ã

حدث في الشتاء

حسين إسماعيل

ما حدث في "البداية" قد يبدو لك، كما بدا لي في أول الأمر، شيئا عاديا. ولكن الذي حدث بعد ذلك استوجب منا هنا في ((الصين اليوم)) أن ننتقل إلى موقع "ما بعد الحدث" ونلتقي بمن كانوا - أو كان- وراء الحدث، ونرى الذين جعلوا من هذا الحدث مادة إعلامية، اجتماعية، تثقيفية ثرية.

 خبر عادي وسط زحام الأخبار المفزعة التي حملها شتاء هذا العام في الصين بسبب كارثة العواصف الثلجية التي ضربت مناطق وسط وجنوبي الصين وأصابتها بشلل نصفي في المواصلات والاتصالات ودمرت المزروعات وألزمت الناس دورهم ومنعت الغائب من العودة إلى ناسه في عيد الربيع الذي يحرص فيه كل صيني على أن يكون بين أهله. هذه الأحوال الجوية السيئة التي لم تشهدها تلك المناطق منذ نصف قرن تقريبا، بلغت خسائرها البشرية 107 أرواح بينما اقتربت خسائرها المادية من ستة عشر مليون دولار أمريكي. الخبر الذي نحن بصدده هنا، ربما إذا قرأته أنت أو أنا مررنا عليه مرور الكرام... ((شهدت تشنتشو (مقاطعة هونان) أسوأ شتاء منذ نصف قرن. الوضع في المناطق الريفية ليس معروفا إلى حد ما بسبب انقطاع الاتصالات، ولكن يبدو أن المقيمين في الريف أحسن حالا من سكان المدن، والسبب أن الأولين أقل اعتمادا على الأجهزة الحديثة (التي تأثرت بانقطاع الكهرباء)، فإن هم احتاجوا الماء أتوا به من حنفية أو بئر، ولتدفئة بيوتهم فإنهم ببساطة يحرقون الخشب أو الفحم. ولا عجب أن أهل المدن احتاجوا مساعدة أكبر، وقد جاء متطوعون من خارج تشنتشو إلى المدينة لإزالة الثلج من على الطرق والمساعدة في استعادة إمدادات الكهرباء، من بينهم ثلاثة عشر فلاحا من تانغشان في مقاطعة هوبي، وكما قال واحد من المتطوعين، اسمه سونغ تشي يونغ- 35 سنة- (علمنا لاحقا أنه قائد مجموعة المتطوعين الفلاحين):"ساعد الناس من أنحاء البلاد أهل تانغشان بعد زلزال 1976، ولهذا شعرنا بأنه من واجبنا أن نساعدهم عندما كانوا في أمس الحاجة لنا، خاصة أن هونان هي مقاطعة الرئيس ماو تسي تونغ"))... إلى هنا انتهى الخبر الذي بثته وكالة أنباء شينخوا الصينية.

في الحقيقة كان السيد سونغ تشي يونغ هو نجم اللقاء الذي جمعنا- نحن العاملين بالصين اليوم- مع الثلاثة عشر فلاحا بعد أن نقلتنا السيارة التي بعثت بها حكومة محافظة يوتيان التابعة لمدينة تانغشان لتأخذنا من أمام مقر ((الصين اليوم)) إلى باليبودونغ تسون، أي قرية باليبو الشرقية، التي يقطنها هؤلاء الفلاحون الشجعان، وإن كان السيد سونغ الذي لم يعد فلاحا لا يسكن هذه القرية حاليا إذ يدير فندقا صغيرا- لوكاندة- في المدينة يدر عليه دخلا سنويا نحو ستين ألف يوان ( نحو ثمانية آلاف دولار أمريكي) ويقيم هناك.

في الطريق إلى يوتيان التي يعني اسمها أرض اليشم، عرفت من زميلة صينية أن الثلاثة عشر فلاحا قادمون غدا إلى بكين من أجل مقابلة مع محطة التلفزيون الصيني المركزية المشهورة باسم CCTV  والتي يبلغ عدد مشاهديها عشرات الملايين، فأخذت أعصر ذهني في ما يمكن أن أطرحه من أسئلة على هذه المجموعة من الرجال الذين يبلغ عمر أصغرهم تسعة عشر عاما وأكبرهم تجاوز عتبة الستين بعامين وبينهم أب وابن، والذين بدلا من قضاء عيد الربيع، الذي صادف كارثة الثلج، بين أهلهم وذويهم اختاروا من تلقاء أنفسهم أن ينتقلوا إلى مكان بعيد عن قريتهم، أمضوا فيه تسعة عشر يوما بالتمام والكمال لا لشيء إلا لمساعده إخوانهم في الوطن لتجاوز محنة عاصفة الثلج.

وأعترف بأن رحلة الساعتين من مقر العمل إلى القرية التابعة لمدينة تانغشان التي دمرها تماما زلزال عام 1976، ربما لم تكن كافية لتكوين رؤية شاملة لما يمكن أن أستوضحه من أو أسأل عنه الرجال، فما فعلوه ينم عن نية طيبة، وكنت أحسب أنه لا يجوز أن أسأل شخصا، لماذا نيتك طيبة؟ وحسنا فعلت زميلتنا من الطبعة الفرنسية، لويز كاديو، عندما أخذت زمام مبادرة الحوار الذي بدأ فور وصولنا في اللقاء مع المجموعة- بعد كلمة قصيرة من مسئول محلي- وتمنت لو أن كل واحد من الفلاحين الطيبين، الذين جلس قليل منهم على ذات الطاولة معنا يتوسطهم السيد سونغ، بينما جلس الآخرون على مقاعد خلفية، أن يلخص ما فعله في جملة واحدة.

كان أول المتحدثين قائد المجموعة، سونغ تشي يونغ، الذي كان أيضا المتحدث الوحيد في الفعاليات التي حضرناها لتكريمهم، فقال: "يمكن أن نتغلب على الشدائد إذا توحدنا". وقال وانغ ياو قو: "ما فعلته، كفلاح، شيء بسيط ولكنه أثار اهتماما إعلاميا في الصين والخارج"، وقال سونغ تشي شيان: "من تقاليدنا أن نساعد من يواجه مشكلة"، وقال وانغ جيا شيانغ: "واجهت كارثة من قبل، حيث دمر الزلزال بيتي وساعدني الآخرون، وأريد رد الجميل"، وقال سونغ جيو فو: "الفلاحون الصينيون دائما يعملون يدا بيد، وأحوالنا تتحسن بفضل اتباع توجيهات قادة الحزب (الشيوعي)"، وقال وانغ جين لوه، أصغرهم: "بهذه الروح سوف نحرك مزيدا من الناس"، وقال يانغ دونغ الذي أمضى عامين في الخدمة العسكرية: "أعتقد أننا يمكن أن نتغلب على الصعوبات والتحديات لبناء بلدنا من أجل مستقبل أكثر إشراقا"، وقال وانغ باو جون: "من قيمنا نحن الصينيين أن نتعاون في الشدائد"، وقال يانغ قو بينغ: "أساعد الآخرين لأن هذا رد لمعروف المجتمع والناس الذين ساعدونا أثناء الزلزال"، أما وانغ ده ليان فقال: "شرف لي أن أكرس نفسي لمساعدة المنطقة المنكوبة"، وقال تساو شيوي جيون: "على الناس أن يساعدوا الآخرين، وبمساعدة سونغ (تشي يونغ) حققت حلمي بأن أساعد الآخرين. مساعدة الآخرين هي مساعدة لنفسي"، وقال ين فو: "تحمل سونغ (تشي يونغ) كل تكاليف الرحلة، وأنا متأثر جدا أنني استطعت أن أفعل شيئا لمساعدة الآخرين".

بعد أن أدلى الجميع بشهادتهم- سقطت مني شهادة أحدهم- على ما حدث شعرت برغبة كبيرة في معرفة التفاصيل، فما قالوه كلام مجمل، وقد تولى زعيمهم سونغ تشي يونغ مهمة تفصيل ما أجمله رفاقه فقال إن الذي دفعهم للقيام بهذه المهمة التي كلفته هو شخصيا 36 ألف يوان (خمسة آلاف ومائة دولار أمريكي تقريبا) أنهم تلقوا مساعدات كثيرة من الدولة خلال الزلزال، ولهذا "رأيت أن من مسئوليتنا هذا العام أن نفعل شيئا لمساعدة المنكوبين". وقال إنه شخصيا تلقى مساعدة فريق طبي من شانغهاي عندما ضرب الزلزال قريته. ونوه إلى أن الصين تستضيف هذا العام أولمبياد 2008 وقال: "علينا نحن الفلاحين والعمال أن نتوحد لنتغلب على هذه الكارثة حتى يكون لدى الأجانب ثقة في بلدنا". وكرر عبارته "يمكن أن نتغلب على الشدائد إذا توحدنا". 

السيد سونغ قال إن إقناع الاثنى عشر رجلا الآخرين، الذين ينتمون إلى فريق إنتاج واحد من فريقين بالقرية، بالخروج لمساعدة المنكوبين لم يستغرق ساعة زمن، وكنت أود أن أسأله هل ثمة من كان لديه تحفظات على الخروج ومبررات تلك التحفظات إن وُجدت، ولكن الموقف لم يكن يسمح بمثل هذا السؤال.

وأوضح قائد المجموعة الذي كان عمره ثلاث سنوات عندما وقع زلزال تانغشان سنة 1976، أنه في اليوم الذي اتخذوا فيه قرار الخروج إلى الجنوب استأجر سيارة ميني باص مقابل ستمائة وخمسين يوانا ( حوالي تسعين دولارا أمريكيا) في اليوم وتولى بنفسه مهمة القيادة؛ قيادة السيارة ومجموعة الرجال. قطع الفلاحون البسطاء الرحلة من قريتهم إلى تشنتشو في خمس وعشرين ساعة رأوا خلالها العديد من حوادث السير وواجهوا الضباب، استراح خلالها القائد سونغ من قيادة السيارة مرة واحدة. حمل الرجال معهم كل الأدوات اللازمة للعمل الذي يمكن أن يقوموا به في مقصدهم الذي اكتشفوا أن الوضع فيه أسوأ كثيرا مما تصوروا. وحيث أنهم يفتقرون إلى أي مهارات تقنية لم تكن المساعدة في مجال فنيات الكهرباء تناسبهم ولهذا كانت مهمتهم هي العمل الجسماني؛ حمل كابلات الكهرباء ومستلزمات البناء على أكتافهم من سفوح الجبال إلى أعلاها لإصلاح أبراج الكهرباء التي خربتها عاصفة الثلج، ثم نقل مخلفات العمل إلى سفوح الجبال مرة ثانية. على مدى تسعة عشر يوما كانوا يعملون فترة تتراوح بين عشر وست عشرة ساعة في اليوم حتى أتموا مهمتهم على خير وجه.

عندما عاد الرجال إلى قريتهم في الخامس والعشرين من فبراير بدأت وقائع "ما بعد الحدث"، فقد صارت القرية قبلة أجهزة الإعلام الصينية، وقال لي مسئول محلي في يوتيان إن مائة صحفي زاروا القرية حتى الآن (منتصف مارس)، وقد أدهشني الرقم حقا، ولخصت ما قاله الفلاحون الطيبون ومجمله أن المساعدة من شيم الصينيين وخاصة الفلاحين، وسألت قائد المجموعة السيد سونغ: إذا كانت المساعدة تقليدا راسخا لفلاحي الصين وللصينيين عموما فبماذا تفسر هذا الاهتمام الإعلامي الكبير بما قمتم به؟ وما لم أقله له هو: هل هذا مؤشر لتراجع هذا التقليد إلى درجة تجعل أجهزة الإعلام والجهات الرسمية تهتم بهذا العمل الخيري إلى هذه الدرجة؟

قال السيد سونغ إنه يعتقد أن السبب أنهم فلاحون بسطاء عاديون، وإن ما فعلوه هو ما أراد كثيرون فعله لكن لم تتوفر لهم الفرصة.

بعد العودة من المنطقة المنكوبة ومع التغطية الإعلامية المكثفة، ومن أجل مواصلة هذا العمل، بادر أمين لجنة الحزب الشيوعي في تانغشان بإنشاء منظمة خيرية تحمل اسم "الحب القلبي"، لتتعاون مع وحدات الجيش المرابطة هنا لمساعدة المناطق المنكوبة والبناء البيئي، أي نشر فكرة حماية البيئة وتدوير المخلفات، حسبما أوضح سونغ تشي يونغ.

وقال السيد سونغ إنه يريد تنظيم بعض الفعاليات في تانغشان قبل الأولمبياد لنشر وتعميم السلوكيات الطيبة بين أهل المدينة وإنه تقدم بطلب عضوية للحزب الشيوعي بعد عودته.

في اليوم التالي للقائنا مع مجموعة المتطوعين حضرتُ مع آخرين حفل تكريم لهم من قبل منظمة الصليب الأحمر بالصين والصليب الأحمر في هوبي وهيئة الأعمال الخيرية في يوتيان، حيث مُنح  سونغ تشي يونغ، قائد المجموعة، الذي ألقى كلمة نيابة عن المتطوعين في الحفل، شهادة تقدير "المتطوع الفذ"، بينما كان نصيب كل من الاثني  عشر رجلا الآخرين شهادة "المتطوع الممتاز".

عندما كنت منخرطا في كل هذه الفعاليات وسط هؤلاء الفلاحين والاهتمام الرسمي والإعلامي بهم كان صوت وصورة إعلان "الصين: من ماو إلى أنا  China: From Mao to Me الذي كانت تبثه محطة تلفزيون بي بي سي خلال شهر مارس ترويجا لبرنامجها "داخل الصين Inside China "، ملازمين لي، ولسان حالي يقول، ليس كُل من في الصين يقول نفسي نفسي، مازال البعض هنا، حتى وإن كانوا فلاحين فقراء، يمدون أيديهم للآخرين، ولعل هذا يفسر سبب الاهتمام بهم وبما فعلوه.

husseinismail@yahoo.com

 

 

 

 

 

 

 

Address: 24 Baiwanzhuang Road, Beijing 100037 China
Fax: 86-010-68328338
Website: http://www.chinatoday.com.cn
E-mail: chinatoday@chinatoday.com.cn
Copyright (C) China Today, All Rights Reserved.

فرع مجلة ((الصين اليوم)) الإقليمي للشرق الأوسط بالقاهرة
رئيس الفرع: حسن وانغ ماو هو
العنوان: 5 شارع الفلاح، المتفرع من شارع شهاب
- المهندسين- الجزيرة- مصر
تليفاكس: 3478081(00202)
  ص.ب208 – الأورمان – الجزيرة – القاهرة – مصر
   الهاتف المحمول: 0105403068(002)
البريد الإلكتروني: kailuofenshe@yaoo.com.cn