ã

رحلة البحث عن الذات للعمال الفلاحين

هجر كثير من الفلاحين حقولهم للبحث عن الرزق في المدن

أول نادي للعمال الفلاحين في مدينة تشونغتشينغ

القطار الخاص للعمال الفلاحين من بكين إلى مدينة تشنغدو في فترة عيد الربيع

 

في بداية ثمانينات القرن العشرين، ترك عدد هائل من الفلاحين قراهم واتجهوا إلى المدن، حيث فرص العمل أوفر والدخل أعلى. وبمرور الأيام صار هؤلاء الذين اصطلح على تسميتهم "العمال الفلاحين" جزءا من نسيج المدن الصينية. يبلغ عدد العمال الفلاحين حاليا نحو مائتي مليون فرد، تركوا حقولهم سعيا وراء الرزق. وحسب أرقام الجهات المعنية يخرج من مقاطعة سيتشوان عشرون مليون عامل فلاح ومثلهم من مقاطعة خنان إلى المدن سنويا، بلغ إجمالي تحويلاتهم المالية لمواطنهم أكثر من 100 مليار يوان (الدولار الواحد يعادل 1ر7 يوانات). وتصدر سنويا مقاطعة آنهوي أكثر من العمال الفلاحين في المدن يمارسون مهن شتى؛ من قطاع الصناعة والبناء إلى قطاع الخدمات وغيرها من الأعمال الشاقة التي لا يقبل عليها أهل المدن. وعلى الرغم من أن العمال الفلاحين لا يحصلون على الحقوق المتوفرة لأهل المدن، مثل الضمان الاجتماعي للحد الأدنى للمعيشة وغيره من ضمانات الرعاية الاجتماعية، لم يتوقف زحفهم نحو المدن.

إلى المدينة، ذلك أفضل

لو رو تساي، مراسلة ((الصين اليوم))

الحياة المتنقلة

التقيت مع عامل النقاشة والتشطيبات لاو ني وزوجته في المكان الذي يعملان فيه في ميدان عمل لديكور البيوت بحي فنغتاي الواقع جنوب غربي بكين. مثل آلاف غيرهما من الذين يعملون في مجال التشطيبات والديكورات المعمارية، لا يستقر لاو ني وزوجته في مكان واحد ببكين، وربما لهذا السبب يطلق عليهم أهل المدينة "جيش حرب العصابات"، لكثرة تنقلهم. الذي يحدث هو أن أبناء قرية واحدة أو منطقة ريفية يعملون في مجال النجارة والدهان والبناء يتجمعون معا ويشكلون فريقا يعمل تحت قيادة مقاول صغير. في شارع ليوليتشياو بجنوبي بكين صورة أخرى لفلاحين عمال أقل مهارة، يقفون في الشارع حاملين أدوات العمل انتظارا لمن يأتي يطلبهم. فريق لاو ني يعمل بالأجر لفترات قصيرة ولهذا لا يتوفر لهم أي تأمين. وميزة هذا العمل هي أن مخاطر التأخر في دفع الأجر قليلة، إذ يدفع صاحب البيت الأجر فور انتهاء العمل. قال لاو ني: "الشركات تتأخر في دفع الأجر دائما، لكن أصحاب البيوت يدفعون فورا. صحيح أن العمل بهذا الأسلوب أكثر مشقة، حيث نعمل أكثر من 10 ساعات يوميا، لكنه أفضل من العمل لدى شركة مقاولات".

المشكلة المشتركة للعمال الفلاحين في المدن نفس المشكلة هي كثرة العمل وطول وقت العمل، وعدد قليل منهم يعملون بنظام الثماني ساعات يوميا. قال لاو ني: "حسب معلوماتي، أجر العاملين في قطاع الصناعة أفضل. فالأجر الأساسي خمسمائة يوان شهريا والعمل ثماني ساعات يوميا، ويمكن أن يؤدي العامل عملا إضافيا لمدة 5-6 ساعات يوميا، فيصل أجره الشهري ثمانمائة يوان".

لاو ني وزوجته ينامان في البيت الذي يعملان فيه إذا سمح صاحبه، ولكن معظم أصحاب البيوت يرفضون بحجة أن البيت لا يكون نظيفا إذا نام فيه العمال، فيضطر المقاول إلى استئجار سكن قريب من موقع العمل يبيت فيه العمال ويطبخون ويأكلون. قال لاو ني: "سعر علبة الطعام الجاهز خمسة يوانات، والشباب من العمال الفلاحين يفضلونها، ولكن نحن نفضل أن نطبخ طعامنا بأنفسنا لتوفير النقود لأبنائنا الذين يدرسون في قريتنا، ونراهم مرة واحدة في السنة. حياتنا على هذا النحو منذ خمس أو ست سنوات."

في بداية عام 2008 أقام "مركز التنمية الثقافية لبيت أصدقاء العمال الفلاحين ببكين" معرضا للوحات أبناء العمال الفلاحين الذين يدرسون في بكين، اشترك فيه أكثر من عشرة آلاف من "طفل متنقل" يدرسون في أكثر من عشرين مدرسة لأبناء العمال الفلاحين في بكين. معظم اللوحات تعبر عن حياة التنقل التي يعيشها هؤلاء الأطفال مع أهلهم، وقد أعطى طفل في الصف السادس الابتدائي عنوانا معبرا للوحته وهو "مسقط رأسي"، فهو لم ير قريته منذ خمس سنوات.

"صوت القلب المتنقل" كان عنوان هذا المعرض، وهو يعكس حياة التنقل والهجرة للعمال الفلاحين داخل المدن. إلى جانب قطاع الصناعة يعمل معظم العمال الفلاحين في قطاع البناء والخدمات. بعد انتهاء مشروع البناء يكون عليهم البحث عن عمل آخر في مكان آخر.

 

الانخراط في حياة المدينة

قال سون هنغ، المسؤول عن "بيت أصدقاء العمال الفلاحين": "في بداية دخولهم إلى المدن كانت أهل المدن يعتقدون أن العمال الفلاحين يجعلون المدينة غير نظيفة وغير منتظمة، لكن مع مرور الأيام اكتشف سكان المدينة أن العمال الفلاحين لا غنى عنهم لحياة المدينة، وعندما يرجع هؤلاء الفلاحون إلى قراهم في عيد الربيع يقع سكان المدن في حيص بيص، فلا يجدون من يؤدي لهم الخدمات المنزلية ولا من يجمع قمامتهم". هذا الوضع جعل أهل المدن يدركون الدور الهام الذي يلعبه العمال الفلاحون في حياتهم فتغيرت رؤيتهم لهم، كما سعت حكومات المدن إلى توفير تيسيرات وتقديم خدمات لهم.

ولكن برغم كل شئ مازال سكان المدن والعمال الفلاحون يشعرون بأنهم ينتمون إلى عالمين مختلفين، فمعظم الفلاحين لا يشعرون بالانتماء إلى المدينة التي حلوا بها حتى وإن جمعوا مالا كثيرا. وحسب استطلاع أجرته جامعة فودان بشانغهاي شمل 30 ألف عامل فلاح في بعض المدن الرئيسية، أقل من 8% من العمال الفلاحين يشعرون بالرضا عن حياتهم، ويشكون من"المعاملة غير العادلة" و"وقت العمل الطويل" و"الأجر القليل". وقال 68% من الذين شملهم الاستطلاع إن سكان المدينة لم يقبلوهم تماما. قال سون هنغ: "الواقع أن الفلاحين الذين يعملون في المدن لم يختاروا لأنفسهم اسم "العمال الفلاحين"، وإنما سكان المدن هم الذين أطلقوا عليهم هذه التسمية".

وانغ مي يان، الباحثة بمعهد السكان والاقتصاد بالأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية أوضحت أنه إضافة إلى الفرق الكبير في السمات الشخصية بين سكان المدينة والعمال الفلاحين، هناك الاختلاف بينهم من ناحية نظام التسجيل المدني وتوزيع الأعمال مشيرة إلى أن بعض العمال الفلاحين أصبحوا مقاولين وفتحوا محلات تجارية ويحققون دخلا أعلى من دخل سكان المدينة واشتروا بيوتا في المدن، لكنهم لا يعترفون بأنهم من سكان المدينة". السبب المحوري هنا هو أنهم لا يسجلون ضمن سكان المدينة ومن ثم لا يتمتعون بمعاملات الرعاية الاجتماعية المكفولة لأهل المدن، إضافة إلى أن العمال الفلاحين يمارسون الأعمال الدنيا التي يعافها أهل المدن، في المعمار والنظافة والخدمات المنزلية والحراسة، وهذا يجعل بيئة عملهم وحياتهم شبه منعزلة عن حياة وعمل أهل المدينة.

الاختلاف في نظام التسجيل المدني الذي يحرم ابن الريف من بطاقة الإقامة في المدينة التي يعمل ويعيش بها سببه اقتصادي، فالوضع الاقتصادي للصين ذات المليار وثلاثمائة مليون نسمة لا يسمح حاليا بتقديم الرعاية الاجتماعية لجميع السكان. وقد حاولت مدينتا تشنغتشو وشيجياتشوانغ التغلب على هذا الوضع ففتحت التسجيل المدني للجميع لفترة، ولكنهما تراجعتا عن التجربة نظرا لمحدودية موارد ومرافق كل منهما مثل المواصلات والتعليم والصحة.

يبدو أن تحقيق المساواة في الراتب والرعاية الاجتماعية بين العمال الفلاحين وسكان المدينة لا يزال غير ممكن في المستقبل القريب. لاو ني لا يتعامل إلا قليلا مع أهل المدينة، فباستثناء أصحاب البيوت التي يعمل بها لا ينخرط في حياة المدينة، ويمضي معظم وقته يتحدث هو ورفاق العمل حول أبنائهم. وتسليته أثناء العمل جهاز راديو ترانزستور صغير يستمع إلى برامجه.

 

تغير جديد ومشكلة جديدة

بعد عيد الربيع وموسمي الزراعة والحصاد، تنقل القطارات والسيارات مئات الآلاف من العمال الفلاحين، ومن بينهم كثير من الشباب، من المدن إلى قراهم. هذه الظاهرة تقلق أصحاب الشركات، حيث تنقص الأيدي العاملة وترتفع الأجور. وحسب مسح عينة أجرته مديرية العمل بمقاطعة قوانغدونغ في فبراير 2008، كانت المقاطعة تفتقر إلى 4ر16 ألف عامل عادي، و1700 عامل تقني و8000 عامل متخصص. ومتوسط الأجر الشهري حاليا وهو 960 يوانا لم يعد مغريا للعمال الفلاحين.

ويؤكد لي يي جيه الذي يعمل في مجال البناء الثقافي للمناطق المجتمعية في شيامن، تضع كل مصانع المدينة تقريبا إعلان "مطلوب عاملين" ولا تشترط توفر خبرة في العمل. شيامن،  مدينة ساحلية صغيرة، المكونات الإلكترونية هي أهم صناعاتها، يوجد بها أكثر من مليون عامل فلاح يشكلون أكثر من نصف عدد سكانها.

النقص الشديد في عدد العمال الفلاحين صار مشكلة في المدن في السنوات الأخيرة. حسب الباحثة وانغ مي يان، لوحظ أول نقص في عدد العمال الفلاحين سنة 2004، حيث لم تتمكن بعض المصانع من إيجاد العمال الفلاحين الشبان ذوي المهارات العالية. كان المتخصصون يعتقدون أن هذا النقص مؤقت، لكن هذا الوضع انتقل من قوانغدونغ إلى تيانجين وغيرهما من المناطق الساحلية، ثم إلى بعض المقاطعات في وسط وغربي الصين، وهما منطقتان كانتا مصدرتين للأيدي العاملة في الماضي.

الخبراء يتوقعون أن يشهد وضع الإمداد بالأيدي العاملة في الصين تغيرا جذريا. قالت الباحثة وانغ مي يان إن ارتفاع أجر العمال الفلاحين في السنتين الأخيرتين هو انعكاس للتغير في علاقة العرض والطلب على الأيدي العاملة. في مدينة شيامن يبدأ الراتب الشهري للعامل الفلاح من 1200-1500 يوان. وقالت "في الماضي كان الفرق الكبير بين العمل في المدينة والعمل في الريف يدفع الفلاحين للسفر إلى المدن، الآن ارتفع دخل الفلاحين بعد إعفائهم من الضريبة الزراعية، الأمر الذي ضيق هذا الفرق." إلى جانب ذلك يختلف الجيل الثاني للعمال الفلاحين عن آبائهم كثيرا بسبب مستوى تعليمهم، فتطلعاتهم، ومنها الراتب أعلى من تطلعات الآباء، وكل ذلك يساهم في مشكلة نقص الأيدي العاملة ". وترى الباحثة وانغ مي يان أيضا أنه من حيث تركيب الأيدي العاملة الصينية، حجم الأيدي العاملة الريفية القابلة للتحول ليس كبيرا، مما يؤدي إلى النقص النسبي للأيدي العاملة.

وتعترف وانغ مي يان بأن الحكومة الصينية لم تكن تعرف بشكل تام حالة العرض والطلب على الأيدي العاملة قبل عدة سنوات، فقد ساد اعتقاد بأن المعروض من الأيدي العاملة أكثر من الطلب عليها، والتكيف مع هذا التغير اختبار لكل حكومة عاشت هذا التغير." وإحدى النتائج الهامة لهذا الوضع أن الشركات والحكومة لم تجد بدا من حماية حقوق ومصالح العمال، ورفع مكانتهم ومعاملتهم".  

  يستعد سون هنغ، المسؤول عن "بيت أصدقاء العمال الفلاحين" لإقامة متحف لثقافة العمال الفلاحين، ستشمل معروضاته بطاقات الإقامة المؤقتة والبطاقات الصحية وغيرها من وثائق العمال الفلاحين وأوراق تأجيل دفع أجورهم. قال سون هونغ: "هذه الأشياء تعكس تغيرات كثيرة، مثلا، كان الحصول على بطاقة الإقامة المؤقتة بحاجة إلى مئات اليوانات، الآن بحاجة إلى خمسة يوانات فقط. الأهم أن جهاز الأمن العام حاليا لا يعيد العمال الفلاحين الذين ليست معهم بطاقة الإقامة المؤقتة إلى قراهم كما كان الوضع في المدينة قبل عام 2003". هناك تغيرات ملحوظة في أسلوب عمل الحكومة، وتكاد تكون ظاهرة التأخر في دفع أجور العمال الفلاحين غير موجودة حاليا. حسب استطلاع قام به المعهد الذي تعمل به الباحثة وانغ مي يان عامي 2001 و2005 حول التأخر في دفع أجور العمال الفلاحين في بعض المدن، كانت نتيجة المقارنة بين العامين مشجعة، فعدد الشركات التي تتأخر في دفع الأجور أو ترفض دفع اشتراك العمال الفلاحين في تأمين الإصابة في العمل قل كثيرا.

هناك تغيرات كثيرة أخرى، فبعض حكومات المدن تقوم حاليا بتدريب تحويلي مجانا للعمال الفلاحين، حيث دربت مقاطعة سيتشوان وحدها نحو ثلاثة ملايين عامل فلاح سنويا، وصار الاشتراك في ملتقيات التوظيف مجانا بعد أن كان بمقابل، وأصبح للعمال الفلاحين مندوبون يمثلونهم في المجالس النيابية المحلية والمجلس الوطني لنواب الشعب، وهو تطور يعطي مكانة سياسية لهذا القطاع العريض من الصينيين.

 

 

 

 

 

 

 

 

Address: 24 Baiwanzhuang Road, Beijing 100037 China
Fax: 86-010-68328338
Website: http://www.chinatoday.com.cn
E-mail: chinatoday@chinatoday.com.cn
Copyright (C) China Today, All Rights Reserved.

فرع مجلة ((الصين اليوم)) الإقليمي للشرق الأوسط بالقاهرة
رئيس الفرع: حسن وانغ ماو هو
العنوان: 5 شارع الفلاح، المتفرع من شارع شهاب
- المهندسين- الجزيرة- مصر
تليفاكس: 3478081(00202)
  ص.ب208 – الأورمان – الجزيرة – القاهرة – مصر
   الهاتف المحمول: 0105403068(002)
البريد الإلكتروني: kailuofenshe@yaoo.com.cn