ربما يرى البعض أن عنوان "الحالة اللادينية في الصين" هو التعبير الأكثر دقة في وصف علاقة الصينيين مع الأديان، وبخاصة عندما نعني الديانات السماوية، فوفقا للأرقام الحكومية الرسمية، لا تزيد نسبة من لهم عقيدة دينية في الصين عن 10% من المليار وثلاثمائة وعشرين مليون صيني، فأرقام السلطات الصينية تقول إن الصين بها نحو مائة مليون فرد، أو أكثر قليلا يدينون بالبوذية والطاوية والإسلام والمسيحية بشقيها الكاثوليكي والبروتستانتي.
وقصة الخلق في الميثولوجيا الصينية تختلف عن قصة الخلق في الأديان السماوية، حيث تذهب الأسطورة الصينية إلى أن الدنيا كانت عبارة عن بيضة كبيرة مظلمة من الداخل وفي قلبها بان قو، الذي يعتبره الصينيون خالق كل شيء، الذي فصل السماء عن الأرض وقف بينهما رافعا السماء برأسه وواضعا الأرض تحت قدميه. كان طول بان قو يزداد يوما بعد يوم واستمر الحال على هذا النحو ثمانية عشر ألف سنة، حتى باتت المسافة بين الأرض والسماء شاسعة، وأصبح بان قو ماردا عملاقا. بعد موت بان قو تحولت عيناه إلى الشمس والقمر وصارت أطرافه الجبال، أما دمه فأصبح البحار والأنهار والبحيرات، وتحولت أوتاره وشرايينه إلى الطرق، أما لحمه فأصبح الحقول وصار شعر رأسه النجوم وصار جلده وشعر جسمه زهورا وعشبا وشجرا وتحول عظمه إلى معادن وأحجار، أما نفَسُه فتحول إلى ريح وسحب متقلبة، وصارت عروقه مطرا وندى يرويان المخلوقات. وأبو البشر عند الصينيين ليس آدم ، وإنما فو شي، وأمهم ليست حواء وإنما نوي وا، التي خلقت في ستة أيام أنواع الحيوانات المستأنسة؛ الطيور، الكلاب، الغنم، الخنازير، المواشي والخيل. وفي اليوم السابع استخدمت الطين لتشكيل هيئة الإنسان. وكانت نوي وا مسؤولة عن حماية البشر بينما كان فو شي مسؤولا عن الزراعة والقنص.
وقد اتخذ الصينيون القدماء لكل شيء إلها؛ للسماء وللأرض وللنار وللماء الخ. وبحلول القرن الثامن قبل الميلاد، كانت مكانة الآلهة، التي هي من ابتكار الشعب، تتجاوز مكانة الفرد. وفي القرن السادس قبل الميلاد أسس الفيلسوف الصيني كونفوشيوس (كونغ سي) (551 – 479 ق.م) مدرسة فكرية كانت بمثابة العقيدة الدينية للصينيين خلال الفترات اللاحقة. أكدت الكونفوشية على قيمة الفرد وغرس المبادئ الأخلاقية الشخصية ومن ثم أهمية تطوير الشخصية الأخلاقية السامية. وأكد كونفوشيوس على مفهوم رن (النزعة الخيرية) ومفهوم لي (الطقوس والمراسم)، وهما المفهومان اللذان أصبحا لُب المدارس الفكرية الكونفوشية اللاحقة.
وقد اعتقد كونفوشيوس بأن النزعة الخيرية يتم التعبير عنها بأربعة طرق، منها أن جوهر النزعة الخيرية يتجسد في المخلوقات البشرية وليس في الآلهة. وأولى كونفوشيوس شؤون البشر أهمية أكبر من شؤون السماء، حيث اعتقد أن علاقات البشر الأخلاقية، صورة مصغرة للعلاقات الاجتماعية. واعتقد بأن الذين حققوا النزعة الخيرية، ومن ثم لديهم شخصية أخلاقية سامية، يحبون كل البشر. وتؤكد الكونفوشية على أن سلوك الفرد يجب أن يخضع للمتطلبات الأخلاقية للمجتمع، وإذا كان العامة من الناس قادرين على أن يدرءوا أنفسهم عن رؤية أو سمع أو قول أو فعل أي شيء يتناقض مع المعايير الأخلاقية والسلوكية للمجتمع فإن كل علاقة، اجتماعية أو سياسية أو شخصية، تقترب من التناغم لعالم مثالي.
وما يقال عن الكونفوشية يقال عن الطاوية التي دعت إلى السمو فوق شؤون الدنيا كوسيلة لحل المشاكل. فقد اعتبر لاو تسي، وتشوانغ تسي أن مسألة كيفية التعامل مع العالم الخارجي هي القضية الأكثر أهمية التي يواجهها الفرد على الإطلاق. وفي رأيهما، أن الفرد باختياره الانفصال عن الدنيا يمكنه أن يتجنب مخاطرها ويحافظ على حريته في حياته، ولكي يحقق أعلى درجات السمو من الضروري أن يستوعب مفهوم الطاو أي السراط. وتؤكد الفلسفة الطاوية على أنه برغم أن كافة الأشياء موجودة في حالة من التحول، فإنها أيضا تمتلك نظاما فطريا للتحول الدائم. هذا التحول الذي لا علاقة له بالتغير الخارجي هو الطاو. وفهم الطاو يمكَّن الفرد من أن يحيا سعيدا بغض النظر عن تقلبات الطبيعة والمجتمع.
وكانت البوذية أول عقيدة دخلت إلى الصين من خارجها، قادمة من الهند في أواخر أسرة هان الغربية (206ق.م – 24م). ولكن مع امتزاجها بالثقافة الصينية ظهر شكل جديد من البوذية الصينية يختلف بوضوح عن البوذية الهندية التي تدعو إلى الزهد الصارم والانعزال والتأمل لوقت طويل. وقد صين الصينيون البوذية، أي أعطوها طابعا صينيا، ففي القرن السابع الميلادي اعتبر الراهب البوذي الصيني هوي ننغ (636 – 713م) أن التهذيب الذاتي منعزلا عن حياة المجتمع لا يمكن أن ينجح، واعتقد بأن البوذي يمكن أن يمارس التهذيب الذاتي خلال حياته وعمله، بل إن الفلاح الأُمي يمكنه تحقيق التنوير طالما أنه يعمل بجد ويفي بمسؤولياته. هذه الطائفة البوذية التي وضع هوي ننغ أصولها تدعو إلى التحرر من قيود تعاليم البوذية وتشجع التفكير الحر والجدل بين أتباعها كوسيلة للمعرفة.
وعلى الرغم من أن البوذية الصينية واصلت التأكيد على أهمية الأسفار البوذية فإنها توحدت مع الأفكار الكونفوشية والطاوية الصينية وانتهت إلى الاندماج التام مع الثقافة الصينية ذات التعددية الواضحة.
وكان الإسلام أول عقيدة سماوية عرفتها الصين وكان ذلك في القرن السابع الميلادي، وقد ارتبط دخوله بقوافل التجارة عبر البر والبحر، أما المسيحية الكاثوليكية فقد طرقت أبواب الصين في القرن الثالث عشر، ولكن البداية الحقيقية لانتشارها كانت في أربعينيات القرن التاسع عشر مع تزايد أعداد المبشرين، وكانت البروتستانتية آخر عقيدة سماوية وصلت الصين، وتحديدا عام 1807م.
ومن بين كل هذه العقائد، الطاوية هي العقيدة الوحيدة ذات المنشأ الصيني، والبوذية هي الأطول تاريخا في الصين، فقد دخلتها منذ القرن الأول الميلادي، ومن بعدها الطاوية التي تشكلت في القرن الثاني. ومن الصعب تحديد عدد معتنقي الأديان في الصين، وحسب ما جاء في الكتاب الأبيض – ((حرية الاعتناق الديني في الصين)) الذي أصدره مكتب الإعلام التابع لمجلس الدولة في عام 1997، بلغ عدد الكاثوليك أكثر من أربعة ملايين نسمة؛ وعدد البروتستانت حوالي عشرة ملايين نسمة. ثم أعلنت جمعية الأديان الصينية أنه وفقا للإحصاء الذي أجرته في عام 2003 وصل عدد الكاثوليك خمسة ملايين نسمة، وعدد البروتستانت 16 مليونا. أما عدد المسلمين في الصين فيتم حسابه على أساس عدد أفراد الأقليات القومية العشر التي تصنف في الصين على أنها القوميات الإسلامية ومن ثم فإن عدد المسلمين يناظر عدد أبناء تلك القوميات ويبلغ حاليا حوالي 22 مليون نسمة. أما معتنقو البوذية والطاوية فربما من المستحيل معرفة أعدادهم لعدم وجود طقوس معينة أو سجلات تحدد أتباعهما وإن كانت جمعية البوذية الصينية تذكر في إحصائياتها أن عدد معتنقي البوذية في الصين وصل حوالي مائة مليون نسمة.
ويُلاحظ أن معظم معتنقي الأديان في الصين ينتمون للأقليات القومية، فنصف عدد أبناء الأقليات القومية الخمس والخمسين يؤمنون بدين أو بآخر، في حين لا يتجاوز عدد معتنقي الأديان من أبناء قومية هان 10%، معظمهم يوذيون وكاويون وبروتستانت. ولبعض الأقليات القومية عقيدة دينية واحدة، مثل قومية التبت وقومية منغوليا اللتين تعتنقان البوذية التبتية (اللامية)، ومثل قومية هوي وقومية الويغور والثماني قوميات الأخرى التي تدين بالإسلام.
ولكن دراسة جديدة نشرتها مجلة ((دونغفانغ لياووانغ)) "استشراف الشرق" التي تصدر باللغة الصينية في عددها الأول لشهر فبراير هذا العام 2007، تدعو إلى إعادة النظر في الحالة الدينية في الصين وتغير النظرة السائدة عن الصينيين بشأن علاقتهم مع العقائد، وما نقصده بالعقائد هنا لا يقتصر على الأديان السماوية الثلاثة، ولا حتى على البوذية والطاوية، وإنما يشمل عبادة شخصيات أسطورية مثل الملك التنين وإله الثروة والأسلاف وغيرها.
الدراسة المثيرة التي قام بها اثنان من العلماء الصينيين المتخصصين في الدراسات الاجتماعية هما البروفيسور تونغ شي جون والبروفيسور ليو تشونغ يو، وهما من أساتذة جامعة شرق الصين للمعلمين في شانغهاي، شملت عينة من 4500 فرد واستمرت من عام 2005 حتى نهاية عام 2006، وكان من نتائجها أن نحو ثلث الصينيين فوق سن السادسة عشرة، وتحديدا 300 مليون صيني، يؤمنون بعقيدة أو بأخرى، أي ثلاثة أضعاف الرقم المعلن من جانب الهيئات الرسمية. وقد انتهت الدراسة إلى نتيجة مشابهة للمستقر عليه بشأن العقائد الرئيسية في الصين، فهي حسب الدراسة البوذية، الطاوية، الكاثوليكية، البروتسنانتية، والإسلام، فأتباع هذه العقائد يمثلون 67.4% من إجمالي معتنقي الأديان. وكشفت الدراسة عن التوجه القوي لإعادة إحياء العقائد الصينية التقليدية، حيث يمثل الذين يعتنقون البوذية والطاوية أو يعبدون شخصيات أسطورية مثل الملك التنين وإله الثروة 66,1% من إجمالي أصحاب العقائد. وحسب الدراسة يبلغ عدد البروتستانت 40 مليونا وليس ستة عشر مليونا، كما تقول الأرقام الرسمية. وإذا كانت الدراسة لم تذكر عدد معتنقي الإسلام في الصين، فإنه بجمع عدد الذين يعتنقون البوذية والطاوية أو يعبدون الشخصيات الأسطورية وهو 200 مليون مع عدد البروتستانت وهو 40 مليونا وطرحهما من إجمالي أصحاب العقائد بالصين يكون الناتج ستين مليون مسلم وكاثوليكي، وبافتراض أن عدد الكاثوليك تضاعف مرتين من خمسة إلى خمسة عشر مليونا، فإن عدد المسلمين يكون خمسة وأربعين مليونا وليس 22 مليونا، وقال إمام الطائفة النقشبندية في نينغشيا إبراهيم هونغ إنه يعتقد أن عدد مسلمي الصين حوالي 40 مليونا.
ولاحظت الدراسة أن نسبة كبيرة من شباب الصين انضموا إلى ذوي العقائد منذ عام 2000، وهو أمر يختلف عما كان قبل عشرات السنين حيث كان معظم معتنقي الأديان في الأربعينات من عمرهم أو أكثر، حيث أن 62% من معتنقي الأديان الذين شملتهم الدراسة يتراوح عمرهم بين 16 و39 سنة، بينما 9,6% فقط فوق الخامسة والخمسين. وعن أسباب اعتناقهم للأديان، قال 24,1% ممن شملتهم الدراسة: "الدين يبين الطريق الحق في الحياة"، وقال 28%: "العقيدة تساعد في شفاء العلل وتقي من الكوارث وتضمن أن تسير الحياة بسلاسة".
المعلومات الجديدة التي كشفت عنها هذه الدراسة ستؤدي يقينا إلى إعادة دراسة الحالة الدينية في الصين، وإلى إعادة النظر إلى الصين كمجتمع لا عقيدة دينية له.
husseinismail@yahoo.com