ã

ابن بيتك.. على الطريقة الصينية

حسين إسماعيل

يوي لينغ قانغ (اليسار) يتناقش مع الراغبين في بناء البيوت جماعيا

قبل سنوات اتصل بي زميل صحفي من القاهرة وأخبرني بأن الجريدة التي يعمل بها تريد أن تفتتح مكتبا في بكين، وطلب مني أن أعد له تقريرا حول التكلفة الاقتصادية لهذا العمل. بعد السؤال والاستفسار والتحري أعددت له تقريرا بالتقديرات المبدئية لتكلفة افتتاح مكتب في بكين، شاملة قيمة الإيجار السنوي لمقر المكتب. بعد أيام اتصل الزميل مرة أخرى طالبا التأكد من صحة الرقم الذي ذكرته لإيجار المقر، فأكدت له أنه لا يوجد خطأ، وأوضحت له بأن شقة عادية مساحتها مائة متر فقط وسط بكين يمكن أن يصل ثمنها إلى ربع مليون دولار أمريكي.

 والحقيقة أنه بعد  تأسيس الصين الجديدة عام 1949 لم يكن المواطن الصيني في المدينة يفكر في أن يمتلك بيتا، لسببين، أولهما أن الحكومة لم تكن تسمح بالملكية الخاصة، فكل شئ ملك للدولة، ثانيهما أنه حتى ولو سمح بامتلاك العقارات، لم يكن لديه القدرة المادية التي تمكنه من شراء مسكن. كان كل من يعمل في الحكومة والقطاع العام يحصل من جهة عمله على مسكن بإيجار رمزي، تماما مثلما كان يذهب أطفاله إلى الحضانة والمدرسة التابعة لوحدة عمله التي تتحمل أيضا تكلفة علاجه وزواجه وحتى مصروفات جنازته عندما توافيه المنية. ولكن ذلك كله انتهى بعد أن كُسر ((القدر الكبير)) الذي كان الصينيون جميعا يتناولون منه طعامهم. منذ تبني الصين سياسة الإصلاح الاقتصادي في أواخر السبعينات شرعت الحكومة في التخلي عن السياسات السابقة في العلاج والسكن والرعاية الاجتماعية وغيرها، وبات على الفرد أن يجد بنفسه المسكن الذي يريده، ويسـتأجره أو يشتريه بأسعار السوق، بعد أن قررت الصين في عام 1998 إلغاء نظام توزيع المساكن على العاملين وتقديم معونة إسكان للموظف عوضا عن ذلك. ومع انفتاح المجتمع والازدهار الاقتصادي أصبح عدد غير قليل من الصينيين لديهم القدرة على شراء بيوتهم، وظهر العديد من شركات التنمية العقارية ولجت هذا القطاع الجديد الذي يزكي سخونته تعطش الصينيين إلى "الامتلاك" بعد أن حرموا منه عقودا من الزمن، فصار امتلاك شقة، وسيارة أيضا، هاجسا وأملا  لكل أسرة صينية تقيم في المدينة، حيث وصلت نسبة الوحدات السكنية المملوكة لأفراد في المدن والبلدات 82% من إجمالي المساكن، حسبما ذكرت وكالة أنباء شينخوا. وارتفعت أسعار العقارات السكنية ارتفاعا جنونيا في المدن الكبيرة مثل شانغهاي وقوانغتشو وبكين، فسعر المتر المربع في شقة تمليك بمدينة بكين يمكن أن يصل إلى أكثر من ألفي دولار أمريكي، وحسب أرقام مصلحة الإحصاء الصينية وصل متوسط سعر المتر المربع للعقارات السكنية على مستوى الصين في يونيو العام الماضي  326.5 دولارا أمريكيا. وهكذا، وكما قالت زميلة صينية، فإن عددا كبيرا من سكان مدن الصين ينتمون إلى فئة المليونيرات، فسعر شقة عادية في ضواحي بكين يزيد على مليون يوان صيني. وأصبحت شقة التمليك صداعا يدق رأس كثير من أبناء المدن الذين ليس لديهم من المال ما يمكنهم من امتلاك البيت الذي يريدونه، فحسب استطلاعات رأى أجرتها بعض مواقع  الإنترنت قبل انعقاد دورة المجلس الوطني لنواب الشعب هذا العام في شهر مارس، جاء ارتفاع أسعار المساكن على رأس قائمة أكثر ما يشغل الصيني، متقدما على التعليم والرعاية الطبية، فتدبير خمسمائة ألف يوان (65 ألف دولار أمريكي تقريبا) كمقدم لشقة مهمة شبه مستحيلة لزوجين شابين عاديين راتبهما في الشهر حوالي خمسة آلاف يوان. 

 ولكن هذا الصداع العقاري كان له وجه إيجابي، فقد أدى إلى ولادة مفهوم عقاري جديد لم يعرفه أو يألفه الصينيون من قبل، ألا وهو بناء البيوت جماعيا، وهو أسلوب شبيه بما يسمى في مصر تعاونيات الإسكان، بمعنى أنه بدلا من أن تشتري شقة من شركة تنمية عقارية، تشارك آخرين من الراغبين في شراء شقق وتتولون بأنفسكم بناء بيوتكم، من الألف إلى الياء.

أنصار هذا الأسلوب يعددون مزاياه، ومنها أنه يعطي المشاركين فرصة اختيار قطعة الأرض وتحديد التصميم الذي يفضلونه، ثم والأهم هو الحصول على بيت بثمن أقل كثيرا من أسعار السوق، التي تتضمن إضافة إلى تكلفة الإنشاءات هامش ربح شركات التنمية العقارية، والأكثر أن المشاركين يمكنهم تحقيق ربح إذا قرروا تأجير جزء من بنايتهم لأغراض تجارية.

ولكن كيف يمكن تكوين مجموعة تعاونية لهذا الغرض؟

ببساطة شديدة يمكن فتح حساب في بنك محدد وإيداع المال للمشروع. رائد هذا التوجه الجديد، وهو مواطن بكيني اسمه يوي لينغ قانغ، يسعى حاليا لتطوير ثلاثة مشروعات من هذا النوع ببكين يشاركه فيها ثمانون فردا. وقد امتد مفهوم البيت الجماعي إلى نحو ثلاثين مدينة صينية جذب آلافا من المشترين منذ عام 2004 عندما طرح السيد يو هذه الفكرة لأول مرة على ضوء ارتفاع أسعار العقارات بشكل يفوق قدرة المواطن العادي على تحقيق حلمه بامتلاك مسكن.

خلال معرض العقارات الذي عقد في بكين نهاية شهر مارس هذا العام تحدث يو لينغ قانغ إلى حضور المعرض عن فكرته، وأبدى كثيرون اهتماما بها، ولكن الاستفسار المشترك الذي طرحوه هو كيفية ضمان أمان وديعتهم المالية، وما هو الموقع التي سيختاره يو لمشروعهم. البعض من المتحمسين للفكرة قالوا إن المثير في ذلك هو أننا نستطيع أن نناقش فيما بيننا التصميم الذي نريده لبيوتنا التي سنعيش فيها بقية حياتنا.

المشكلة التي يواجهها مشروع "ابن بيتك بنفسك" هي أن العثور على قطعة أرض بسعر معقول في مدينة مثل بكين مهمة جد صعبة، فالأرض في الصين لا تنتقل ملكيتها لأحد، فهي ملك للدولة، وما يحصل عليه الأفراد أو الشركات هو ما يسمى حق استخدام الأرض لمدة معينة، ويتم شراء هذا الحق من الجهات الحكومية المعنية، وعلى رأسها وزارة الأراضي. لهذا فإنه عند الحصول على حق استخدام الأرض، تكون قوة الأفراد متواضعة، ماليا وإجرائيا، عند التنافس مع شركات التنمية العقارية العملاقة ذات النفوذ والصلات التي تيسر لها الإجراءات. غير أن هذا لا يعني أن الحصول على الأرض مهمة مستحيلة للأفراد الذي يتحدون معا لبناء بيوتهم، في مدينة ونتشو بمقاطعة تشجيانغ التي شهدت ظهور العديد من المضاربين العقاريين، حصل مجموعة من مائتي وستين فردا على قطعة أرض مقابل مائة وخمسة ملايين يوان، وكانوا أول مجموعة أفراد تحصل على حق استخدام الأرض في الصين.

من جانب آخر يرى بعض الخبراء أن "بناء البيت جماعيا" فكرة مؤقتة لن تصمد طويلا، وحجتهم أنها ولدت من رحم التناقضات الاجتماعية الكثيفة والتي أسفرت عن حرمان المواطن العادي من شراء مسكن. ويرى آخرون أن فكرة بناء البيت جماعيا سوف تضمحل مع توجه الحكومة لطرح مساكن منخفضة التكاليف تقدم لها دعما بحيث تباع بأسعار في متناول غير القادرين. وكانت وزارة الإنشاء الصينية أصدرت العام الماضي قرارا يلزم شركات التنمية العقارية بأن تكون مساحة 70% من الوحدات السكنية التي تبنيها  أقل من 90  مترا مربعا، حتى تباع بسعر معقول، وتعهد رئيس مجلس الدولة ون جيا باو بأن تعمل الحكومة الصينية للحفاظ على أسعار المساكن عند مستوى معقول، وطالب في تقرير عمل الحكومة في افتتاح الدورة السنوية للمجلس  الوطني لنواب الشعب الصيني في شهر مارس هذا العام بأن يركز قطاع العقارات على إنشاء وحدات سكنية بأسعار مناسبة لعامة الشعب. والحكومة بالفعل اتخذت إجراءات للتخفيف من وطأة مشكلة السكن، من خلال وضع سقف لأسعار وحدات سكنية معينة وأرباح شركات العقارات وتمكين الأفراد من الحصول على قروض بنكية لدفع مقدم الثمن المطلوب عند شراء الوحدة السكينة وتقسيط الباقي على فترة زمنية تمتد عشرين عاما بفائدة منخفضة. ولكن الحقيقة هي أن أسعار المساكن ترتفع يوما بعد يوم بل إن السعر يتضاعف في أقل من عامين، فتزايد تطلعات الصيني ومقارنة نفسه مع من حوله الذين يمتلكون بيوتا واسعة لا يمكن إلا أن تشعل سوق العقارات أكثر.

هل يمكن أن تكون فكرة "ابن بيتك بنفسك" حلا يساعد الفقراء ومتوسطي الحال"؟ المتخصصون في مجال العقارات يشككون في ذلك، ويقول أحدهم إنه ليس كل فرد يمكن أن يصبح مقاول بناء، فذلك يحتاج كثيرا من التخصص المهني. والبعض هاجم الفكرة على أنها متخلفة وارتداد إلى الوراء في عصر اقتصاد السوق، فهي سباحة ضد تيار آليات السوق.

غير أن أصحاب الفكرة ماضون في طريقهم، مقتنعين بأن الحاجة أم الابتكار. إنهم يأملون من خلال مشروع "ابن بيتك بنفسك" أن يكون للفقراء نفس حقوق الأغنياء عندما يتعلق الأمر بشراء مسكن.

husseinismail@yahoo.com  

 

 

 

 

 

 

 

Address: 24 Baiwanzhuang Road, Beijing 100037 China
Fax: 86-010-68328338
Website: http://www.chinatoday.com.cn
E-mail: chinatoday@chinatoday.com.cn
Copyright (C) China Today, All Rights Reserved.