسافة خطوات خلفها، الباب المعدني للشقة، وعندما اقتربت رأيت أن هذا الباب من خلفه باب آخر خشبي. وفي الممر الضيق وراء الباب استقبلتني أم لي جيه بابتسامة ووجه بشوش، وطلبت مني الفتاة أن أنزع حذائي وأستبدله بشبشب موجود بجوار الباب. عبرت المسافة القصيرة من خلف باب الشقة إلى الصالة، وعن يساري المطبخ الذي لا تتجاوز مساحته ثلاثة أمتار مربعة، وعن يميني الحمام الذي لا تتعدى مساحته مترا مربعا واحدا، وأمامه غسالة كهربائية. في الصالة المزدحمة بأريكة وجهاز تسجيل وتلفزيون، جلسنا، أم لي جيه والفتاة وأنا، بالقرب من النافذة المطلة على الشارع الضيق. وبعد قليل لمحت غرفة النوم المقابلة للصالة. لم تكن مساحة الشقة الإجمالية تزيد على ثلاثين مترا، وكان يسكنها أربعة أفراد، لي جيه وشقيقها ووالداهما، إضافة إلى قطة صغيرة. ولم تكن الشقق الأخرى التي دخلتها بعد ذلك في تلك الأيام تختلف كثيرا عن شقة لي جيه، وكانت تلك الشقق هي جزء من صورة بكين ما بعد تأسيس الصين الجديدة، وهي صورة تكاد تكون غير موجودة حاليا. لم تعد أسرة لي جيه، شأن كل أسرة عرفتها منذ قدومي إلى الصين، تعيش في مساكن علب الكبريت، فقد انتقل معظمهم إلى شقق جديدة فسيحة ذات ديكورات تخلب الألباب وبأسعار تصيب العقول بالسعار، في تجمعات سكنية تحاكي المناطق السكنية في الدول المقدمة. أزيلت معظم عمارات علب الكبريت وحلت محلها بنايات عالية تستخدم كعمارات مكاتب ومتاجر إن كانت في وسط المدينة، وتُحول إلى مساحات خضراء أو يعاد تنظيمها وترتيبها إلى مجمعات سكنية فاخرة. إنها صورة اندثرت وذهبت معها أشياء كثيرة.  

بيد أن بكين تسعينات القرن الماضي كانت أوسع كثيرا من بنايات علب الكبريت التي أبرزت قزمها العمارات السكنية العالية التي بدأت تظهر في تلك الفترة، وقد قررت أن أمسح عاصمة الصين شبرا شبرا، ومسح بكين يحتاج دراجة ورفيقا يعرف خبايا الشوارع والأزقة، ولهجة البكينيين أيضا. وقد توفرت الأداة الأولى بعد فترة قصيرة من وصولي بكين، إذ اكتشفت أن الدراجة لساكن بكين لا تقل أهمية عن الحذاء، وقد حرصت طوال إقامتي في العاصمة الصينية أن يكون لدي دراجة واحدة على الأقل، حتى بعد أن اشتريت سيارة، كما أنني فقدت ما لا يقل عن عشر دراجات في بكين، بمتوسط دراجة لكل سنة ونصف تقريبا، في شهادة صريحة على أنني صرت من أهلها، فالصينيون يقولون: "ليس بكينيا من لا يفقد ثلاث دراجات على الأقل". أما الرفيق فقد عثرت عليه بعد فترة لم تطل.

كانت الثورة الثقافية حاضرة في ذهني عندما دخلت لأول مرة القصر الإمبراطوري، الذي يحتل قلب المدينة المحرمة، ذلك المجمع المعماري الذي يعتبر أكبر مجمع إمبراطوري إنشائي خشبي في العالم والذي صممه مهندس أسرة مينغ الإمبراطورية (1368- 1644م) كواي شيانغ، الذي عاش من عام 1397 حتى عام 1481م، والذي بدأ العمل فيه سنة 1406م. وقد لفت انتباهي في القصر الإمبراطوري عندما زرته سنة 1993 لوحات معدنية صغيرة صفراء على كل بناية، كُتبت عليها عبارة بالإنجليزية تشير إلى أن هذه البناية جددت عام 1979، ولما استفسرت قيل لي إن القصر الإمبراطوري لم يفلت من نيران الحرس الأحمر، فقد أحرقوا بناياته الأثرية في إطار حملتهم للتخلص من كل القديم.

 ولكن المدينة المحرمة، التي تحتل قلب بكين، لا بد أن تذكرك بماضي هذه المدينة العريقة التي يرجع تاريخ نشأتها إلى ثلاثة آلاف سنة واتُخذت عاصمة للصين لمدة أكثر من 850 عاما وحملت أسماء عديدة آخرها "بيجينغ".

أدهشني في بكين، الشوارع الواسعة المتوازية والمتقاطعة التي تقسم المدينة طولا وعرضا، مثل رقعة الشطرنج، كما لفت انتباهي كثرة أسماء الأماكن المرتبطة بالبوابات والجسور، على نحو مشابه، بل أكثر، للقاهرة القديمة التي تجد فيها باب الخلق وباب الشعرية وباب زويلة وباب الوزير وكوبري القبة وكوبري الليمون، إلخ، فالعديد من الأماكن في بكين تنتهي بلفظة ((من)) أي باب أو بوابة مثل جيانغقو من، تيان آن من، تشيان من، آندينغ من، تشاويانغ من، وكذلك بلفظة "تشياو"، أي الجسر أو الكوبري مثل بايشي تشياو، سانماو تشياو، لوقو تشياو، الخ. وهذا يرجع إلى التصميم الذي اختاره قبلاي خان (1215 – 1294م)، أول أباطرة أسرة يوان، عندما قرر اختيار مدينة "دادو"، أي بكين ليقيم فيها عاصمة مُلكه، تلك المدينة التي ظهرت قبل ثلاثة آلاف عام كمركز سلطة محلي، بعد أن قرر وان يان ليانغ، رابع أباطرة أسرة جين، برغم معارضة وزرائه، عام 1151 نقل عاصمة ملكه من شمال شرقي الصين إلى بكين. وللحديث بقية.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Address: 24 Baiwanzhuang Road, Beijing 100037 China
Fax: 86-010-68328338
Website: http://www.chinatoday.com.cn
E-mail: chinatoday@chinatoday.com.cn
Copyright (C) China Today, All Rights Reserved.

فرع مجلة ((الصين اليوم)) الإقليمي للشرق الأوسط بالقاهرة
رئيس الفرع: حسن وانغ ماو هو
العنوان: 5 شارع الفلاح، المتفرع من شارع شهاب
- المهندسين- الجزيرة- مصر
تليفاكس: 3478081(00202)
  ص.ب208 – الأورمان – الجزيرة – القاهرة – مصر
   الهاتف المحمول: 0105403068(002)
البريد الإلكتروني: kailuofenshe@yaoo.com.cn