ã

عوانس الصين.... أيها الرجل المناسب طال انتظارك!

حسين إسماعيل

حفل تعارف للعوانس

 

عندما رأيتها قبل نحو ثلاثة عشر عاما كانت قد جاوزت الخامسة والعشرين ربيعا. شابة مثقفة، حاصلة على الماجستير في اللغة الإنجليزية، تعمل في مؤسسة صحفية، ذات مظهر عادي، ولكنها صاحبة فكر وفلسفة في الحياة. هذا الفكر وتلك الفلسفة لاحظتُهما في رحلة جمعتنا لمدة ثلاثة أسابيع بين جبال وقرى مقاطعة قويتشو الصينية. كنت أشعر بإرهاق ذهني كلما تحاورت مع تان مين في حضور سيريا ميتشيل، السيدة الكندية التي تخطت الخمسين عاما. بعد الحديث في وعن أشياء شتى نصحت سيريا الآنسة تان مين بأن لا تنتظر طويلا "مستر رايت"، أي الرجل المناسب، لأن سوق الصبايا تدخله بضاعة جديدة كل ثانية، ولكن تان مين كان لها رأي خاص: إذا لا يوجد من يناسبني فإنني أفضل أن أبقى هكذا، عازبة.

 اختفت تان مين قبل سنوات ولا أدري إن كانت قد عثرت على الرجل المناسب أم أنها مازالت في رحلة البحث عنه، ولكن الصين بها حاليا آلاف من "عُصبة" تان مين. فمع التحولات التي شهدها، ومازال، المجتمع الصيني، تتغير مفاهيم الشباب والفتيات ومتطلبات كل منهما في الطرف الآخر. ويتردد دائما سؤال: "لماذا لا تستطيع فتاة جميلة أن تجد الشريك المناسب؟" في اللقاءات التي تجمع الزميلات والصديقات من الفتيات اللواتي شارفن على الثلاثين عاما ومازلن عازبات. فتيات لديهن وظائف جيدة ومظهرهن حسن، ولكن لماذا لسن من بين صفوف النساء الصينيات اللواتي ينبغي، تقليديا، أن يتزوجن بل وينجبن في مثل هذا العمر؟

الموجة الحالية من الصينيين والصينيات البالغين والبالغات العزاب والعازبات في المدن الصينية تعتبر الثالثة منذ تأسيس الصين الجديدة عام 1949. كانت الموجة الأولى في بداية الخمسينات من القرن الماضي، والثانية في بداية الثمانينات.

مواصفات معظم أفراد هذه الموجة الثالثة أن العازبات فتيات متعلمات جيدا ومستقلات ماديا؛ والعزاب تعليمهم بسيط وحالهم أبسط. وهذا يعني أن العثور على الشريك المناسب بين هاتين المجموعتين مهمة شاقة. وهناك انتقاد للعوانس بأنهن يصعب إرضاؤهن وأنهن تخلين عن القيم التقليدية وأصبحن متعولمات بإفراط. وترد واحدة من العوانس عمرها تسع وعشرون سنة بالقول: "إن الحياة رحلة طويلة وصعبة وينبغي أن ندقق في اختيار ((كتاب)) ممتع نقرأه بارتياح في طريقنا". الآنسة تريسي تشن، وهي مديرة بشركة فرنسية انفصلت عن خطيبها (البوي فرند في الحقيقة) ليلة زفافهما لأن والدي حبيب القلب أصرا أن يقيما مع الزوجين الجديدين بعد الزواج. وقد دافعت العزيزة تريسي عن قرارها بأنها دفعت النصيب الأكبر من ثمن شقة الزوجية. وتضيف الشابة المثقفة قائلة: "أعرف أن في الأسر الصينية التقليدية يعيش جيلان وثلاثة بل وأربعة أجيال تحت سقف واحد، ولكني لا أستطيع أن أقبل سياسة (اشتر واحدا وخذ اثنين مجانا)، وأظن أن فتيات كثيرات من هذا الجيل يوافقنني في هذا الرأي، ولهذا فأنا راغبة في الانتظار فترة أطول لحين العثور على الرجل المناسب"!

وتقول شابة أخرى تعمل مديرة علاقات عامة في فرع لبنك سنغافوري: "نحن الفتيات يمكننا أن نلبس جيدا ونجذب المزيد من الرجال ثم نختار منهم".

وثمة استراتيجية جديدة تنتهجها فتيات الطبعة الجديدة في الصين عند اختيار الرجل المناسب، الاستراتيجية اسمها "التجربة والخطأ"، بمعنى أن تواعد الفتاة الرجل ثم  "تدلقه" إن لم يدخل الدماغ! بيد أن توجها آخر يرى أن "الانتظار" مجرد ذريعة لغير المؤهلات نفسيا للدخول في مؤسسة الزواج بكل التزاماتها وقيودها، فالآنسة لي ليان فنغ- 28 سنة- دلقت صديقها العام الماضي عندما رفضت طلبه بالزواج.

في تفسيرها لهذا التحول في فكر الزواج للمرأة الصينية تقول عالمة النفس وانغ تشن يو: إن النساء يطلبن وقتا أطول للاستعداد للزواج. في عام 1991 كان متوسط عمر الزواج الأول للمرأة الصينية 22,2 سنة وفي عام 1996 كان 24,2 سنة. وتوضح السيدة وانغ أن النساء المتعلمات تعليما جيدا يستغرقن وقتا أطول في الاستعداد للزواج لأنهن في غير حاجة لفلوس الزوج. ومن جانب آخر تسمح القوة الاقتصادية للمرأة بأن تستمتع برفاهية البحث عن شريك، وكما قالت إحداهن: "إن الرجل عندما يغزوني فإنه يغزو أيضا شقتي الجديدة. إنها مجازفة كبيرة وعلى أن أنتبه بأن لا أعطيها للرجل الخطأ".

ولكن الأهل في الصين لا يطيقون الانتظار طويلا حتى يروا ابنتهم في بيت الزوجية، وقد أقسمت واحدة من الأمهات بأن"تضرب رأسها في الحائط إن لم تتزوج ابنتها بسرعة".   

انخراط المرأة في العمل وتكريس حياتها له، سبب آخر لارتفاع نسبة العنوسة في الصين، فامرأة مثل سابرينا لي، الفتاة ذات التسعة والعشرين ربيعا والتي تعمل مديرة مشروع في بنك استثمار أمريكي، كيف تستطيع تحمل مسئولية الزواج وهي تقضي أيامها في السفر بين شانغهاي ونيويورك وهونغ كونغ، وعندما لا تسافر تبقى في مكتبها كل يوم حتى منتصف الليل؟  أما أنيتا وانغ فقد فقدت خطيبها بعد أن رفضت نصيحته بالتخلي عن وظيفتها كمحامية والعمل كمدرسة، بحيث يكون لديها وقت فراغ أطول.

والحقيقة أن الذي ساهم بشكل كبير في تشكيل عقلية هذا الجيل من فتيات الصين هو ما سمعنه منذ الطفولة بضرورة أن تجد المرأة عملا جيدا وأن تتفوق في عملها، في ظل مجتمع تزداد المنافسة فيه يوما بعد يوم.

في الموجة الأولى للعزوبية شهدت الصين زيادة كبيرة في نسبة الطلاق بعد أن صدر أول قانون للزواج لجمهورية الصين الشعبية في مايو عام 1950، حيث اختار عدد كبير من الذين تزوجوا خلال سنوات حرب التحرير الطلاق. في عام 1953، كان عدد حالات الطلاق 53 حالة من كل مائة زواج. وفي ذلك الوقت لعبت الحكومة دورا في تزويج العزاب بترتيب لقاءات بين شابات صغيرات ورجال أكبر منهن سنا، حسبما قالت الباحثة الاجتماعية هاو ماي شو، من أكاديمية تيانجين للعلوم الاجتماعية.

وقد استمرت فترة العزوبية الثانية من نهاية سبعينات القرن الماضي حتى عام 1985، ففي عام 1976 ومع نهاية السنوات العشر العجاف لما سمي بالثورة الثقافية عاد ستة عشر مليون رجل وامرأة من أبناء المدن الذين ذهبوا للعمل بالريف، عادوا إلى ديارهم، وكان عدد كبير منهم ومنهن غير متزوج. في هذه الفترة نشطت الحكومة واتحادات التجارة وجمعيات المرأة في البحث عن شركاء لهم ولهن، ولكن برغم ذلك بقي عدد كبير بدون زواج، وبعضهم نسيه المجتمع فقد وصلوا الخمسينات من العمر وسُرحوا من أعمالهم أو خرجوا إلى التقاعد المبكر وما زالوا عزابا.

في هاتين الموجتين للعزوبية لم يكن الاختيار للفرد، حيث فرضت الظروف هذا الوضع، ولكن في الموجة الثالثة الحالية يقرر الفرد بنفسه أن يبقى عازبا، أو عازبة. ومجتمع العازبين والعازبات لديه من الوسائل ما يستطيع بها أن يملأ حياته، فهم يجتمعون من حين إلى آخر على غداء أو عشاء أو يخرجون في رحلات معا إن توفر الوقت. وقد استطاع البعض أن يستثمر هذه الظاهرة اقتصاديا بافتتاح أندية للعزاب، ومنها نادي القلوب الوحيدة في شانغهاي الذي يقدم للعازب وللعازبة سوارا مميزا يعرف الآخرون من خلاله أنه أو أنها من قبيلة العزاب، لعل هذه الطريقة تجمع بين القلوب. وبالفعل هناك حالات ارتباط بالفعل حدثت في أماكن مختلفة بفضل سوار العزوبية هذا. ولكن معظم مستخدمي ومستخدمات هذا السوار ينتمون إلى ذوي الياقات البيضاء الذين يملكون من الرفاهية المادية والفكرية ما يتيح لهم ولهن تجربة طريقة غير تقليدية في البحث عن النصف الحلو.

ارتفاع نسبة العزوبية في الصين لها سبب آخر ربما يكون الأكثر أهمية وهو ارتفاع تكاليف الزواج، فهو الأمر الذي يجعل كثيرا من العازبين والعازبات يفكر جيدا قبل اتخاذ قرار الزواج.

يقول تسو شياو سي، نائب رئيس معهد البحوث الاجتماعية والسكانية التابع لمعهد العلوم الاجتماعية بمقاطعة قوانغدونغ، إن زيادة تكاليف الزواج سبب مهم لظهور موجة العزاب الثالثة في الصين، فقد كان الزواج لا يحتاج أكثر من "القطع الثلاث"؛ آلة الخياطة والدراجة والساعة، في الماضي والتي لم تكن تزيد تكاليفها عن دخل عدة أشهر للعروسين، ولكن حاليا تبلغ تكاليف إقامة عش الزوجية عشرات أضعاف الدخل السنوي للعروسين.

وقد بات الصينيون ينظرون إلى الأسس المادية للزواج بشكل لافت، فثمة سيدة بكينية من ذوات الياقات البيضاء تزوجت قبل خمس سنوات ويتجاوز عمرها الثلاثين سنة تعتقد بأن الحب عنصر مهم للغاية في الزواج غير أن الوضع الاقتصادي مهم أيضا في الحياة الواقعية. وقالت إن الحياة الزوجية والأسرة تحتاج إلى الأساس الاقتصادي مثل الحاجة إلى البيت والسيارة وتعليم الأطفال.

ولكن هل يجوز التخلي عن الزواج لمجرد عدم القدرة المادية؟ البعض يعتقد أنه على الرغم من حاجة الزواج إلى المال فإنه لا يمكن العزوف عنه لمجرد عدم القدرة الاقتصادية. تقول محاسبة تزوجت قبل وقت غير بعيد إن الدافع للزواج ينبغي أن يكون التوافق في الآراء والمشاعر واقتناع كل طرف وقبوله بقدرات وخصائص وتطلعات الطرف الآخر. أما عن المال فسوف يأتي لاحقا وليس من الضروري أن يتوفر قبل الزواج.

وعن تكاليف الزواج العالية يقول شي كانغ نينغ، مسؤول لجنة الزفاف التابعة للجمعية الصينية للأعمال الاجتماعية، إن الصينيين لا يترددون في الإنفاق على الزواج. وحسب استطلاع قامت به الجمعية أعرب ثلث الذين استطلعت آراؤهم عن رغبتهم في إنفاق ثلث مدخراتهم على الزفاف فقط، وهذا لا يشمل عش الزوجية وتأسيس الشقة وثمن السيارة التي راح كثيرون يعتبرونها من الضروريات التي ينبغي توفرها قبل الزواج. لقد ازدادت نفقات الزواج كثيرا ولهذا لا يتحمل الشاب أو الفتاة تكاليفه، وإنما تتحملها الأسرة، لا سيما في المدن. في مدينة مثل شانغهاي يبلغ متوسط تكاليف حفل الزفاف 190 ألف يوان (حوالي 24 ألف دولار أمريكي)، مقارنة مع 50 ألف يوان فقط (حوالي أربعة آلاف ومائتي دولار أمريكي) قبل أربع سنوات.

بعد سنوات سألت عن تان مين، البعض قالوا إنها سافرت إلى الخارج والبعض قالوا انتقلت إلى مدينة أخرى، وأكد الجميع أنها لم تتزوج. وفي كل يوم ألتقي بأكثر من تان مين في الصين.

وإذا كانت المعايرة بالعنوسة تقليد عالمي، فقد سمعنا بمعايرة السيناتور الديموقراطية باربرا بوكسر لوزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس، بعنوستها وأنها لا زوج لها ولا أبناء يمكن أن يجندوا في العراق، فإن الصين ليست استثناء. ألا ترى مصمصة شفاه المتزوجات عندما تمر عازبة أو يأتي ذكرها؟!  

 

husseinismail@yahoo.com  

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Address: 24 Baiwanzhuang Road, Beijing 100037 China
Fax: 86-010-68328338
Website: http://www.chinatoday.com.cn
E-mail: chinatoday@chinatoday.com.cn
Copyright (C) China Today, All Rights Reserved.