ã

وللشاي أيضا ثقافة في الصين

حسين إسماعيل

مقهى لاوشه ببكين

شا الروب الأحمر الكبير

كنت أظن أنني أعلم عن الشاي في الصين الكثير، إلى أن دُعيت إلى "أمسية شاي" في بيت صيني، لأدرك أن إبريق الشاي الصيني، برغم صغر حجمه البين، أعمق كثيرا من أن يصل قاعه كبير ذواقة الشاي في العالم. ولمَ لا، والصينيون هم أول من زرع الشاي وأول من كتبوا مؤلفا كاملا عنه، في القرن الثامن الميلادي، وهو كتاب "تشا جينغ" أي "عن الشاي"، الذي يسجل كل شيء عن هذا المشروب الذي لا تُحصى أنواعه في الصين، وليس الشاي الأخضر فقط الذي يعتقد كثيرون أنه الشاي الوحيد في بلد الشاي. والشاي في الصين مشروب الفقراء والأثرياء، فأنت تجد في الصين نوعا من الشاي سعر الكيلوجرام منه يعادل دولارا أمريكيا واحدا، ونوعا آخر سعر الكيلوجرام منه ألف دولار أمريكي، ولا تسألني ما الفرق بينهما، فأنا لست خبيرا في الشاي وإن كنت أشربه بكل ألوانه، بدون سكر وبسكر، خالصا من الإضافات وممزوجا بالحليب أو النعناع والمرامية. 

والشاي الذي هو أحد أكثر ثلاثة مشروبات استهلاكا في العالم وتشربه شعوب أكثر من 160 دولة ومنطقة، ينطق باللغة الصينية "تشا"، وهذا مصدر اسمه بالعربية وبلغات أخرى. وتقول سجلات التاريخ إن الصين عرفت الشاي في أوائل  فترة أسرة هان الغربية(202 ق.م – 9م)، حيث كان الشاي مشروبا يوميا لأسر الأمراء والنبلاء. وكان يوضع، مع أشياء أخرى، في قبور الموتى. وفي زمن الأسر الجنوبية والشمالية(420 – 589 م) شاع شرب الشاي في منطقة جنوب نهر اليانغتسي، وأصبح تقديم الشاي تعبيرا عن الترحيب والاحترام ومن أساسيات إكرام الضيف. وفي أوائل القرن التاسع الميلادي انتقل الشاي من الصين إلى اليابان وبلدان أخرى.

والشاي في الصين، مثل كل شيء، لابد أن يكون له أسطورة. وتذهب أسطورة الشاي إلى أن أول من زرع الشاي اسمه وو ليانغ، فذات يوم عاد السيد وو ليانغ إلى بيته بعد أن قطف كمية من الشاي الجبلي وقنص غزالا نهريا، ولما كان مشغولا في المساء بذبح الغزال ولم يكن لديه وقت لتجفيف الشاي، فقد تركه في سلته إلى اليوم التالي، ليجده قد تخمر بعد أن بقي في السلة طوال الليل. فكر الرجل في طريقة لتجفيف الشاي فقام بتحميصه ثم سكب عليه الماء المغلي في إناء فوجد مذاق الشاي مختلفا للغاية، لذيذا لا مرارة فيه. أخبر السيد وو ليانغ أبناء قريته بما حدث وعلمهم كيفية معالجة أوراق الشاي وإعداده، فأحبوا جميعا الشاي المعتق وأسموه شاي وو ليانغ.

وإذا كان قول النبي العربي محمد صلى الله عليه وسلم: "بيت ليس فيه تمر أهله جياع" يعكس أهمية التمر في ثقافة وتاريخ العرب، فإن أبلغ دليل على أهمية الشاي في حياة الشعب الصيني هو القول الصيني القديم الذي يحدد سبعة أشياء لا غنى عنها في كل بيت صيني، وهي الحطب، الأرز، الزيت، الملح، صلصة فول الصويا، الخل، والشاي. وبلغت أهمية الشاي في الصين القديمة حدا كبيرا حيث كانت زراعة الشاي وتجارته من الموارد المالية الهامة للدولة، كما كانت الأقاليم ترسل أجود إنتاجها من الشاي جزية للإمبراطور. وفي زمن أسرة تانغ(618 – 907 م)، بدأت الحكومة تُحصل ضريبة على تجارة الشاي.

وفوجيان هي موطن الشاي الأحمر والشاي الأسود والشاي الأبيض وشاي الياسمين في الصين، فهذه المقاطعة لها تاريخ عريق في إنتاج الشاي وأبناؤها يستخدمونه في أغراض طبية منذ أسرة جين الغربية (618-907). ويبلغ عدد الذين يمارسون أعمالا لها علاقة بالشاي في فوجيان وحدها أكثر من ثلاثة ملايين فرد، أي نحو عشرة في المائة من سكان المقاطعة.

غير أن الشاي المعروف باسم وولونغ الذي يزرع في منطقة جبل وويي يعتبره المتخصصون وذواقة الشاي أفضل أنواع الشاي في العالم، وقد أدرجته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) في قائمة التراث الطبيعي والثقافي العالمي عام 2005 تقديرا لأهميته التاريخية والثقافية. ويوجد في وويي ستة أشجار لهذا الشاي تسمى بأشجار الروب الأحمر الكبير يرجع تاريخها إلى 350 سنة. وقد تم جمع أوراق الشاي من الأشجار الستة لآخر مرة ومعالجتها ثم أهديت للمتحف الوطني الصيني ليضيفها إلى مقتنياته من رموز ثقافة الشاي الصينية، ومنها شاي بور الذي تنتجه مقاطعة يوننان وكانت مزارعه في فترة أسرتي مينغ وتشينغ ممتلكات خاصة للطبقة الأرستقراطية، وكان ينقل بالخيل إلى المناطق الصينية الأخرى وإلى دول مجاورة عبر طريق معروف يحمل اسم "تشاما"، أي الشاي والخيل.  

وحتى اليوم، الشاي في الصين له طقوس ومهرجانات، ومنها المهرجان الدولي  للشاي الذي يقام سنويا في فوتشو، عاصمة مقاطعة فوجيان الواقعة شرقي الصين، حيث يعرض المشاركون فيه من الصينيين والأجانب، أحدث الاختبارات التي أجريت على الشاي وأحدث منتجات الشاي للرعاية الصحية، فالشاي ليس فقط مذاقا طيبا وإنما يفيد الصحة أيضا حيث يقال إنه مفيد للهضم وإزالة الدهون ويخفف العطش وينعش الذهن.

 وفي الصين أربعة أنواع من بيوت الشاي، أو المقاهي مجازا، وهي مقهى بكين ومقهى سوتشو ومقهى قوانغدونغ ومقهى سيتشوان. في مقهى بكين يقترن شرب الشاي بالغناء والقص الشعبي، وهي عادة بدأت منذ فترة أسرة سونغ، وأشهر مكان للاستمتاع بهذه الوجبة الثقافية الشعبية هو مقهى لاو شه، بالقرب من ميدان تيان آن من بالعاصمة الصينية. وفي مقهى سوتشو يُشرب الشاي مع الاستمتاع بالمناظر الطبيعية الجميلة التي تشتهر بها سوتشو، حاملة لقب "الفردوس على الأرض"، والاستماع لغناء بينغتان. في مقهى قوانغدونغ، يُشرب الشاي أثناء تناول الطعام، أما في مقهى سيتشوان، فإن الناس يحتسون الشاي أثناء الدردشة ولعب الشطرنج الصيني أو لعبة "ماجيانغ" الصينية التي تشبه ما يسمى في مصر بالسبعاوية أو التسعاوية.

ولكن شراب الصينيين، مثل طعامهم، طرأت عليه تغيرات مثيرة، وعندما أرى لافتات المطاعم والمقاهي الغربية تغطي شوارع المدن الصينية، أتذكر  قصة تقول إن رجل أعمال أمريكيا أراد يوما أن يقيم مصنع أحذية في دولة بأفريقيا جنوبي الصحراء، فقال له مستشاروه.. ولكن يا سيدي الناس في هذه البلاد حفاة لا يرتدون أحذية. رد الرجل الخبير.. نعلمهم كيف يلبسون الأحذية ثم نبيعها لهم!

التغيرات التي تشهدها طاولة المشروبات الصينية حاليا قد تكون، بشكل أو بآخر تطبيقا لما قاله هذا الأمريكي. فمعدة الصينيين وأذواقهم، شأن كل شئ في الصين، تتغير وبمعدلات ليست أقل من معدلات نمو الاقتصاد الصيني.

ولعل الذين زاروا العاصمة بكين قبل فترة ليست طويلة، خمس عشرة سنة مثلا، يتذكرون أن بكين لم يكن بها أي مكان في الشارع يقدم القهوة من أي نوع، ولكن الصورة اليوم تختلف تماما فقد صارت سلسلة مقاهي ستاربكس وغيرها من الأسماء المعروفة في عالم المشروبات من أبرز ملامح عاصمة الصين، فبكين حاليا بها أكثر من ثلاثة آلاف مطعم ومخبز وبار ومقهى غربي.

كيف تغيرت المعدة الصينية وكيف أصبح إفطار البكيني كوبا من الحليب وقطعة من الخبز والبيض وفنجانا من القهوة، وكيف باتت مطاعم ماكدونالدز المكان المفضل لإفطار الشباب؟ سؤال تطول الإجابة عليه.

وإذا كان الشاي مازال هو المشروب الأول في الصين، فإن هذا قد لا يستمر طويلا، بعد أن أصبحت الكوكاكولا والبيبسي كولا تحتل المرتبة الأولى في قائمة مبيعات المشروبات الباردة بالصين. والقهوة، التي لم يكن يميز الصيني رائحتها قبل أعوام، تتقدم بخطوات سريعة في ظاهرة ستكون حقيقة صادمة لمن لم يزر الصين حديثا.

لقد سأل الكاتب المصري أنيس منصور ذات مرة بعموده في صحيفة الأهرام، قائلا: ماذا يحدث لفنجان من القهوة سقطت فيه حشرة؟ ويجيب قائلا..الإنجليزي سيسكب الفنجان بما فيه؛ الأمريكي سيخرج الحشرة من الفنجان ويرميها ثم يشرب القهوة؛ الصيني سيخرج الحشرة؛ لا ليرميها بل ليأكلها، ثم يسكب القهوة؛ أما اليهودي فسيبيع الحشرة للصيني والقهوة للأمريكي. ولعلنا هنا نصحح الجزء الخاص بالصيني. صحيح أن الصينيين كما يقال يأكلون كل ما يقف على أربع باستثناء طاولة الطعام، وكل ما يحلق في السماء باستثناء الطائرة وكل ما يسير فوق الماء باستثناء السفينة، ولكن ليس صحيحا أن الصيني، في القرن الحادي والعشرين، سيسكب القهوة وإنما سيشربها وإن استحسنها سيطلب فنجانا آخر! ومن يريد التأكد يتجه إلى أقرب ستاربكس، سلسلة المقاهي العالمية الشهيرة التي لها مائتا فرع في الصين، والعشرات غيرها من المقاهي التي لا يخلو منها ركن في العاصمة الصينية، وسيرى العجب. ستارباكس كان لها فرع في قلب القصر الإمبراطوري ببكين افتتحته عام ألفين، وقد أغلق في منتصف يوليو2007، بعد حملة انتقادات لوجود هذا الرمز للثقافة الغربية في قلب واحد من أبرز رموز الثقافة الصينية التقليدية. ولكن المؤكد هو أن ثقافة الشراب الصينية تتغير، وتتعولم أيضا، فالشاي الصيني أضحى شرابا مرغوبا في كل مكان بالعالم، وبالنسبة لي يكون الشاي أفضل هدية أحملها لأصدقائي عندما أعود من الصين إلى مصر.

husseinismail@yahoo.com    

 

 

 

 

 

 

 

 

Address: 24 Baiwanzhuang Road, Beijing 100037 China
Fax: 86-010-68328338
Website: http://www.chinatoday.com.cn
E-mail: chinatoday@chinatoday.com.cn
Copyright (C) China Today, All Rights Reserved.

فرع مجلة ((الصين اليوم)) الإقليمي للشرق الأوسط بالقاهرة
رئيس الفرع: حسن وانغ ماو هو
العنوان: 5 شارع الفلاح، المتفرع من شارع شهاب
- المهندسين- الجزيرة- مصر
تليفاكس: 3478081(00202)
  ص.ب208 – الأورمان – الجزيرة – القاهرة – مصر
   الهاتف المحمول: 0105403068(002)
البريد الإلكتروني: kailuofenshe@yaoo.com.cn