الويغور قوم مسلمون، بلغ عددهم ثمانية ملايين وأربعمائة ألف نفس في نهاية عام 2000. وهم ثاني أكبر عشر قوميات في الصين يعتنق أهلها الإسلام. يعيش غالبيتهم العظمى في منطقة شينجيانغ الذاتية الحكم. الذي لا يعرفه كثيرون أن ولاية فنغشو بمحافظة تاويوان في مقاطعة هونان، بوسط الصين بها منذ زمن أسرة مينغ (1368-1644م) أحد بطون الويغور، يحملون لقبا واحدا هو "جيان". خلال الستمائة سنة ونيف المنصرمة، عاش أبناء "جيان" الويغوريون في فنغشو، التي صارت "الموطن الثاني لقومية الويغور".

في كتابه ((أنا من عشيرة جيان، وفنغشو بمقاطعة هونان موطني الثاني))، يؤكد المؤرخ الصيني المشهور جيان بوه تسان (1898-1968)، الذي ينتمي هو نفسه للفرع الويغوري في فنغشو أن منطقة شينجيانغ هي الموطن الأصلي للويغور، لكن بعد هجرتين في التاريخ، استقرت عشيرة "جيان" في محافظة تاويوان بهونان.

 

هجرة الويغور بقيادة هاله

وفقا لسجلات مدينة دهتشو وسجلات أسرة جيان، الموطن الأصلي لويغوري فنغشو هو مملكة قاوتشانغ الويغورية القديمة في منطقة شينجيانغ، وتحديدا في المنطقة التي يطلق عليها حاليا هامي وتوربان، وهم جميعا من نسل قائد عسكري في مملكة قاوتشانغ عرف بالبسالة والشجاعة والبراعة في القتال، اسمه هاله.

خلال القرن الثاني عشر، سعت أسرة لياو الغربية (1132-1218 م)، التي كانت البوذية عقيدتها الرسمية وتتخذ موقفا معاديا من أي عقيدة أخرى، إلى إخضاع مملكة قاوتشانغ الويغورية لسلطتها وكان تشيو تشو لو، الزعيم القبلي في أسرة لياو الغربية يضطهد المسلمين في قاوتشانغ، ويسعى إلى إخضاعهم لسلطانه. وقد أرغم المسلمين على ارتداء ملابس قومية تشيدان، وحظر النشاطات الإسلامية وقتل كثيرا من الأئمة، فثار الويغوريون وهبوا يقاومونه. وفي عام 1211، تمكن هاله، القائد العسكري لدولة قاوتشانغ حينذاك، من قتل المراقب العسكري الذي أرسلته حكومة لياو الغربية إلى قاوتشانغ، وانضم هو وجنوده إلى قوات تيمو جين (جنكيز خان) المغولي التي كانت الأقوى في المناطق الواقعة غرب الصين، ثم ساعد جنكيز خان في غزواته بالمناطق الغربية وفي هزيمة قوات أسرة شيا الغربية وفلول قوات أسرتي جين وسونغ، فأصبحت قوات هاله جيشا إسلاميا قويا تابعا لقوات جنكيز خان، الذي أعجب بشجاعة هاله وبراعته، فخلع عليه لقب قائد تشتشونغ وأقطعه أرضا، وأصدر فرمانا بأن يتوارث أبناؤه وأحفاده اللقب والأرض من بعده.

توارث أبناء وأحفاد هاله السلطة لمدة قرنين، حتى أواسط القرن الرابع عشر، عندما سقط حكم أسرة يوان وتأسست أسرة مينغ (1368-1644م). من أجل توطيد سلطته السياسية، أبقى الإمبراطور تشو يوان تشانغ ( فترة حكمه 1368 – 1398)، على ألقاب وإقطاعيات بعض وجهاء أسرة يوان، فعين هاله باشا، قائدا لقوات حراسة جينغدو ( مدينة بكين اليوم). في نفس الوقت، خشي الإمبراطور تشو أن يتمرد عليه هاله باشا وغيره من كبار مسئولي أسرة يوان القدامى فقام بجمعهم واستعمالهم، فكلف هاله باشا ومعه عدة قادة من قومية هان، بقيادة حملات تأديبية لقوى معارضة، حيث حققوا انتصارات كثيرة.

في عام 1372، أنعم الإمبراطور تشو يوان تشانغ على القائد هاله باشا وعشيرته بلقب "جيان"، الذي يعني "القمع" باللغة الصينية، تقديرا لجهوده في قمع القوى المعادية وتوسيع أراضى أسرة مينغ. ومنذ ذاك اتخذ أبناء الويغور من نسل هاله اسم "جيان" لقبا لهم. في نفس الوقت، انتهج الإمبراطور تشو يوان تشانغ سياسة التقريب والمكافأة والانصهار، فزوج الإمبراطور ابنته بالتبني تويه لهاله باشا، فكان ذلك أول مصاهرة بين أبناء هان وفرع "جيان" من الويغور.

بيد أن الإمبراطور تشو يوان تشانغ، ودرءا لاحتمال أن ينقلب عليه هاله باشا أو أن يتحالف مع فلول قوات المغول لأسرة يوان، قرر إرسال القائد الويغوري إلى جنوب الصين لحماية الحدود الجنوبية، وبذلك يكون قطع أي اتصال بينه وبين المغول في الشمال. واستعان الإمبراطور به في قمع انتفاضات الأقليات المتكررة في جنوبي البلاد في إطار سياسة "قمع انتفاضات الأقليات بالأقليات" التي انتهجها.

في عام 1373، أنعم تشو يوان تشانغ على هاله باشا بلقب دينغقوه (موطد سيطرة الدولة) وأقطعه أرضا في جينغشيانغ، هونان وقوانغدونغ حاليا. في عام 1389، قُتل هاله باشا خلال معركة لقمع انتفاضة قبلية محلية، وحل محله ابنه هاله باي تشو لكنه قتل في العام التالي. أسف الإمبراطور تشو يوان تشانغ لخسارة هذين القائدين المخلصين، وأمر بدفن الابن في مقبرة أبيه الفاخرة بولاية فنغشو في محافظة تاويوان، وأصدر فرمانا بأن يتولى جيان تشانغ لي، حفيد هاله باشا، مهمة حماية الحدود الجنوبية التي بها قبر جده وأبيه. عسكر جيان تشانغ لي وجنوده الويغوريون في مكان قريب من المقبرة، أطلق عليه "معسكر جيان". بعد ذلك استقر أبناء قومية الويغور من أسرة "جيان" في هذا المكان.

من شينجيانغ إلى جينغدو (بكين)، ومن جينغدو إلى تاويوان بهونان، لم تكن هجرتا أبناء الويغور حادثتين هامتين في تاريخ الويغور والصين فحسب، بل كانتا إنجازين عظيمين ساهما في توسيع سلطة أسرة مينغ غربا وجنوبا وتوحيد الصين وتعزيز التبادل الاقتصادي والثقافي بين مختلف الأقليات القومية في جنوبي الصين.

 

مسجد فنغشو

ولاية فنغشو (شجرة القبقب بالصينية) هي مسقط رأس المؤرخ الويغوري جيان بوه تسان. ويقال إنها سميت بهذا الاسم لأن هاله باشا وأحفاده زرعوا بها الكثير من شجر القبقب. مسجد فنغشو هو أشهر بناية في هذه الولاية. يقال إنه عندما رابط جنود هاله في هذا الإقليم سنة 1372، شيدوا قاعة صغيرة لممارسة شعائرهم الدينية. وتقديرا من الإمبراطور تشو يوان تشانغ للمآثر التي حققها هاله باشا، خصص منحة مالية لبناء مسجد في مكان القاعة، حيث بدأ البناء رسميا سنة 1381، وأنجز سنة 1393.

تزرع في باحة المسجد زهور الأقحوان فتجعله يعبق برائحة طيبة. وتخليدا لذكرى القائد هاله باشا وزوجته وابنه، شيدت بالباحة شاهدة على أساس حجر مكعب، طوله متران، وكذلك عرضه وارتفاعه. نقشت على الوجه الأمامي للحجر باللون القرمزي عبارة "مقبرة القائد هاله باشا"، وعلى الوجه الأيسر السيرة الذاتية له، وعلى وجهه الأيمن عبارة "تحفة تاريخية على مستوى المحافظة". أمام الشاهدة نصب كبير مكتوب عليه بماء الذهب عبارة "لمقدرته العسكرية شهرة واسعة في جنوبي الصين."

على مقربة من مسجد فنغشو تشمخ بناية جيانده وقاعة تشننان. بناية جيانده (الأخلاق الطيبة المتوارثة من الأجداد)، عوارضها منقوشة بالزخارف، وأعمدتها مزدانة بالرسوم الملونة. أما قاعة تشننان التي بنيت عام 1390 كمعبد للأسلاف فيتوسطها تمثال لجندي ممتشقا الدرع والخوذة، وأعلى بوابتها لوحة تذكارية مموهة بالذهب منقوش عليها كلمات "الشجاعة تهز جنوبي الصين" كتبها الإمبراطور تشو يوان تشانغ بخط يده لإحياء ذكرى أبطال أسرة جيان.

تعرض المسجد للهدم، وأعيد بناؤه مرتين؛ في فترة الإمبراطور كانغ شي لأسرة تشينغ وبعد البناء تغير اسمه إلى المسجد الغربي، وفي سنة 1915، عندما أعاد بناءه رجل يدعى جيان شان شنغ وغير اسمه إلى مسجد فنغشو. في سنة 1986 قررت الحكومة هدم المسجد لأن أبنيته كانت آيلة للسقوط، وفي عام 1988، وبعد موافقة كل من مصلحة الشئون الدينية على مستوى الدولة والمقاطعة وبمساعدة مالية منهما، قام أبناء قومية الويغور بمقاطعة هونان بتنفيذ ببناء مسجد على مساحة ثلاثة آلاف وثمانمائة متر مربع في نفس الموقع، استغرق البناء خمس سنوات وأنجز سنة 1993، وتمت تسميته مسجد فنغشو رسميا، كما نقل ضريح هاله باشا إلى داخل المسجد.

مسجد فنغشو الجديد يجمع بين الثقافتين الإسلامية والويغورية، وفيه غرف للأئمة وغرفة للخدمات الجنائزية وميضأة وغرفة للتدريس بالإضافة إلى صحن كبير للصلاة سقفه مزخرف برسوم الزهور الجميلة، والقاعة مضاءة بنور الشمس في النهار، وتتسع لمائتي فرد.

 

أبطال من ويغور هونان

في العصر الحديث، ظل أبناء الويغور بمحافظة تاويوان جنبا إلى جنب مع أبناء مختلف القوميات الشقيقة في الدفاع عن الأمة الصينية، وبزغ العديد من الأبطال الويغوريين.

في حرب الأفيون الأولى عام 1840، بعثت حكومة أسرة تشينغ لين تسه شيوي إلى مدينة قوانغتشو لحظر الأفيون، لكن الحكومة البريطانية شنت حربا عدوانية ضد الصين. كان جيان رو يان، ابن قومية الويغور في هونان، قائد أحد المعسكرات المكلفة بحماية موقع هومن في قوانغتشو، بعد أن قاد جنوده في التصدي للعدوان البريطاني لمدة سبعة عشر يوما، سقط شهيدا في ساحة المعركة. كان جيان يهتف في جنوده: "إخواني، لن نسمح لأقدام البريطانيين أن تطأ أرضنا ما بقي فينا نفس!"

المؤرخ جيان بوه تسان، أشهر شخصية من ويغور هونان، في فترة حرب التحرير الصينية (1945-1949). رحل جيان بوه تسان إلى كل مكان داخل الصين وخارجها لدراسة مسيرة التطور الاجتماعي بحثا عن السبيل المناسب لتحرير الأمة الصينية وشارك في معركة التحرير. وفي تلك الأوقات العصيبة، رافق جيان بوه تسان الرئيس ماو تسي تونغ، إلى مدينة تشونغتشينغ التي كانت في ذلك الوقت تحت سيطرة الكومينتانغ، للمشاركة في محادثات مع الكومينتانغ. بذل جيان كل جهوده لتأمين سلامة الرئيس ماو. أثناء فترة المحادثات قص جيان على الرئيس ماو تاريخ أبناء قومية الويغور بهونان واقتنع ماو برواية جيان. بعد ذلك، تعرض جيان بوه تسان لخطر كبير عندما أنقذ الرفيق لي ليو رو، العميل السري للحزب الشيوعي في المنطقة التي يسيطر عليها الكومنتانغ، والذي قبض عليه هناك. كذلك تعرض جيان بوه تسان للخطر عندما أنقذ هو تشي مين، مؤسس الحزب الشيوعي الفيتنامي وجمهورية فيتنام الديمقراطية، الذي كان في سجن للكومينتانغ بمدينة قويلين بمقاطعة يوننان. كانت مواقف جيان البطولية تثير غضب رئيس الكومنتانغ، تشيانغ كاي شيك، الذي أقسم بأن لا يتوقف حتى يقتل جيان بوه تسان. وقد أصيب جيان بوه تسان في تلك الأيام باليرقان الكبدى وفقد الوعي، وكان في بيته بشانغهاى الخاضعة لسيطرة الكومينتانغ. في تلك اللحظة الحاسمة، ساعده شو آن لاي، رئيس مجلس الدولة فيما بعد، ونقله إلى المستشفى لكي يفلت من قوات الكومينتانغ. بعد تأسيس الصين الجديدة في أكتوبر عام 1949، وأثناء الدورة الأولى للمجلس الوطني الأول لنواب الشعب التي عقدت في سبتمبر عام 1954، قدم الرئيس ماو تسي تونغ جيان بوه تسان إلى جميع المندوبين المشاركين، حيث قال ماو وهو يحمل يد جيان: "هذا رفيقنا جيان بوه تسان، المؤرخ الماركسي!".

منذ تخفيض مرتبة جيان شيانغ سنة 1467 في زمن أسرة مينغ من نائب رئيس مقاطعة إلى رئيس ولاية بسبب فشله في القبض على قطاع طرق محليين، نزعت عن أحفاد جيان الألقاب الرسمية، وانخفضت مكانتهم الاجتماعية، فعملوا بالزراعة والتجارة وبعضهم اهتم بالدراسة سعيا للمناصب. بعد تأسيس الصين الجديدة، أولت الحكومة والحزب الشيوعي الصيني اهتماما بالغا بهم، كونهم الفرع الوحيد من قومية الويغور في جنوبي الصين، فأنشأت ولاية ذاتية الحكم لقومية الويغور وأقامت في هذه الولاية أول مدرسة قومية للويغوريين، وأعدت دفعة كبيرة من الكوادر الويغوريين، ومنحتهم تفضيلات خاصة في بعض المجالات، من ذلك تقليل الحد الأدنى والمعايير المطلوبة للقبول بالجامعات والانضمام للجيش وإعدادهم ليكونوا كوادر وإعفاؤهم كليا أو جزئيا من الضرائب الزراعية. وقد زارهم كثير من قادة الصين والدول العربية والإسلامية، ولهذا ترتفع مكانتهم السياسية والاقتصادية والثقافية يوما بعد يوم.

يعيش أبناء جيان الويغوريون في انسجام مع أبناء القوميات الأخرى في هونان. بلغ عدد أجيالهم ستة وعشرين جيلا، ويصل عددهم حاليا نحو ستة آلاف نسمة، وظهر من بينهم مشاهير كثيرون، في مقدمتهم المؤرخ جيان بوه تسان. وتعتبر عشيرة "جيان" حالة خاصة في تاريخ الصين من حيث الحفاظ على حجمها وتطورها وشهرتها، مقارنة مع الأسر الأخرى ذات اللقب العائلي الفريد، والتي غالبا تختفي من مسرح التاريخ بسرعة.