ã

أصدقاء الصين في بيدايخه 2007

حسين إسماعيل

صورة جماعية للخبراء الحاصلين على جائزة الدولة مع العاملين لمصلحة الدولة للخبراء الأجانب

ذات صباح في شهر يونيو هذا العام، أُبلغت بأن ثمة رحلة إلى بيدايخه في النصف الأول من يوليو. كان من أبلغني يريد مني إجابة عما إذا كنت سأذهب. بدون حتى استيعاب الموعد ولا الجهة المنظمة ولا رفاق الرحلة قلت: بالطبع ذاهب.

أثار اسم بيدايخه في نفسي ذكريات وأحداثا ووجوها ومواقف ومشاهد وبنايات وحدائق وزهورا ورمالا وأصدافا وروائح ونقاشات وحوارات. كانت آخر مرة زرت فيها بيدايخه سنة ألفين وواحد، قبل شهرين من أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وكان آخر نبأ تلقيته وأنا بها هو فوز بكين بتنظيم دورة الألعاب الأولمبية لعام 2008.         

وقد ظننت حتى وقت غير بعيد أن مشاعري وهواجسي وأحلامي وخيالاتي وأشجاني التي تولد في بيدايخه لا يشاطرني فيها أحد، ولكنني أدركت لاحقا أن بيدايخه لها عمق "عربي" آخر، سبقني بسنوات، وذلك بعد أن قرأت رواية للأديب السوري حنا مينة الذي عمل عدة سنوات في الصين، إبان حقبة المد الشيوعي في بداية ستينيات القرن الماضي. الرواية التي تحمل عنوان ((حدث في بيتاخو))، كتبها مينة ضمن ثلاثية عن الصين ضمت أيضا ((عروس الموجة السوداء)) و((المغامرة الأخيرة))، ونشرها سنة 1995، ولم تتيسر لي قراءتها حتى سنة 2002.

فندق الصداقة في بيدايخه BEIDAIHE، التي كتبها مينة في روايته ((بيتاخو))، وهو فرع لفندق كبير يحمل نفس المُسمى ببكين، كان ساحة الأحداث الرئيسية لرواية حنا مينة، التي تعتبر سجلا وثائقيا لفترة من تاريخ الأجانب في الصين، وبخاصة العرب منهم. في غرف فندق الصداقة، الذي أقمت فيه خلال زياراتي الثماني لبيدايخه، كنت أجلس بعد قراءة ((حدث في بيتاخو)) وأكاد أرى شخوص رواية مينة تمرق من أمامي أو تمشي متسكعة بين أشجار حديقة الفندق الواسعة التي تتناثر بينها الفيلات ذات الثلاثة طوابق. تغيرت أشياء كثيرة في بيدايخه 2007 عن بيدايخه رواية مينة، ولعل فندق الصداقة بها هو المعلم الوحيد الذي لا يزال محتفظا بملامحه التي كان عليها قبل نصف قرن تقريبا.

وبيدايخه التي أخذت بلُبي وبألباب كثيرين، منتجع سياحي يعني اسمها "الواقعة شمالي نهر داي"، وتوجد مقابلها على الضفة الأخرى للنهر بلدة ناندايخه، أي الواقعة جنوبي نهر داي، وكلمة داي تعني الحزام أو النطاق، وربما يحمل النهر هذا الاسم لأنه يشبه الحزام فعلا. وكل من بيدايخه وناندايخه يقع في زمام مقاطعة خبي بشمالي الصين، على مسافة نحو ثلاثمائة كيلومتر إلى الشرق من بكين. كان القطار يقطع المسافة بين العاصمة الصينية وبيدايخه في تسعينات القرن الماضي في نحو أربع ساعات، ولكنه اليوم يقطعها في ساعة ونصف فقط، كدليل آخر على ما تشهده الصين من تغير متسارع. وكانت بيدايخه من المقاصد الصيفية المفضلة للزعيم الصيني الراحل ماو تسي تونغ، وقد رأيت في ألبوم يضم مجموعة نادرة من صور ماو، صورا له بلباس البحر يسبح في مياه بحر بوهاي في بيدايخه، ربما في نفس المكان الذي سبحت فيه أنا. وكانت مصلحة الدولة الصينية للخبراء الأجانب، وهي الجهة المعنية بالأجانب العاملين لدى الحكومة الصينية، تنظم في صيف كل سنة رحلات إلى بيدايخه للأجانب التابعين لها ويعملون في بكين مقابل مبلغ ليس كبيرا يدفعه الخبير. كان الخبراء الأجانب يذهبون برفقة زملائهم الصينيين في مجموعات تقضي كل منها أربع ليال في هذه البلدة الساحلية، يقيمون بفندق الصداقة في بيدايخه، على مسافة أمتار من بحر بوهاي، وتوفر لهم الجهة المنظمة كل سبل الإقامة المريحة، وما حدث في رواية مينة، كان ضمن واحدة من تلك الرحلات.

في عام ألفين واثنين توقفت زيارات الخبراء الأجانب التي تنظمها مصلحة الدولة للخبراء الأجانب إلى بيدايخه، ولفترة انزوت بيدايخه في ذاكرتي وذاكرة كثير من الذين صحبتهم في رحلات بيدايخه، ولكن هذه البلدة الصغيرة حفرت ذكرياتها في أذهان كثير من الأجانب الذين عملوا في الصين، بجمالها الهادئ وطبيعتها الساحلية الساحرة، والأجواء الخاصة التي كان يعيشها الأجانب بها، بل والمغامرات والقصص العاطفية والحوارات السياسية والاجتماعية، مثل تلك التي رصدها حنا مينة في "حدث في بيتاخو".

جمعتني رحلة بيدايخه 2007 بخمس وخمسين فردا من الخبراء الأجانب وزوجاتهم، يحملون ست عشرة جنسية مختلفة، ويعملون في شتى أنحاء الصين تقريبا؛ من شينجيانغ إلى شاندونغ، ومن يوننان إلى لياونينغ، في تخصصات مختلفة، من الجيولوجيا إلى هندسة السيارات، ومن التدريس إلى الصحافة والإعلام، ربما الشيء الوحيد الذي يجمع بينهم هو أنهم قدموا ويقدمون للصين خلاصة علمهم وتجربتهم وخبرتهم، ولهذا حصلوا على جائزة الصداقة الصينية، التي هي أعلى تكريم تمنحه الحكومة الصينية للأجانب الذين يعملون بها، وقد نلت في عام 1999شرف الحصول على هذه الجائزة التي بلغ عدد الحاصلين عليها منذ إنشائها عام 1991 حتى الآن ثمانمائة وتسع وتسعين فردا.

كانت الرحلة هذه المرة للخبراء الأجانب الحاصلين على جائزة الصداقة فقط، ومعظمهم من كبار السن، فباستثناء نحو عشرة أفراد كان باقي رفاق الرحلة فوق الستين ربيعا، أكبرهم عمره أربع وسبعون سنة. وقد علمنا خلال اللقاء الذي رُتب لنا مع الوزير جي يون شي،  رئيس مصلحة شئون الخبراء الأجانب أن تنظيم هذه الرحلة جاء تنفيذا لتوجيهات من رئس وزراء البلاد ون جيا باو بأهمية تحسين الظروف المعيشية للخبراء الأجانب المقيمين بالصين الذين بلغ عددهم العام الماضي، 2006 نحو أربعين ألفا.

والحقيقة أن وصف "الخبير الأجنبي" في الصين هو  التسمية التي تطلق على المتخصصين الأجانب الذي يعملون في الصين، بطلب من الحكومة الصينية، في مجالات الإدارة الاقتصادية والتكنولوجية والتعليم والعلوم والثقافة والإعلام والصحة. وتمنح الحكومة هؤلاء الخبراء بعض الامتيازات التي تيسر لهم إقامتهم ومعيشتهم في الصين، خاصة أن عددا ليس قليلا منهم يختار الصين وطنا ثانيا له ويقيم بها لفترة طويلة. بيد أنه ومع ارتفاع مستويات المعيشة وتكاليفها في الصين تتآكل هذه الامتيازات، ولعل دعوة السيد ون جيا باو للاهتمام بهذه الفئة من الأجانب جاءت استجابة لتغيرات الواقع في الصين والذي يتطلب إعادة النظر في المعاملات التي يتمتع بها الخبراء الأجانب.

    عودة إلى بيدايخه 2007 والتي اختلط فيها الجمال الصيني بالجمال الروسي، وتداخلت فيها المقاطع الصينية مع الكتابات الروسية التي تكاد تغطي واجهة كل متجر ومطعم وفندق، وتنوعت الموسيقى الهادرة من أبواق منصوبة على الشواطئ، ما بين الأغاني الصينية والروسية والعربية والأمريكية، لدرجة أدهشتني، فعندما سمعت صوتا عربيا يغني في سيارة بي إم دبليو بحديقة فندق الصداقة ظننت أن الشاب الذي يقودها عربي، ولما نظرت إليه قال إنه أذري، من أذربيجان ويحب الموسيقى العربية.

على مدى أسبوع، هو فترة إقامتنا، تحول شاطئ البحر في بيدايخه إلى أمم متحدة مصغرة، شهدت حوارات في السياسة والاقتصاد والدين والثقافة؛ تحدثنا عن العراق وجورج بوش وعن غزة وحماس وفتح وإسرائيل، عن النظام الاقتصادي العالمي الجديد وعن الإسلام والمسيحية واليهودية، واكتشفت في النهاية أن معنا سيدة بهائية، تكلمنا في الثقافة العربية والإعلام الغربي، عن اللغة الصينية والعربية والألمانية. تعلم بعض رفاق الرحلة عبارات عربية، وازدادت حصيلتي من لغات أعرف منها القليل، وأعجبتني كلمة دروجبا الروسية التي تعني ((الصداقة)) وصرت أرددها كلما التقيت شخصا روسيا. تأثرت كثيرا بروح الوطنية التي تشيع بين من التقيت بهم على شاطئ البحر من شباب روسيا من الجيل الجديد، وكدت أضرب تعظيم سلام لجالينا الروسية ذات العشرين ربيعا التي تدرس الاقتصاد الدولي، وتجتهد في تعلم الإنجليزية والصينية، والتي قالت لي: "نحن جيل روسيا الجديد، نريد أن تصبح دولتنا أقوى دولة في العالم"، ولما سألتها عن فلاديمير بوتين، رئيس روسيا، قالت: أحبه لأنه يعمل من أجل أن تصبح روسيا قوية، وعن بوريس يلتسن، الرئيس الروسي السابق، قالت: أكره هذا السكير، ووصفت ميخائيل غورباتشيف بالأحمق الذي ضيع الاتحاد السوفيتي. العجيب أنني عندما سألتها عن متوسط دخل الفرد في المنطقة التي تعيش بها في شرقي روسيا، رفضت وقالت إن هذا من أسرار بلادي! وتمنيت في نفسي أن يكون الشباب العربي على نفس هذا المستوى من الحمية للوطن وأن يحرص على التسلح بالعلم والمعرفة مثلما أرى هنا في الصين وفي بلاد أخرى ناهضة بقوة.

رحلة بيدايخه، على الأقل بالنسبة لي، أكثر من مجرد سفرة إلى مصيف، إنها عالم واسع يجلي الفكر ويوسع الأفق، تُخرجني من إسار وإطار زمن الحياة اليومية في المدن اللاهثة المكتظة بالبشر والبضائع والحافلات.

husseinismail@yahoo.com                   

 

 

          

 

 

 

 

 

 

 

Address: 24 Baiwanzhuang Road, Beijing 100037 China
Fax: 86-010-68328338
Website: http://www.chinatoday.com.cn
E-mail: chinatoday@chinatoday.com.cn
Copyright (C) China Today, All Rights Reserved.

فرع مجلة ((الصين اليوم)) الإقليمي للشرق الأوسط بالقاهرة
رئيس الفرع: حسن وانغ ماو هو
العنوان: 5 شارع الفلاح، المتفرع من شارع شهاب
- المهندسين- الجزيرة- مصر
تليفاكس: 3478081(00202)
  ص.ب208 – الأورمان – الجزيرة – القاهرة – مصر
   الهاتف المحمول: 0105403068(002)
البريد الإلكتروني: kailuofenshe@yaoo.com.cn