ã

من رموز العرب والمسلمين في الصين

السيد الأجل عمر شمس الدين (1211- 1279م)

د. جعفر كرار أحمد

تشير المصادر الصينية إلى أنَّ السيد الأجل عمر شمس الدين تعود أصوله إلى المملكة العربية السعودية الحالية ويعود نسبه حسب هذه المصادر إلى الرسول الكريم. وقد ولد عمر شمس الدين في بخارى (أوزبكستان الحالية) ويبدو أنَّ أسرته التي كانت تتمتع بمركز ديني وسياسي مرموق قد هاجرت إلى آسيا الوسطى مع الفتوحات الإسلامية الأولى. وحسب بعض المصادر فإنَّ أسلافه كانوا حكاماً على بخارى وأنَّ وفداً منهم جاء إلى الصين سنة 463 هجرية (1070م) لتقديم "الولاء" مع أعيان من قبائل بخارى.

إلا أنَّ المصادر الصينية تبدو شديدة الاضطراب حول تاريخ وصول السيد الأجل شمس الدين إلى الصين، فبينما يشير سجل الأنساب الخاص بهذه الأسرة (Geneological record ) إلى أنَّ أجداده قد انتقلوا من بخارى إلى الصين في وقت ما خلال فترة أسرة سُونغ الشمالية بسبب الاضطرابات هناك. يشير كتاب تاريخ أسرة يُوان إلى أن شمس الدين جاء إلى الصين مع الجحافل المغولية التي وسعت الفتوحات المغولية إلى غربي آسيا، ويضيف "أن الإمبراطور تاي تسونغ (627- 639 هجرية/1229- 1241م) قد عينه في سنة 627 هجرية (1229م) رئيساً تنفيذياً (والياً) على ثلاث ولايات مهمة". وتغطي الولايات الثلاث مساحة من شمال غربي دَاتُونغ في مقاطعة شَانْشي إلى منغوليا الداخلية حتى غربي جِينْيِنغ وتضم ولاية فَنْغ شرقي مدينة هُوهَيهُوت وولاية جينغ شمالي مدينة هُوهَيهُوت، وولاية يُونني غربي مدينة هُوهَيهُوت. وتعتبر المناطق التي تقع تحت حكم شمس الدين مراكز تجارية مهمة ذات كثافة سكانية عالية. وقد شكل هذا المنصب المهم بداية تاريخه السياسي والإداري. وتشير المصادر الصينية إلى أنَّ شمس الدين وصل إلى المنطقة وهى لا تزال تعاني من آثار المعارك بين جيوش المغول وأسرة جِين التي سقطت سنة 611 هجرية (1214م). وتصف المصادر التاريخية الصينية حالة الفقر وعدم الاستقرار الشديدين في المنطقة عند وصول شمس الدين إليها، وتحولها بعد سنوات قليلة إلى مناطق مزدهرة ومُنتجَة، حيث قام شمس الدين بإصلاح اقتصادي ريفي شامل أثمر هذا الإصلاح ازدهاراً في المنطقة و رفاهية لسكانها ولهذا تمتع السكان المحليون بحياة مزدهرة وسعيدة.

وتكررت قصص نجاحاته في كل من منطقة يانجينغ (بكين الحالية) وخنَان وشاندونغ وسِيتَشوان وشانشي، حيث قام بإصلاح زراعي وضريبي. وخلال عشرين عاماً من عمله في يانجينغ منذ سنة 663 هجرية (1264م) شهدت المنطقة ازدهاراً واستقراراً واضحاً. وكسب ثقة الناس في المناطق التي أدارها. حيث كان يقوم بتخفيض الضرائب وتوزيع المؤن على الناس في زمن الكوارث الطبيعية بل ويقوم أحيانا بإلغاء الضرائب. وتشير الوثائق الصينية إلى أنَّ شمس الدين أثناء عمله وإدارته في مقاطعات ومناطق شَانْشِي وسِيتْشوَان قام كثيرا بتوزيع الأراضي وقطعان الماشية والحبوب على مَنْ لا يملكون أرضا وماشية للانتظام في عمليات الإنتاج وتنشـيط الدورة الاقتصادية في هذه المناطق، مما انعكس بالطبع استقراراً اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً. إلا أنَّ أهم إنجازاته على الإطلاق كانت في منطقة يُوننان الحدودية وذلك عندما عينه قوبلاي خان حاكماً على هذه المنطقة الفقيرة في سنة 673 هجرية 1274م التي سادتها الاضطرابات بسبب ثورة الأقليات القومية التي قادها شه لِي وي في سنة 663 هجرية (1264م) ومقتل أمـير يوننان هُوق إشي ((Hug Echi الابن الخامس لقوبلاي خان في سنة 670 هجرية (1271م) بسبب صراع على السلطة وسوء إدارته للمنطقة. وبالإضافة إلى اضطراب الأمن في يُوننان وجد شمس الدين، الذي بلغ عمره آنذاك 63 عاماً، المنطقة تعيش فقراً مُدقِعاً ونظاماً زراعياً متخلفاً وضعيفاً، حيث لم تكن المنطقة تعرف على سبيل المثال حتى وصوله محاصيل كالأرز ولم تكن هناك أية مرافق للري، وفوق كل هذا، كان السكان يرزحون تحت نير نظام ضرائب قاس لم يراع واضعوه حالة الفقر العامة في الإقليم. وقد بدأ السيد الأجل شمس الدين إصلاحه الشامل بتنظيم الهيكل الإداري للمنطقة ونزع السلطات من كبار القادة الإقطاعيين وجنرالات الجيش، وفصل السلطة العسكرية عن المدنية. وبحلول سنة 675 هجرية (1276م) كان النظام الإداري القديم قد تم إلغاؤه أو إصلاحه إصلاحاً جذرياً. وقد مهد الإصلاح الإداري لإصلاح زراعي ريفي شامل بدأ بتصميم نظام ري متكامل قام على تعميق بحيرة هَايكُو والاستخدام الأمثل لنهر بَانلُونْغ وتصميم شبكة ري مرتبطة ببحيرة هَايكُو ونهر بَانلُونْغ وذلك لمنع الفيضانات وبناء منشآت ري وتخزين على طول ست بحيرات. وأنشأ شمس الدين في المسافة من بحيرة هَايكُو وحتى بِينغْدِيشَاو، بطول عشرة كيلومترات، أكثر من 70 سداً على طول النهر وكانت المياه تنقل بشكل منظم من السدود إلى الحقول.

كما شق قنوات ري مثل قناة جِينتِشي التي حركت ساكن الحياة على طول قرى القوميات التي مرت بها القناة. ولا يزال نظام الري الذي أقامه شمس الدين يعمل في بعض أجزائه حتى اليوم. وكان جوزيف نيدهام، صاحب العمل الكبير "العلوم والحضارة في الصين"، قد أذهلته أنظمة الري التي أنشأها شمس الدين في حوض كُونمينغ أثناء زيارته لهذه المنطقة في نهاية سنة 1361 هجرية (1942م).

وبتنظيم قنوات الري قام شمس الدين باستصلاح أراضي واسعة جديدة وإدخال محاصيل لم تكن معروفة من قبل في الإقليم. وتم إصلاح نظام الضرائب مما خفَّف كثيراً عن كاهل المزارعين وطبق سياسات لصالح فقراء المزارعين. ونتيجة لعلاقات الإنتاج الجديدة التي أفرزتها سياسات شمس الدين المنحازة لفقراء الناس في الإقليم ارتفعت معدلات الإنتاج وانتقلت قوميات كاملة من دائرة الفقر إلى حياة أفضل وأصبحت مدينة كُونمينغ ولأول مرة عاصمة ثقافية واقتصادية وتجارية لإقليم يوننان الذي أصبح مقاطعة مستقرة ومزدهرة وجزءاً أصيلاً من الصين. ولم ينس شمس الدين القطاعات التي أقعدتها ظروفها الخاصة عن عملية البناء والتمتع بثمار الازدهار في تلك الفترة. حيث خصَّص شمس الدين دوراً للمحتاجين واليتامى والأرامل وُفر لها طيب الطعام والملبس.

 إلا أنَّ أبرز ما استرعى اهتمامي الشخصي في حياة هذا المسلم العظيم هو سياساته الدينية وعلاقاته مع القوميات والأقليات في منطقة هي في الأصل تضم تشكيلة متباينة من الأقليات والديانات والثقافات المختلفة، فشمس الدين، التقى النقي الذي بنى مسجدين كبيرين هما مسجدا نَانتشَنْغ ويُونغنِينْغ، بنى أيضاً معابد ومدارس لأتباع المعلم الفيلسوف كونفوشيوس، بل هو أول من بنى في سنة 673- 675 هجرية (1274 – 1276م) أول معبد كونفوشي في تاريخ يُوننان وقد أُلحقت به مدرسة لدراسة التعاليم الكونفوشية وعلوم أخرى كالطب والفلك وغيرها وكانت هذه المدرسة هي أول مدرسة في الإقليم تقبل التلاميذ من جميع القوميات والخلفيات الأسرية. ونلاحظ أنَّ شمس الدين قد استفاد من نظام الأوقاف الخاص بالمساجد حيث اقترح شراء أراض لصالح المعبدـ المدرسة وتأجيرها ليعود عائدها للصرف على المدرسة والمدرسين.

وتشير المصادر الصينية، بما فيها مصادر تاريخ القوميات في مقاطعة يوننان، إلى العلاقة الرائعة التي قامت بين أبناء هذه القوميات وشمس الدين، حيث أظهر هذا المربي المسلم العظيم تفهماً واحتراماً منقطع النظير لثقافات هذه الأقليات ونمط حياتها ودياناتها وموروثها الثقافي، فقد حرص شمس الدين على إظهار احترامه الكامل لتقاليد هذه القوميات، ولم يكترث شمس الدين بالنظام العنصري الاجتماعي الذي فرضه المغول على المجتمعات التي حكموها في الصين، فقام بتعيين الإداريين الأكفاء من مختلف القوميات بغض النظر عن ترتيبهم في النظام الاجتماعي المغولي ودينهم، حيث اختار مسؤولين لمواقع إدارية رئيسية من قوميات هان وباي ويِي وغيرهم. وتحت قيادته عاشت القوميات الصينية المختلفة في سلام حقيقي واستطاع في سنوات حكمه الست أن يضم مملكة دَالِي ومملكة نَانتَشاو بشكل نهائي للسلطة المركزية لتصبح هاتان المنطقتان جزءاً أصيلاً من الصين. ونلاحظ أنَّ بعض الباحثين الصينيين قد فسروا اهتمام شمس الدين ورعايته للمعابد والتعاليم الكونفوشية ومعتنقيها بأنه اختار لحكم الإقليم برنامجاً كونفوشياً، ويتساءل هؤلاء الباحثون عن سبب اختيار شمس الدين عمر برنامجاً كونفوشياً بدلاً عن برنامج إسلامي في يُوننان وهو الحاكم الشديد الإيمان بدينه القوي والمدعوم من المركز في بكين والمحبوب من شعبه في يُوننان. ولا يجد بعض الباحثين إجابة لسؤالهم الحائر سوى أنَّ شمس الدين كان قد تصين بحكم إقامته الطويلة في الصين في ذلك الوقت، بينما يحاول الباحث الصيني وَانْغ جِيانغ بِينْغ الإجابة على هذا السؤال بقوله "إن المناطق الحدودية في يوننان لها تاريخ تلاقح ثقافي قديم مع الثقافة الصينية قبل أسرة يوان وإنَّ سكانها قد تأثروا بالتقاليد الكونفوشية وأن القيادات الإسلامية هناك بما فيهم شمس الدين عمر قد استفادوا من هذا الاتجاه لتعزيز التنمية والاستقرار الاجتماعي في هذا الإقليم". ومع تقديري لهذه الاجتهادات إلا أنني أعتقد أنَّ شمس الدين عمر لم يطبق في يُوننان برنامجاً كونفوشياً، علماً بأنَّ مسلمي الصين ظلوا تاريخياً قريبين جداً من التعاليم الكونفوشية لتشابه الكثير من تعاليمها مع تعاليم الإسلام، بل في الواقع أنَّ شمس الدين قد طبق برنامجاً إسلاميا صحيحاً قائماً على فهم عميق لتعاليم الإسلام وتراثه العظيم المبنى على احترام الآخر والحوار معه بالحُسنى وبسط قيمة العدل ومنح الناس حقوقهم الثقافية والاقتصادية. وقد نجح، في تقديري، برنامج شمس الدين الإسلامي المتسامح في يُوننان والدليل على ذلك هو الوجود الإسلامي الكثيف في يوننان اليوم. إن الحزن النبيل الذي خيِّم على القبائل والقوميات في يُوننان والأساطير والحكايات والأغاني التي ألفتها وكتبتها مختلف القوميات في يُوننان والتي اتفقت كلها طوال سبعمائة عام بمختلف دياناتها وثقافاتها على عظمة هذا الأمير المسلم العظيم وعدله وتواضعه تدل حقاً على عمق العلاقة التي أسسها هذا الحاكم مع محكوميه الذين خرج جزء مقدر منهم مختارين من معابدهم التي بناها لهم ليدرسوا تاريخهم وتراثهم، ودخلوا أفواجا في رحاب الإسلام، لا خوفاً بل اقتداءً بحاكمهم وبعدله، وهم يعرفون أو لا يعرفون أنَّ شمس الدين استمد عدله وثقافته الواسعة واحترامه للآخر من عدل الإسلام النقي حين يتسلل بإنسانيته وفطرته السمحة في دواخل المسلمين فلا يرون في الذين يختلفون عنهم في معاشهم ودينهم وثقافتهم وألوانهم سوى اخوة إن كانوا بينهم، ومواطنين كاملي الحقوق يُسألون عنهم يوم الحشر العظيم (يا أيها الناسُ إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكُم شُعُوبا وقبائل لتعارفُوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) الحجرات – الآية 13. وقد استمر أبناء شمس الدين الذين واصلوا حكم هذا الإقليم في تنفيذ سياسات وبرامج والدهم وحظوا بذات الاحترام.

_________________________________________________

د. جعفر كرار أحمد: باحث في تاريخ العرب والمسلمين في الصين.

 

 

 

 

 

 

 

 

Address: 24 Baiwanzhuang Road, Beijing 100037 China
Fax: 86-010-68328338
Website: http://www.chinatoday.com.cn
E-mail: chinatoday@chinatoday.com.cn
Copyright (C) China Today, All Rights Reserved.