بعد ظهر
الثاني والعشرين
من فبراير
عام 1993، كنت
عائدا من مقاطعة
قويتشو الواقعة
جنوب غربي
الصين. ذهبت
إلى قويتشو
مع وفد إعلامي
بالطائرة
التي استغرقت
رحلتها من
بكين إلى قوييانغ،
عاصمة المقاطعة،
ثلاث ساعات،
ولكن رحلة
العودة إلى
بكين قطعها
القطار في
نحو أربعين
ساعة. أمضيت
ثلاثة أسابيع
تقريبا بين
جبال شاهقة
ومشاهد طبوغرافية
عجيبة، وبشر
أكثر عجبا،
لم أسمع كلمة
عربية، ولا
أدري اتجاها
لقبلة الصلاة،
فقد تاهت مني
البوصلة الذهنية
لتحديد الاتجاهات.
كانت هذه أول
مرة أنعزل
عن العالم
الخارجي بهذه
الطريقة،
ولكنها كانت
عزلة ممتعة،
فالطبيعة
الساحرة العجيبة
تغريك بالتأمل
في الكون وحكمة
الخالق. في
أول عشاء لي
بقويتشو،
جلسنا وفق
ترتيب صارم،
وبدأت مراسم
الترحيب بنا
من قبل مضيفينا،
بأن دخلت فتاتان
تحملان أقداحا،
تمر كل منهما
على ضيف لتقدم
له قدحين ترحيبا
به. قبل أن يأتي
دوري، وبينما
كنت أنظر إلى
الزملاء لاحظت
أن من حاول
منهم الاعتذار
عن عدم الشرب،
ألحوا عليه
حتى شرب ما
في القدح. مِلت
على مرافقي
في الرحلة
وسألته عما
يشربون فقال
إنه أرز مخمر،
أو أنه خمر
مصنوع من الأرز.
هنا وجدت نفسي
في موقف لا
أحسد عليه،
فقد قيل لي
إن رفض الضيف
ما يقدم له
إهانة للمضيف.
همست في أذن
مرافقي راجيا
أن يحاول شرح
موقفي لهم.
كانت مهمة
صعبة، فالناس
هنا لا يعلمون
شيئا عن الأديان،
وربما يعبدون
أسلافهم أو
طواطم لهم
في تلك المنطقة
المنعزلة
تماما، بحكم
الطبيعة،
عن العالم
الخارجي. قال
مرافقي لهم:
هو مسلم، وردوا
ماذا يعني
ذلك؟ فتدخلت
وقلت: أنا من
هوي ((وه شي
هوي مين))، في
إشارة إلى
قومية هوي
المسلمة في
الصين والتي
صارت مرادفا
لمعنى المسلم،
عسى أن تتضح
الصورة لهم.
فسألوا وماذا
يعني ذلك؟
قال مرافقي:
هم لا يشربون
الخمر. وأخيرا
تم إعفائي
وبُدلت الأقداح
لي بأكواب
من مشروب آخر.
في مساء يوم عودتي إلى مسكني بفندق الصداقة في بكين، تلقيت اتصالا هاتفيا من صديق، أخبرني أن غدا، الثلاثاء، الثالث والعشرين من فبراير عام ألف وتسعمائة وثلاث وتسعين للميلاد هو الأول من شهر رمضان سنة ألف وأربعمائة وثلاث عشرة للهجرة. كان الخبر مباغتا، فأنا لم أتعود أن يأتي شهر رمضان فجأة هكذا، رمضان في بلدي، كما عرفته منذ أن وعيت على الدنيا، له مقدمات طويلة، في الشارع وفي أجهزة الإعلام وفي مطابخ البيوت وغرف تخزين الطعام بها، وفي وجوه الناس وعبارات التحية، وحتى على مستوى الحكومة. لم أر في بكين خلال سويعات النهار القليلة يوم عودتي من قويتشو شيئا أو مظاهر تشي بأن الشهر الفضيل قادم؛ لا فوانيس معلقة ولا إذاعة تبث "رمضان جانا أهلا رمضان" ولا مسئول يؤكد توفر السلع التموينية خلال الشهر، ويجزم بأن الياميش موجود بأسعار معقولة، ولا صحف تزعم أن الفوازير والمسلسلات الرمضانية ستكون جاهزة قبل بداية الشهر، لا رائحة العرق سوس ولا حركة دءوبة في الشوارع عشية بداية الشهر ولا زينات رمضانية معلقة في عاصمة الدولة التي كان عدد المسلمين بها وفقا للأرقام الرسمية التي قرأتها في نشرات وكالة أنباء شينخوا الصينية آنذاك 18 مليونا. كان ذلك جد صعب على إنسان قادم من مصر، حيث لرمضان نكهة خاصة، وحيث يعلن رمضان عن نفسه حتى لمن لا يعرفه.
ومع أول رمضان لي في الصين تعلمت عددا من الدروس التي أفادتني في الرمضانات التالية وفي غيرها من المناسبات المشابهة بالصين. كان أول درس رمضاني تعلمته أن لا أشغل بالي باستطلاع هلال الشهر، وترقب بيان دار الإفتاء، فالصين ليس بها دار إفتاء، وشهر رمضان يتم تحديده فلكيا وتعلنه مبكرا جدا الجمعية الإسلامية الصينية، وهي الجهة المعنية بشئون المسلمين الصينيين. تعلمت أيضا أن لا أشغل بالي بموعد انتهاء الشهر، وهل هو تسعة وعشرون يوما أم ثلاثون يوما، فأنت في الصين تصوم رمضان ثلاثين يوما بالتمام والكمال، ولهذا فأنا لم أصم رمضان أقل من ثلاثين يوما لمدة خمس عشرة سنة متتالية. وتعلمت أيضا أن لا أقلق على طعامي، عندما أكسل عن الطهي في بيتي، فالعاصمة الصينية التي يقطنها نحو ثلاثمائة ألف مسلم صيني بها مطاعم إسلامية تكفي أكثر من مليون آكل. ورغم هذا العدد الهائل من المطاعم التي تضع على واجهاتها لافتات باللغة العربية، مثل "طعام المسلمين"، المطعم الإسلامي"، أو فقط البسملة، تظل مطاعم أبناء شينجيانغ من قومية ويغور هي الأكثر تفضيلا لدي، فالمطعم الويغوري الواقع في مكتب منطقة شينجيانغ ببكين ظل قبلتي في إفطار رمضان وفي المناسبات الأخرى، فهو مكان يزخر بروح إسلامية، الناس فيه يستقبلونك بالتحية الإسلامية، والزخارف والأجواء إسلامية أيضا، فعلى أحد جدرانه صورة لمسجد عيدكاه الشهير في كاشغر، وعلى جدار آخر معلقات لآيات قرآنية وصور للكعبة والمسجد الحرام.
وفي زمن لم يكن الإنترنت قد ظهر، كانت إمساكية الجمعية الإسلامية الصينية هي سندي في تحديد مواقيت الإفطار والإمساك والصلاة، ولما ظهر الإنترنت وصرت أحصل على تلك التوقيتات من مواقع الإنترنت المعنية اكتشفت أنها لا تتفق دائما مع إمساكية الجمعية الإسلامية التي لاحظت أن المواقيت فيها لا تتغير تقريبا، فعندما قارنت جدول مواقيت الصلاة الذي حصلت عليه عام 1993 مع الجدول الذي حصلت عليه في عام 2000 لم أجده مختلفا.
في أول رمضان لي بالصين، كان لدي، ولدى آخرين، رغبة شديدة لخلق أجواء رمضانية لنا في مدينة يعلم قليل من أهلها عن شيء اسمه رمضان، ورغبة أشد في معرفة رمضان على الطريقة الصينية لمسلمي الصين. لهذا، وبرغم المسافة البعيدة بين بيتي وأقرب مسجد من مساجد بكين التي يزيد عددها على الخمسين مسجدا، قررت ذات يوم ألا أحرم نفسي من متعة صلاة القيام جماعة، وكابدت البرد القارس لشتاء عام 1993 وقطعت بعد الإفطار نحو ثلاثة أميال إلى جامع هايديان، حيث جلست قليلا إلى أن رُفع الأذان وأقيمت صلاة العشاء ومن بعدها صلاة القيام، التي صليتها مع من في المسجد إحدى وعشرين ركعة، كل هذا في نصف ساعة تقريبا. كنت أحاول جاهدا مواكبة الإمام الشاب في الركوع والسجود، وكان من الصعب علي أن أردد دعاء أو أمنية في نفسي في تلك اللحظات الخاصة جدا. كنت أريد أن أطيل قليلا في السجود، ولكنني أدركت أن ذلك قد يفقدني الركعة التالية. وكان علي أن أجد بديلا، وكان البديل مكانا في حي سانليتون للسفارات ببكين، مساحة استأجرتها سفارة إسلامية لتقام بها الصلاة خلال شهر رمضان، ولكن المسافة من بيتي إلى هذا الحي نحو عشرين كيلومترا، وكان علي أن أختار.
وخلال رمضاني الأول في الصين اكتشفت مكانا اسمه شارع نيوجيه، وترجمته الحرفية هي شارع البقر، الذي يقع به أقدم مسجد في بكين ويحمل اسم الشارع. كثير من سكان هذا الشارع ينتمون لقومية هوي، وهي واحدة من عشر قوميات صينية تدين بالإسلام. في هذا الشارع أو الحي شعرت بشيء من رمضان الذي أعرفه، فهنا مظاهر ومعالم تشي بأن شيئا مختلفا يحدث في هذا الوقت من العام، وهنا الناس يعرفون وجهتك ومقصدك وأنت في الطريق إلى المسجد، وهنا لا تعدم رؤية مظاهر بهجة وتهنئة برمضان، فحتى غير المسلمين من سكان الحي لديهم معرفة بالثقافة الإسلامية.
حاولت، أنا ومن عرفتهم من أصدقاء مسلمين وعرب ببكين، أن "نرمضن" شهرنا على طريقتنا، فصرنا نجتمع للإفطار في بيت أحدنا من حين لآخر، نمارس طقوسنا الرمضانية التي نستعين فيها بشريط مسجل لتلاوة القرآن بصوت الشيخ محمد رفعت أو الحصري، وتواشيح دينية بصوت الشيخ النقشبندي وأدعية دينية، بل وصوت مدفع الإفطار على الطريقة المصرية، تماما كأننا نجلس في شرفة بيت بالقاهرة أو دمشق. كان ذلك في زمن ما قبل الفضائيات، ولكن مع وصول بث القنوات الفضائية العربية والإسلامية إلى بكين، تبدل الحال، وصرنا على تواصل يومي مع أوطاننا، نشاهد برامج ومسلسلات محطاتنا التلفازية، ونقرأ على الشاشة موعد الإفطار والإمساك في مدينتنا، بكين، وزحفت الأطعمة والحلويات العربية نحو العاصمة الصينية، فصار رمضاننا الصيني يُحلى بالقطائف والكنافة وأم على والبسبوسة.
في رمضاني بالصين يرافقني إحساس خاص في بلد الطعام والشراب فيه يمثل ركنا هاما من ثقافته، فالناس في الصين يقولون، بالنسبة للشعب الطعام سماء، وهم يقدسون مواعيد الطعام لدرجة تقترب من تقديس المؤمن لمواقيت صلاته، ويعجبون منك، وقد لا يصدقون أنك تمتنع نهارا كاملا عن الطعام والشراب، وربما ينصحون ويسألون، ألا تشرب بعض الماء؟ وأقول لهم إن المسألة ليست مجرد امتناع عن طعام وشراب، إنه رمضان!
husseinismail@yahoo.com