بين الجبال المغطاة بالجليد، تربض منطقة هانغدوان الجبلية في غربي الصين، إلى الشرق من هضبة تشينغهاي-التبت، في ملتقى مقاطعتي سيتشوان ويوننان، ومنطقة التبت الذاتية الحكم. تصلها ستة أنهار تمتد من شرق إلى غرب هضبة تشينغهاي- التبت، فتغير اتجاهها فجأة، وتجري من الشمال إلى الجنوب، وتقل المسافات بينها، فتشكل مشهدا جغرافيا عجيبا، فيه ستة أنهار تسير محاذية بعضها ومتجاورة. ينتشر بها عدد كبير من الجبال المغطاة بالثلوج والأنهار الجليدية والبحيرات والغابات والمروج والينابيع الحارة والمعابد اللامية بين الجبال العالية والأودية العميقة، فهي المنطقة التي اعتبرتها مجلة ((الجغرافيا الوطنية الصينية)) أجمل مكان بالصين، وشانغري لا الكبيرة.

تقع منطقة يادينغ السياحية بمحافظة داوتشنغ التابعة لولاية قانتسي بمقاطعة سيتشوان في مركز منطقة هانغدوان الجبلية، وقد أدرجت ضمن الشبكة العالمية لمحميات المحيط الحيوي، ويعتبرها السائحون آخر قطعة نقية على الكرة الأرضية. في عام 1928 زارها عالم الأنثربولوجيا الأمريكي جوزيف روك Joseph F-Rock، مرتين، وقد عرفها العالم من خلال مجموعة الصور التي التقطها في رحلتيه ونشرها بمجلة ((ناشيونال جيوغرافيك)) الأمريكية. وقال عنها روك إنها لا مثيل لها على الأرض، وتنتظر عشاق التصوير والاستكشاف.

 

 الجبال المقدسة الثلاثة

في أواسط أكتوبر عام 2006 توجهنا بالسيارة إلى منطقة يادينغ السياحية، حيث كانت محافظة داوتشنغ في أجمل وقت من فصل الخريف. ويقع مدخل منطقة يادينغ السياحية في لونغتونغبا بمصب نهر قونغقه، وارتفاعه عن مستوى سطح البحر 2900 متر. لم يكن مسموحا السير بالسيارة بعد هذه النقطة، حيث أن وسيلة المواصلات هي الخيل. معبد تشونغقو هو المكان الذي ينزل فيه السائحون داخل منطقة يادينغ السياحية، وارتفاعه عن سطح البحر 3880 مترا، ومرج لوهرونغ مكان آخر لنزول السائحين داخل منطقة يادينغ السياحية، وارتفاعه عن سطح البحر4150 مترا، ويبعد مرج لوهرونغ عن مدخل منطقة يادينغ السياحية 12 كيلومترا، وهو أعلى من المدخل بنحو 1250 مترا.

في منطقة يادينغ ثلاثة جبال مغطاة بالثلوج، هي شيانودوهجي وشياننار ويانغماييونغ، وفي المسافات القصيرة بين كل منها والآخر تنتشر بحيرات ووسه ونيوناي وتشنتشو ورشنغ، وحول الجبال الثلاثة عديد من القمم الجبلية المغطاة بالثلوج، وهي مقدسة عند البوذيين ويعتقدون أنها تحمي الجبال الثلاثة التي تقع في قلبها، ولا يذوب جليدها طوال العام.

مرج لوهرونغ أفضل مكان للاستمتاع بالجبال المقدسة الثلاثة، وأشهر منظر فيه هو أشعة الشمس على الجبال الذهبية، فهو منظر نادر لأنه لا يستمر إلا عدة ثواني، حيث يتقلب الجو ما بين الصفاء والغيوم بسرعة. استغرقت المسافة من مدخل منطقة يادينغ السياحية إلى مرج لوهرونغ على ظهور الخيل أكثر من ساعة. كنا كلما نتقدم أكثر تشتد الريح وتتكاثر السحب وتتلبد السماء بالسحب السوداء. وقد أخبرنا سائس الخيل بأن الثلج سيسقط في الليل، فسألناه ما إذا كان الجو سيتحسن غدا فأجاب بأن ذلك غير مؤكد. 

في الصباح استيقظ أكبرنا سنا، وخرج إلى الجبال المقدسة الثلاثة، ثم عاد فأيقظنا. كان هو زار منطقة يادينغ في الصيف، ولم يستمتع بالجبال المقدسة بسبب المطر الغزير، لذلك كان أكثرنا شوقا لها. بعد خروجنا من البيت وجدنا الجبال الثلاثة أمامنا على نسق واحد، كأنها نتجت عن ضربة فأس واضحة في جبل يانغماييونغ الذي ترتفع قمته المغطاة بالثلوج على شكل الهرم لتستقبل أول أشعة شمس الصباح، وهنا وقفنا على سفح الجبل، واستقبلنا الشمس مع الجبال المقدسة الثلاثة.

تحتل الجبال المقدسة الثلاثة المرتبة الحادية عشرة بين الأماكن المقدسة الأربعة والعشرين للبوذية التبتية (اللامية)، وفي القرن الثامن سماها العالم البوذي الكبير ليان هوا شنغ، باسم إلهة الرحمة وغيرها. وحسب العقيدة اللامية يعتقد أن الطواف بالجبال المقدسة مرة واحدة تساوي تلاوة مائة مليون مؤلف من الأسفار البوذية، والطواف ثلاث مرات بها يكفر عن جريمة قتل ثمانية أفراد أو خيل، ولذلك الطواف بالجبال المقدسة الثلاثة مرة على الأقل أمنية لكل بوذي في حياته.

 

البحيرات المقدسة

المواصلات من مرج لوهرونغ إلى بحيرة نيوناي ليست سهلة، ومع تقدمنا في الوادي يصير المرج أكثر إثارة، ويزداد الارتفاع عن مستوى سطح البحر ويقل ارتفاع الجبال المغطاة بالثلوج. بعد عدة منعطفات، وصلنا إلى غرب جبل يانغماييونغ، وكان لا بد أن نجتاز جرفا شديد الانحدار يسمى جرف التضحية بالنفس. عندما يصل إليه التبتيون الذين يطوفون بالجبال المقدسة الثلاثة، يقومون فيه بالصلاة، ويعلقون البيارق البوذية على سفح الجبل، الذي تقع بحيرة نيوناي المقدسة أمامه. ترتفع بحيرة نيوناي عن مستوى سطح البحر 4500 متر، ومساحتها نصف هكتار، وهي بحيرة نهر جليدي قديم، وشكلها يشبه قطرة ماء، وتشتهر بشكلها الجميل ومياهها الزرقاء، ويقال إن فيها علاجا للصم والبكم.

أفضل مكان للاستمتاع ببحيرة نيوناي هو الجانب الأيمن من سفح الجبل. هنا استمتعت بالبحيرة ولمحت خلف سفح الجبل طبقات من سفوح الجبال، التي يمكن منها الوصول إلى جبل يانغماييونغ المقدس. بعد أن اجتزت طبقات من سفوح الجبال، وصلت إلى منتصف جبل يانغماييونغ، وهنا استمتعت بثلاثة جبال مقدسة وبحيرتين مقدستين. واصلت التقدم فوجدت أرضا جرداء لا عشب فيها وإنما أكوام من الحصى، وتمتد إلى خط الثلوج الدائم لجبل يانغماييونغ، ولم أجد أي طريق صاعد إلى الجبل. هذا المكان يرتفع 5000 متر عن مستوى سطح البحر، والجبل شديد الانحدار والريح قوية، مثل الإعصار، فلم أستطع أن أثبت في مكاني والحصى يتحرك من تحت قدمي وعلى يساري هوة ساحقة. من هنا نظرت نحو بحيرة ووسه من بعيد، وكلمة ووسه تعني الخمسة ألوان لأن مياهها تظهر بخمسة ألوان تحت أشعة الشمس، وتقع بين جبلي شيانناير ويانغماييونغ. وهي ترتفع 4600 مترعن مستوى سطح البحر وتشبه دائرة، مساحتها 7ر0 هكتار، وتتمدد إلى شواطئها ألسنة جليدية، وتنعكس صورة جبلي شياناير ويانغماييونغ على سطحها، وهي بحيرة مقدسة مشهورة في التبت. وتغير أن الجو فجأة، وتلبدت السماء بالسحب السوداء، ورأيت منظرا غريبا، فقد اختفت الألوان الخمسة، وأصبح لون الماء واحدا. بعد ذلك عرفت أن الاستمتاع بتغير الألوان غير ممكن إلا بالاقتراب  من وسط المياه.

يقع معبد تشونغقو على سفح جبل شيانناير المغطى بالثلوج، ويقال إن الراهب الكبير تشيويجيه قونغجييوه جياتسوه بنى معبدا هنا من أجل تقديم القرابين للجبل المقدس ونشر العقيدة البوذية، ولكنه أثار غضب الإله بسبب حفر الجبل، فحلت كارثة على أبناء المكان حيث انتشر البرص. أخذ الراهب يتلو الأسفار المقدسة ليلا ونهارا داعيا أن اتحل الكارثة به هو بدلا من الناس، فاستجاب له الإله وعاش الناس في طمأنينة ومات هو مريضا ودفن في المعبد الذي بناه. كل يوم يتلو الرهبان في المعبد الأسفار المقدسة لإحياء ذكرى أعماله الخيرة. وهذا المعبد هو نقطة الانطلاق للطواف بالجبال المقدسة الثلاثة.

أقام جوزيف روك  ثلاثة أيام في معبد تشونغقو، حيث استمتع بالوادي الجبلي الهادئ تحت ضوء القمر عبر نافذة صغيرة. ويعتقد كثيرون أن الوادي الذي رآه روك هو شانغري لا الحقيقية وليس ما ورد في قصة الأفق المفقود لجيمس هيلتون.

 معبد تشونغقو مكان الإقامة الرئيسي في منطقة يادينغ السياحية، وحوله عدد كبير من البيوت الخشبية الصغيرة. من هنا رأينا جبل شيانوهدوجي واستمتعنا ببحيرة تشنغتشو والصورة المنعكسة لجبل شياناير على سطح مياهها. وقد نُصحنا بأن نذهب إلى بحيرة شنغتشو قبل شروق الشمس للاستماع بالصورة المنعكسة لجبل شيانناير على سطحها لأنها تختفي بعد الشروق. تبعد بحيرة تشنغتشو عن معبد تشونغقو كيلومترين عبر درب يمر بغابات بدائية. استأجرنا عدة خيول وفي الطريق كرر علينا ساسة الخيل مرارا أن رمي أي شئ في البحيرة أو غسل اليدين بها حرام لأنها بحيرة مقدسة لديهم.

تقع بحيرة تشونغتشو بسفح جبل شيانناير المغطى بالثلوج، ويبلغ ارتفاعها عن مستوى سطح البحر 4100 متر، ومساحتها 75ر0 هكتار، وحولها أشجار عالية كأنها حاجز أخضر طبيعي لها. وسمعنا أن بحيرة تشنغتشو كانت كبيرة جدا في الماضي، وترتبط البحيرة بقمة الجليد في جبل شيانناير مباشرة. عندما أشرقت الشمس، غطت جبل شيانناير الكبير وظهرت صورتها المنعكسة على سطح البحيرة الأزرق، وبعد ذلك غطت الشمس سطح البحيرة كله، وبدأت الريح تهب فتحرك الموج ومعه الصورة المنعكسة، حتى تلاشت شيئا فشيئا.

انتهينا من رحلتنا في منطقة يادينغ السياحية، وبعد تناول فطور بسيط في معبد تشونغقو توجهنا إلى محافظة داوتشنغ بالسير مع نهر قونغقه.

 

داوتشنغ

المناظر في منطقة يادينغ السياحية أجمل المناظر في محافظة داوتشنغ، وتجذب مناظر الخريف في وسط محافظة داوتشنغ الزوار. معنى داوتشنغ في اللغة التبتية هو الأرض الواسعة في مدخل الوادي، ويقع مركز محافظة داوتشنغ على أرض واسعة في مدخل الوادي حقا، ويمر حوله نهر بانغخه، وعلى ضفتيه عشرة آلاف مو (الهكتار الواحد يساوي 15 مو) من الحور، وهي غابة نادرة ذات مساحة كبيرة في الهضبة الواقعة في المنطقة المعتدلة الباردة، ويصبح لون أوراق الحور ذهبيا في الخريف.

يفضل الذين يعودون من منطقة يادينغ السياحية إلى مركز المحافظة أن يذهبوا إلى نبع  روبو شاكا الحار ليغسلوا تعبهم. يقع النبع الحار في جنوب شرقي مركز المحافظة، شمال جبل قونغبا الذي يبعد عن مركز المحافظة 3 كيلومترات. مياهه صافية لا لون لها ولا رائحة، وتتجاوز درجة حرارتها 68 درجة مئوية، وتفيد في علاج حك الجلد والرثية والتهاب المفاصل، وربما لهذا السبب يعمر معظم التبتيين الذين يعيشون حول هذا النبع، وتسمى قرية روبو قرية العمر المديد.

تقع بلدة سانتدوه في شمال مركز محافظة داوتشنغ، وتبعد عنها 28 كيلومترا، وهي الطريق الوحيد من محافظة داوشنغ إلى مدينة تشنغدو، حاضرة مقاطعة سيتشوان. على جانبي الطريق العام في بلدة سانتدوه توجد كثير من المراعي، تتلوى بينها الأنهار وتتموج التلال، وتنتشر القرى. هنا الأرض منبسطة، والأنهار متقاطعة وهذا يشكل مساحة كبيرة من الأرض الرطبة، وتنمو فيها النباتات المائية بكثافة، وأجمل مكان بها هو بركة النباتات المائية الحمراء في قرية جييي. عندما يحل الخريف، تمتلئ البركة الصغيرة بالنباتات المائية الحمراء، وتساوي مساحتها مساحة ملعب كرة القدم، وتقع على جانب الطريق العام، ولا يستمر هذا المنظر العجيب أكثر من عشرة أيام، ولكن صورها تنتشر انتشارا واسعا، ودائما تنشر في الكتب والمجلات  السياحية.

أقام أبناء قرية جييي سياجا حول بركة النباتات المائية الحمراء، وجسرا على سطح البركة، ويدفع الزائر 5 يوانات للسير على هذا الطريق، ولكنني وجدت أن الاستمتاع بالبركة من الطريق العام جيد جدا.

واصلنا التقدم باتجاه الشمال حتى وصلنا جبل هايتسي، الواقع على مسافة ستين كم من شمال مركز المحافظة. منظره خلال مسافة عشرات الكيلومترات عجيب جدا، ويمتد الطريق العام إلى الأمام مستقيما، وعلى جانبيه عدد كبير من الأحجار الكبيرة والصغيرة، وبينها 1145 بحيرة كبيرة وصغيرة،. هنا أكبر بقايا للأنهار الجليدية القديمة في هضبة تشانغهاي – التبت. طولها 93 كيلومترا من الشمال إلى الجنوب، وعرضها 49 كيلومترا من الشرق إلى الغرب، ويبلغ ارتفاعها عن مستوى سطح البحر 4500 مترا في المتوسط. عندما وقفت فوق صخرة كبيرة بجبل هايتسي، وجدت أن السماء قريبة مني، وكأني في أعماق التاريخ أو على سطح القمر.