ã

الصين المدخنة تمتنع من أجل الأولمبياد

حسين إسماعيل

في المهرجان الرياضي للمجموعة الصينية للنشر الدولي

حملات توعية للإقلاع عن التدخين

من التقاليد الحميدة في الصين أن المؤسسات والهيئات بها تنظم من حين لآخر نشاطات رياضية يشارك فيها جميع العاملين بالمؤسسة أو الهيئة. وهذه النشاطات، إضافة إلى دورها في توثيق العلاقات بين أسرة العاملين، فإنها تجدد حيويتهم وتذكرهم بالقيمة الصحية، البدنية والنفسية، لممارسة الرياضة. وسيرا على هذا النهج، نظمت المجموعة الصينية للنشر الدولي، وهي المؤسسة الأم التي تنتمي إليها ((الصين اليوم)) في نهاية شهر إبريل هذا العام فعاليات رياضية بملعب إحدى الجامعات ببكين، شاركت فيها كافة الوحدات التي تنتمي للمجموعة. وقد جاء موقع جلوسنا، نحن أعضاء أسرة ((الصين اليوم))، في مدرجات الملعب مجاورا للزملاء في الشقيقة ((الصين المصورة))، وهي مجلة عريقة لها تاريخ طويل وكانت تصدر باللغة العربية حتى سنوات قليلة عندما تقرر إغلاق قسم اللغة العربية وأقسام أخرى بها.

بينما كنت استنشق نسمات الصباح الربيعية النقية في ذلك اليوم الرياضي الصحي الجميل حمل لنا الهواء تيارا داكنا من جهة رفاقنا في ((الصين المصورة)) فأدرت وجهي استكشف مصدر هذه "السحب السوداء"، لتفاجئني صورة عدة مداخن منطلقة من بين الأصابع والشفاه. قلت لمن حولي، لقد جعلوها "الصين المدخنة"، وليس الصين المصورة.  

الشعار الذي ترفعه الصين لدورة الألعاب الأولمبية التي تستضيفها العام القادم هو "أولمبياد إنسانية وخضراء وتكنولوجية". والحقيقة أن جهودا كبيرة بذلت وتبذل في هذا البلد كي تجسد دورة بكين الأولمبية هذا المعنى، يشمل ذلك حملات تعزز اللمسة الإنسانية خلال فترة الألعاب وتكسوها باللون الأخضر، وتوظيف أحدث التكنولوجيا لخدمة الدورة. وفي هذا الإطار تتعاون وزارة الصحة الصينية مع اللجنة الصينية المنظمة لدورة الألعاب الأولمبية لضمان عدم التدخين خلال فترة الدورة. ولكن مهمة حظر التدخين في الصين جد صعبة، فالصين التي يعيش بها خُمس سكان العالم بها ثلث مدخني العالم، وحسب دراسة لمعهد بوسطن للوقاية من السرطان يموت أكثر من مليون شخص في الصين سنويا بسبب أمراض لها علاقة بالتدخين، بينما الرقم وفقا للجمعية الصينية لمكافحة التدخين هو مليون ومائتا ألف شخص، أي ما يعادل ربع إجمالي الذين يموتون في كل العالم لأسباب لها علاقة بالتدخين  وتحذر دراسات من أن الرقم سيتضاعف بحلول عام 2025.

والمخيف هو أن ثلاثة بالمائة فقط من نساء الصين وواحد بالمائة من المراهقين مدخنون حاليا، وهم الفئتان المرشحتان، لأسباب عديدة، للانضمام إلى صفوف المدخنين، وتضع شركات التبغ عيونها عليها. وشركات التبغ في الصين ليست هينة، فهي تحقق عائدات هائلة، لدرجة أن الضرائب التي دفعتها شركات التبغ الصينية للحكومة عام 2005 بلغت 32 مليار دولار أمريكي، أي نحو 7,5% من إجمالي الناتج الوطني للصين في تلك السنة، فالصين أكبر سوق للسجائر في العالم أيضا، حيث بلغ عدد السجائر التي بيعت بها عام 2003، وهو آخر عام استطعنا العثور على إحصاءات له، نحو 95ر1797 مليار سيجارة، ولا بد أن الرقم حاليا أعلى كثيرا. والصين، من بين مائة بلد منتج للتبغ في العالم، تنتج وحدها أكثر من 35 في المائة من الإنتاج العالمي للتبغ، وإنتاجها مع إنتاج الهند والبرازيل والولايات المتحدة وتركيا وزيمبابوي وملاوي، يمثل أكثر من 80 في المائة من إجمالي التبغ العالمي. 

لم يعد مشهدا غريبا، وإن كان منفرا على الأقل بالنسبة لي، أن ترى طفلة عمرها خمس عشرة أو ست عشرة سنة ترتدي الزي المدرسي، وتشعل سيجارة في طريقها إلى محطة الأتوبيس، ولكن هذا المشهد صار يتكرر في بكين بمعدلات متزايدة.   

يحدث هذا برغم الجهود التي تبذلها الحكومة للسيطرة على زيادة عدد المدخنين، على الأقل من صغار السن، فالصين وقعت في عام 2003 على المعاهدة الإطارية لمنظمة الصحة العالمية للحد من تجارة التبغ، وبعد أن صدقت عليها الهيئة التشريعية الصينية؛ المجلس الوطني لنواب الشعب، أصبحت المعاهدة سارية المفعول في أنحاء الصين. المعاهدة تطالب بحظر الإعلان والترويج للتبغ بأي وسيلة في كافة أقاليم جمهورية الصين الشعبية. وتلزم المعاهدة جميع تجار التبغ وضع علامات واضحة وبارزة داخل أماكن البيع تبين منع بيع التبغ لمن يقل عمره عن ثماني عشرة سنة، ومطالبة المشتري بتقديم ما يثبت أنه فوق هذه السن إذا شك البائع في عمره. والحقيقة أن الصين أصدرت عام 1999 لوائح مشابهة لما نصت عليه معاهدة منظمة الصحة العالمية، أي قبل التصديق على المعاهدة وبالفعل تم حظر التدخين في وسائل النقل العام والأماكن العامة المغلقة، وهناك التزام بهذا الحظر إلى حد كبير، فأنت لا تجد شخصا يشعل سيجارة في وسيلة نقل عام أو في مكان عام مغلق. ولكن باستثناء ذلك تنفيذ اللوائح ليس صارما بشكل كاف وهناك طرق عديدة للتحايل على تنفيذها. وقد رأيت أطفالا صغارا يشترون السجائر لآبائهم ولأنفسهم. ولا عجب أن تعرف أنه وفقا لدراسة أجرتها مصلحة الدولة لمكافحة التدخين بطريقة العينة العشوائية وشملت 220 ألف شخص في 183 مدينة ، يوجد بين الثلاثمائة مليون ونيف مدخن في الصين خمسة ملايين طفل.

الصورة التي تقدمها منظمة الصحة العالمية ليست قاتمة تماما، فهي تطالب دول العالم ومنها الصين باتخاذ ما تسميه "سياسة جريئة" للحد من التدخين، وحسب المنظمة فإنه إذا تم تطبيق هذه السياسة الجريئة لمكافحة التدخين والتبغ، فإن استهلاك الفرد من التبغ يمكن أن يهبط حتى نسبة 20 في المائة. ولاحظت المنظمة أن متوسط  استهلاك الفرد من التبغ يتجه إلى الانخفاض في الدول المتقدمة، ويهبط بصورة معتدلة في الدول النامية بما في ذلك الصين. وما يبعث على بعض التفاؤل هو توقعات المنظمة بأن الإنتاج العالمي من أوراق التبغ  سيصل 1ر7 مليون طن عام 2010، وهو وإن كان رقما أعلى من رقم 9ر5  مليون طن للفترة  1997- 1999، فهو أقل من الرقم القياسي الذي سجله إنتاج التبغ عام 1992 وهو 5ر7 مليون طن. وتتوقع المنظمة أنه على الرغم من الزيادة الإجمالية لاستخدام التبغ، سينخفض استهلاك البالغين منه بنسبة 10% بحلول عام 2010، حيث يحتمل أن يبلغ استهلاك الفرد نحو 4ر1 كجم في السنة مقارنة مع 6ر1 كجم عام 2000. ولكن الجزء الرئيسي من الزيادة المتوقعة في الطلب على التبغ يتوقع أن يأتي الصين، حيث تشير الدراسات إلى أن حصة الصين من إجمالي الطلب العالمي على التبغ ستظل في حدود 37 في المائة بحلول عام 2010.
وشأن دول العالم الأخرى، تدخين السجائر هو أكثر أنواع استهلاك التبغ شيوعا في الصين، التي هي أكبر مستهلك في العالم للسجائر المصنعة والملفوفة يدويا، فالشيشة أو النرجيلة لم تنتشر في الصين حتى الآن وإن كانت قد عرفت طريقها إلى المقاهي والمطاعم العربية في المدن الصينية، كما بدأت تطل بعنقها الطويل في محلات التحف بعدد من الأسواق الصينية.

على الصعيد الطبي، تظهر من حين لآخر إعلانات عن لصقات وأنواع من المشروبات تروج على أنها تساعد في الإقلاع عن التدخين، وقد نشرت ((الصين اليوم)) عن نوع من تلك اللصقات، كما نشرت مجلة ((البحوث الطبية)) الصينية تقريرا مفاده أن شرب كوب من عصير الجرجير على الريق صباحا يساعد الجسم على التخلص من سموم النيكوتين المتراكمة نتيجة التدخين، كما يساعد في التخلص من الأعراض المصاحبة للتدخين مثل فقدان الشهية للطعام والشعور الدائم بالكسل ثم والأهم، الإقلاع عن التدخين.

ولكن لوائح الحكومة وحملات الدعاية من حين لآخر، تظل كلها جهودا محدودة الفعالية مع قلة الوعي، خاصة بين فئات العمال والفلاحين والحرفيين، بالتأثيرات الضارة للتدخين على المدخن نفسه وعلى المدخنين السلبيين الذين يتنفسون دخانا لا ذنب لهم فيه، ومع الافتقار إلى إرادة التوقف عن التدخين، حتى وإن استُخدمت اللصقات وشُربت عصير الجرجير. ولعل هذا يفسر ازدياد عدد المدخنين في الصين وانضمام فئات لم تكن تصنف ضمن المدخنين تقليديا إلى القائمة، وإذا كانت تقارير عديدة تنصح بتوظيف سياسات ضريبية فعالة وفرض قيود مباشرة على تجارة وتوزيع التبغ، كوسيلة ناجعة للحد من شيوع التدخين، فإن ارتفاع مستوى دخل الصينيين يقلل من تأثير رفع السعر على كمية الاستهلاك، خاصة وأن الصين بها آلاف الأنواع من السجائر التي يتراوح سعرها من نصف يوان إلى أكثر من مائتي يوان، فهي توفر للمستهلك تنوعا كبيرا يرضي كافة الفئات المتباينة الدخل.

إن الصين التي تقف على مسافة عام واحد من استضافة الأولمبياد وتريد أن تجعلها دورة مميزة، تأمل أن يكون هذا الحدث نقطة فارقة لتقليل عدد المدخنين في الصين، تماما مثلما سيكون علامة ومعلما في انفتاح الصين على العالم أكثر، فهل تستطيع الصين تغيير صورتها المدخنة؟

 

husseinismail@yahoo.com

 

 

 

 

 

 

 

Address: 24 Baiwanzhuang Road, Beijing 100037 China
Fax: 86-010-68328338
Website: http://www.chinatoday.com.cn
E-mail: chinatoday@chinatoday.com.cn
Copyright (C) China Today, All Rights Reserved.