كان الناس، قبل زمن ليس بعيدا، يتعاملون بخوف ورهبة بل وريبة مع من يسمعون أنه مصاب بمرض نفسي. والحقيقة التي لا يعترف بها كثيرون هي أن كل فرد في مجتمع اليوم يعاني من مشاكل نفسية بشكل أو بآخر. وما أقوله ليس بعيدا عن نتائج دراسات علمية تؤكد أن المرض النفسي حاليا هو المرض الثالث في العالم، لا يسبقه إلا أمراض القلب والشرايين، والمرض النفسي مرحلة متقدمة للمشاكل النفسية عندما تصل إلى اضطرابات نفسية، تتحول في مراحلها المتأخرة إلى اكتئاب نفسي. ويبلغ عدد المصابين في العالم بالاكتئاب النفسي، خمسمائة مليون، أي واحد من كل اثني عشر فردا. ومن هؤلاء المكتئبين ست وعشرون مليونا في الصين، وفقا للجمعية الصينية للأمراض العقلية. والاكتئاب هو مقدمة الإقدام على قتل النفس.
وطرق التخلص من الحياة تختلف من شعب لآخر؛ فالأمريكي يطلق الرصاص على نفسه إذا ضاق بالحياة أو ضاقت هي به، والياباني يشق بطنه بالسكين، أما المصري فيفضل إلقاء نفسه من الشرفة إن توفرت، وإلا فإن الكيروسين المتوفر بكثرة يكون البديل السهل، وكان السيد أشرف مروان آخر أشهر الحالات المصرية المعروفة للموت سقوطا من البلكونة، في لندن، ومن قبله الفنانة سعاد حسني والليثي ناصف، سكرتير الرئيس أنور السادات للمعلومات. وأحياناً يفضل المصري الذهاب إلى النيل ليلقي بنفسه فيه. في الصين، الطريقة المفضلة للانتحار هي القفز من الأماكن العالية في المدن، بينما يجد أهل الريف المبيدات الحشرية أو سكب مادة ملتهبة، كيروسين مثلا، على الجسم ثم إشعالها، وسيلة سهلة، وأيضا الذهاب إلى نهر والقفز فيه للانتحار غرقا.
وقد بات الانتحار الحل الأسهل الذي يختاره عدد متزايد من الصينيين الذين يصابون بالاكتئاب بدلا عن الاستمرار في تحمل أعباء الحياة الحديثة. ولا تخلو الصحف الصينية يوميا من خبر عن حالة انتحار أو محاولة انتحار فاشلة. وإذا كانت الإحصائيات العالمية تشير إلى أن 17% من النصف مليار مكتئب في العالم ينتحرون، فإن الصين لا تحلق خارج السرب، فوفقا لأحدث رقم متاح في هذا الشأن، وهو لعام 2003، سجلت وزارة الصحة الصينية في ذلك العام مائتين وخمسين ألف حالة انتحار، ومليوني محاولة انتحار فاشلة، بينما تقدر الجمعية الصينية للأمراض العقلية أن مائتين وثمانين ألفا من الصينيين ينتحرون سنويا بينما يحاول مليونان قتل أنفسهم.
لماذا ينتحرون أو يحاولون الانتحار؟ تتعدد الأسباب والنتيجة واحدة، القفز من بناية عالية أو من فوق جسر أو إشعال النار في الجسم أو شنق النفس أو تجرع مبيد سام، إلى آخر القائمة السوداء لوسائل قتل النفس، ويكفي أن نستعرض أربع حالات انتحار سجلتها السلطات الصحية في مدينة قوانغتشو خلال عشرة أيام فقط عام 2006، لكي ندرك مدى خطورة الوضع النفسي لعدد متزايد من الصينيين، ففي الثاني والعشرين من نوفمبر انتحر ابن لأسرة صياد بالقفز من فوق البناية التي يقيم بها، وبعد يومين انتحر عامل بمختبر علمي بنفس الطريقة وفي السادس والعشرين من ذات الشهر انتحرت طالبة دراسات عليا متخصصة في كيمياء التربة بطريقة القفز أيضا، وفي الأول من مارس انتحر شاب خريج جامعة مرموقة، بذات الأسلوب. دوافع الانتحار للأربعة متباينة، فابن الصياد كتب قبل انتحاره أنه قرر التخلص من حياته لعدم موافقة والديه على تركه للدراسة برغم تدني نتائجه الدراسية، وطالبة كيمياء التربة انتحرت لرفض والديها صديقها بعد ست سنوات من العلاقة العاطفية بينهما، وأيضا بسبب الضغط عليها لإنهاء رسالتها العلمية والحصول على وظيفة جيدة. والبحث عن وظيفة كان السبب كذلك في قرار الشاب الجامعي بالانتحار، فبعد سنة من البحث عن وظيفة منذ أن حصل على درجة الماجستير في العلوم الكيميائية من جامعة تشينغهوا المرموقة، وجد عملا في مدرسة تدريب بمدينة تشيوانغتشو بمقاطعة فوجيان، وهي وظيفة أدنى كثيرا من سقف طموحاته، براتب متواضع وظروف إقامة سيئة.
ربما القاسم المشترك بين تلك الحالات هو أن أصحابها جميعا من الشباب، فقد أصبح الانتحار، وفقا لإحصاءات الجمعية الصينية للأمراض العقلية، القاتل الأول لشباب الصين بين سن 15 و34 سنة، حيث أن نحو 26% من حالات الوفاة سنة 2006 في هذه الفئة العمرية كان سببها الانتحار. هذا الواقع كشفت عنه أيضا دراسة أجراها باحثون من جامعة بكين استمرت سنتين وانتهت في مايو 2006، فمن بين مائة وأربعين ألف طالب في المرحلة الثانوية شملتهم الدراسة، قال 4ر20% منهم إنهم فكروا في الانتحار في وقت معين، بل إن 5ر6% قالوا إنهم وضعوا بالفعل خططا للانتحار. وقالت الدراسة التي شملت 72 ألفا و489 فتاة و69 ألفا و91 فتى، متوسط أعمارهم 3ر16 سنة وغطت 13 مقاطعة ومنطقة في الصين، إن معدلات الإقدام على الانتحار في خطواته الثلاث؛ التفكير فيه ثم وضع خطة له وأخيرا التنفيذ، شهدت زيادة كبيرة منذ عام 2002، ففي دراسة أجريت عام 2000 ببكين على أربعة آلاف طالب بإحدى عشرة مدرسة ثانوية، قال 7ر17% منهم إنهم فكروا في الانتحار، وهي نسبة تقل 3% عن النسبة في عام 2006. وبشكل عام تلجأ البنات أكثر من البنين إلى الانتحار فمقارنة مع 17% من الأولاد فكروا في الانتحار، فكر7ر23% من الشابات الصغيرات في قتل أنفسهن، وبينما وضع 7ر5 من الأولاد خططا لتنفيذ الانتحار دبر 4ر7% من البنات الصغيرات الخطط للانتحار.
الإحباط والاكتئاب له أسباب كثيرة في حياة الصيني الحديثة؛ قد تكون سفر الصديقة أو الصديق إلى الخارج، طلاق الزوجة بسبب علاقات زوجها مع نساء غيرها، آباء وأمهات في خريف العمر أهملهم الأبناء في زحام الحياة، الهوة الواسعة بين واقع الحياة وسقف الطموحات الناشئ عن أسباب كثيرة. والانتحار ليس حكرا على الصغار، فوفقا لبيانات مركز بكين لبحوث الانتحار والوقاية منه، ينتحر نحو مائة ألف شخص فوق سن الخامسة والخمسين بالصين سنويا، أي أكثر من ثلث المنتحرين في هذا البلد كل عام. السبب الرئيسي لانتحار المسنين هو الشعور بالوحدة، لسفر أو وفاة رفيق العمر، أو الطلاق، أو استقلال الأبناء بحياتهم. ذلك الشعور بالوحدة أضاف مصطلحا جديدا إلى قاموس علم الاجتماع في الصين، اسمه "الأعشاش الخاوية".
المشكلة أن الوعي بالاضطرابات النفسية في الصين مازال محدودا، ومازال كثيرون يعانون من متاعب نفسية يخجلون من التصريح بها لاعتقادهم أنها تدخل في دائرة العيب وأن صورة الفرد تهتز إذا علم الآخرون بحقيقة متاعبه السيكولوجية والربط غير الصحيح بين المرض النفسي وبين الجنون، برغم أن الطب النفسي والعقلي لا يعرف مرضا اسمه الجنون. يضاف إلى ذلك العجز الشديد في عدد المتخصصين النفسيين في الصين، حيث يوجد خمسة متخصصين نفسيين لكل مليون فرد بالمتوسط، مقارنة مع 550 متخصصا نفسيا في الولايات المتحدة لكل مليون أمريكي مثلا. ومن مؤشرات عدم الوعي بأهمية العلاج النفسي، أن ما يدفعه المريض للطبيب النفسي في المستشفيات الحكومية أقل كثيرا مقارنة مع أطباء التخصصات الأخرى، ففي جلسة العلاج التي مدتها 45 دقيقة التكلفة حوالي أربعة دولارات أمريكية إذا كان النفساني ممارسا عاما، أما إذا كان خبيرا فالتكلفة نحو سبعة دولارات ونصف، والنتيجة أن ما يحصل عليه الطبيب النفساني في الصين يقل عن دخل بعض طلاب الجامعات الذين يعملون مدرسين خصوصيين أو حتى في بعض المطاعم الفاخرة في وقت فراغهم، ولهذا يفضل كثير من المتخصصين ترك هذه المهنة.
وربما يظن البعض أن أعضاء الطبقة المتوسطة والعليا في المجتمع بمنأى عن غول الاضطرابات النفسية، ولكن ذلك ليس صحيحا، فضغوط العمل والحياة التي يتعرض لها من يطلق عليهم أصحاب الياقات البيضاء في الصين تجعل كثيرا منهم مصابا باضطرابات نفسية وعقلية، وقد انتبه الأذكياء إلى هذه الحالة وفكروا في استثمارها اقتصاديا. في شانغهاي ينظم موقع إنترنت، متخصص في ترتيب اللقاءات الرومانسية، حفلات للقتال، السلاح فيها هو الوسائد، حيث يجتمع المحاربون والمحاربات مساء ويشبعون بضعهم بعضا ضربا بالوسائد ويصرخون ويصفرون ويفعلون أي شئ لإخراج شحنات الضغوط المكتومة. البعض أيضا ابتكر وسائل أخرى منها حفلات رقص وغناء. ولكن تلك الوسائل لا تصلح إلا لفئة معينة من الذين يعانون نفسيا، فأصحاب وصاحبات الياقات البيضاء هم دون غيرهم القادرون والمؤهلون لتلك النشاطات التي تشبه حفلات الزار العربية.
محاولات تحجيم أعداد المنتحرين في الصين لا تتوقف عند هذا الحد، فقد اقترح قبل فترة ممثل منظمة الصحة العالمية لدى الصين، هنك بكيدام، تقنين استخدام المبيدات الحشرية كوسيلة لتقليل حالات الانتحار في الريف الصيني، موضحا أن حوالي 60% من الذين يموتون منتحرين في الصين سنويا يستخدمون المبيدات في قتل أنفسهم، ومعظم هؤلاء من الفلاحين، حيث يكون المبيد أيسر وأقرب وسيلة متاحة لقتل النفس أو حتى لإثارة الانتباه والتعبير عن الرفض والاحتجاج. ويدعو بكيدام إلى عدم جعل المبيدات الحشرية في متناول اليد ببيت الفلاح، فيقترح مثلا تخزينها في مكان واحد بكل قرية، بحيث يكون للمخزن قفلان مع شخصين مختلفين، وأن يحصل المزارع على المبيد عندما يريد استخدامه في حقله ثم يعيد ما يتبقى منه إلى ذات المكان. والحقيقة أنها فكرة خلاقة، فالمسافة التي يقطعها العازم على الانتحار من بيته أو حقله إلى مخزن المبيدات قد تعطيه فسحة نفسية لإعادة التفكير في قرار الانتحار، وقد يصادفه في هذه المساحة المكانية والزمانية من يساعده في التخلي عن قراره الانتحاري. كما أن وجود المبيدات في هذا المكان يجعلها غير متاحة للمختلين عقليا، خاصة إذا علمنا أن الصين بها، وفقا للأطباء الحائزين على جائزة "الأطباء البارزين في الأمراض النفسية لجمعية الاختصاصيين الطبيين الصينية"، أكثر من 26 مليون شخص يعانون من مرض السوداء (الملنخوليا)، حسبما نشرت وكالة أنباء شينخوا.
الواقع في الصين هو أن ضغوط الحياة تتكاثر على ناسها، ليس لأن الأحوال الاقتصادية في الصين تسوء، وإنما لأنها تتحسن بمعدلات متسارعة، وترتفع معها توقعات المواطنين إلى أسقف يصعب في الغالب الوصول إليها، وتكون النتيجة الموت كمدا في الفضاء الفاصل بين الواقع والطموح.
husseinismail@yahoo.com