ã

تركستان الشرقية.. الحقيقية والوهم

حسين إسماعيل

حوض تاريم

أطفال في مدينة يينينغ

مدينة كاشغر بجنوب شينجيانغ

في الثامن من يناير هذا العام، أعلن المتحدث باسم مصلحة الأمن في شينجيانغ عن مقتل ثمانية عشر "إرهابيا" خلال هجوم  لقوات الأمن على معسكر للتدريب في شمال شرقي شينجيانغ تديره "حركة تركستان الشرقية الإسلامية"، وفي الثاني عشر من سبتمبر العام الماضي أعلن تشين قانغ، المتحدث باسم وزارة الخارجية  الصينية، استنكار الحكومة الصينية ترشيح السيدة الإيغورية رابيا قادر (ربيعة قادر)، المقيمة حاليا في الولايات المتحدة، لجائزة نوبل للسلام، وبرر ذلك بأن تصريحات وأفعال رابيا تهدف إلى زعزعة السلام والاستقرار في المجتمع  الصيني. وقال تشين إن رابيا (ربيعة) عضو في جيش "تركستان الشرقية" الإرهابي، وتم  اعتقالها وحكم عليها القضاء الصيني بتهمة الإضرار بالأمن العام. هذه التصريحات أعادت إلى ذاكرتي رحلتي إلى شينجيانغ.

كان ذلك قبل عامين تقريبا. قبل السفر إلى منطقة شينجيانغ الويغورية الذاتية الحكم، وهذا هو المُسمى الرسمي لتلك المنطقة الواقعة شمال غربي الصين، والتي تذكرها كتابات عربية باسم "سنكيانغ" نصحني عدد من الأصدقاء الصينيين بأن أنتبه لسلامتي وأمني، فقد أتعرض لما يسئ إلي هناك. في الطريق إلى مطار العاصمة ببكين وأثناء رحلة الطائرة من عاصمة البلاد إلى عاصمة شينجيانغ، مدينة أورومتشي، التي تكتب بلغة قومية إيغور "ئورمجي"، لم تكن صورة شينجيانغ، التي يكتبها الإيغور (الويغور) "شنجاك"، في مخيلتي قاصرة على تعاريش العنب وبطيخ هامي والغناء والرقص الفلكلوري المميز لأبناء الإيغور، ولم تكن فقط صورة الإبل والفيافي أو حتى صورة مطاعم شينجيانغ في بكين، تلك المطاعم الأكثر تفضيلا لدي، فصورة شينجيانع مرتبطة أيضا بالحركات الانفصالية والقلاقل التي شهدتها هذه المنطقة خلال تسعينات القرن الماضي وما يُكتب عنها خارج الصين والتنظيمات الانفصالية لقوى تسعى إلى إقامة ما تسميه "تركستان الشرقية".

أمضيت عدة أيام بين ربوع شينجيانغ؛ من أقصى جنوبها في كاشغر- "قه شقه ر"، كما تُكتب بلغة الإيغور- إلى ألتاي في الشمال، كدت خلالها أنسى هذا الموضوع، فها أنا في قلب شينجيانغ أخرج بعد منتصف الليل إلى الشوارع، أسير بمفردي فلا أرى شيئا غير عادي، وإن كان الهاجس الأمني جعلني أحيانا أحدق في حارس الفندق الذي نزلنا به في مدينة ألتاي وهو يتفقد ليلا السيارات الواقفة أمام البناية بمصباح كشاف، ينظر أسفلها وفي داخلها.

ثم حدث ما لم أتوقعه! 

ذات مساء، تم إخطار وفدنا الصحفي بأن نائب رئيس المنطقة سوف يلتقي بنا صباح اليوم التالي ومن شاء طرح أسئلة ينبغي أن يتقدم بها مكتوبة مسبقا. وحتى اللحظة الأخيرة كنت أستعد للسؤال عن قضية الأمن في شينجيانغ، ولكنني لم أفعل. في الصباح كنت أمام كوره شي- مه خسوت (قرشي مقصود) وهو إيغوري، نائب رئيس المنطقة. شرع الرجل يتحدث في كل شئ بقلب وعقل مفتوح  ويتطرق دون سؤال منا إلى قضية الأمن في المنطقة، ويقول صراحة إن من أولويات حكومة المنطقة توفير الأمن والاستقرار بها، ذلك أن شينجيانغ يعيش بها أبناء 47 قومية ولها حدود طويلة تمتد 5600 كم، وتجاور ثماني دول، بعضها يعاني قلاقل واضطرابات ودعوات انفصالية.

وقال المسئول الصيني الإيغوري إن شينجيانغ واجهت قبل وحتى تسعينات القرن الماضي تحديات زعزعة الأمن والاستقرار بها من قبل الانفصاليين وقد أثر هذا بالفعل على استقرار المنطقة،.. وهذه حقيقة لا نخفيها". وأوضح مه خسوت بأن حكومة المنطقة لم تفعل ما يكفي في ذلك الوقت للتغلب على هذه المشكلة وهذا ما أعطى الفرصة لمجموعة قليلة من الناس للسعي إلى تقسيم الصين. ولكن، والكلام مازال لنائب رئيس المنطقة، بدعم من الحكومة والشعب تحقق الكثير في تحسين الوضع الأمني. وأوضح بأن المنطقة زادت من جهود التعاون الأمني مع الدول المجاورة من خلال منظمة شانغهاي للتعاون، موضحا أن الهدف الأساسي لهذه المنظمة هو توحيد الجهود لقمع الإرهاب والعنف الدولي.

لم يكن حديث كوره شي- مه خسوت بهذه الصراحة والوضوح مفاجأة لي وحدي وإنما لكل أفراد مجموعة الصحفيين القادمة من بكين، وهي مفاجأة جعلت البحث في قضية الانفصاليين في شينجيانغ ليست، كما ظننا، سيرا في حقل ألغام!

وبينما نحن في عاصمة شينجيانغ تلقيت مفاجأة أخرى في دار نشر العلوم والتكنولوجيا التي يتولى رئاستها شاب ويغوري اسمه ديلشات ئابدوكيريم (دلشات عبد الكريم). المفاجأة هي ذلك الكتاب الذي حصلت عليه من الدار ويحمل عنوان "معلومات شينجيانغ"ويتضمن موضوعا بعنوان "أصل قضية تركستان الشرقية". هذا الكتاب الصادر في الأول من يوليو عام 2004 يعرض قضية تركستان الشرقية بشيء من التفصيل.

وفقا للكتاب، ظهر مصطلح "تركستان" في الأعمال الجغرافية العربية في العصور الوسطى، وهو يعني "منطقة الترك" ويشير إلى المناطق الواقعة شمال نهر سير دريا،(وهو أحد نهرين، الآخر هو آمو دريا، يصبان في بحر آرال بآسيا الوسطى). وقد يكون من المفيد هنا أن أشير إلى أن كلمة "ستان" ليست عربية، والأغلب أنها فارسية وإن ذكرت بعض المصادر أن أصلها  كردي أو تركي، وهي تعني الأرض أو المنطقة أو البلد، فأفغانستان هي أرض الأفغان  وقازاقستان هي منطقة القازاق وكذلك باكستان وقرغيرستان وأوزبكستان إلخ.

وحسب كتاب "معلومات شينجيانغ"، مع التطور التاريخي نشأت المجموعات العرقية الجديدة في آسيا الوسطى واحدة بعد أخرى، وبنهاية القرن الثامن عشر أمسى مفهوم "تركستان" الجغرافي مبهما للغاية، ولم يعد أحد يستخدمه تقريبا في السجلات التاريخية لذلك الزمان. ولكن في بداية القرن التاسع عشر ومع التوسع الاستعماري للإمبريالية إلى آسيا الوسطى عاد مصطلح "تركستان" إلى الظهور مرة أخرى.

 ويقول الكتاب إن شخصا روسيا اسمه تيمكوفسكي استخدم مصطلح تركستان مرة أخرى عام 1805 في تقرير عن مهمة دبلوماسية لوصف الموضع الجغرافي لآسيا الوسطى وحوض تاريم في جنوبي شينجيانغ الصينية. وبالنظر إلى اختلاف التاريخ واللغة والعادات والانتماءات السياسية للمنطقتين، قال إن حوض تاريم في شينجيانغ يقع إلى الشرق من تركستان وهو "تركستان الشرقية" أو "تركستان الصينية". وفي منتصف القرن التاسع عشر ضمت روسيا الثلاثة خانات في آسيا الوسطى وهي خيوا أو خيفا وبخارى وكوكاند، وعليه فقد أطلق البعض في الغرب على منطقة ما وراء النهر "تركستان الغربية: أو "تركستان الروسية"، وأطلقوا على منطقة شينجيانغ اسم "تركستان الشرقية".

في بداية القرن العشرين والفترة التالية، وبتأثير من التوجه الدولي للتطرف الديني والشيفونية القومية- حسب الكتاب- قامت مجموعة ضئيلة من الانفصاليين والمتطرفين الدينيين بتسييس وتمييع مصطلح "تركستان" الجغرافي واختلقوا منظومة أيديولوجية ونظرية حول ما يسمى "استقلال تركستان الشرقية"، على أساس المزاعم التي لفقها المستعمرون القدامى. ويقول الكتاب إن هؤلاء يزعمون أن تركستان الشرقية كانت دولة مستقلة منذ قديم الزمان وأن شعبها الذي يرجع تاريخه إلى عشرة آلاف عام هم أفضل أمة في تاريخ البشرية. وقاموا بتحريض كل المجموعات العرقية التي تتحدث التركية وتدين بالإسلام أن توحد جهودها لإقامة دولة ثيوقراطية دينية، وطالبوا بمعارضة كل القوميات غير الترك والقضاء على الوثنيين، زاعمين أن الصين هي عدو تركستان الشرقية لمدة ثلاثة آلاف عام.

وبعد ظهور نظرية "تركستان الشرقية" رفع الانفصاليون بمختلف أطيافهم راية "تركستان الشرقية" لتنفيذ نشاطات تهدف إلى تحقيق رغبتهم في إقامة دولة "تركستان الشرقية".

وقد قامت قوى "تركستان الشرقية" في الفترة من بداية القرن العشرين حتى عام 1949 بالعديد من الاضطرابات بتشجيع ودعم من القوى الأجنبية المعادية- حسب وصف كتاب "معلومات شينجيانغ"- وفي عام 1933 أقام ثابت دامولا وآخرون ما سُمي "جمهورية تركستان الشرقية الإسلامية" في كاشغر ولكنها انهارت في أقل من ثلاثة أشهر. في عام 1944 اندلعت "ثورة المناطق الثلاث" (إيلي وتاتشنغ وألتاي)، ضد حكم حزب الكومينتانغ "الوطنيين"، غير أن إلهان (إلهام) توريه، وهو أوزبكي من الاتحاد السوفيتي السابق اغتصب قيادة الثورة في أيامها الأولى وأسس ما سمي "جمهورية تركستان الشرقية" في يينينغ، جنوبي شيجيانغ، ونصب نفسه رئيسا لها. وفي يونيو 1946 أزاحه أحمد جان قاسمي وعبد الكريم عباسوف (عباس) وجعلوا "جمهورية تركستان الشرقية" مجلسا استشاريا لمنطقة إيلي الإدارية، وكان ذلك ضربة قاصمة للقوى الانفصالية. وفي سبتمبر عام 1949 كانت شينجيانغ تحت سيطرة الحزب الشيوعي الصيني بعد التغلب على ما بقي من قوى للكومينتانغ بها. ولكن دعاة انفصال شينجيانغ لم يكفوا عن سعيهم. وحسب الكتاب فإنهم بتأثير من التطرف الديني والإرهاب الدولي قاموا في تسعينات القرن الماضي بنشاطات تخريبية وانفصالية داخل وخارج الصين ومنها عمليات اغتيال وتفجيرات. وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وتصاعد الدعوة إلى التعاون في مجال مكافحة الإرهاب الدولي أدرجت حركة تركستان الشرقية الإسلامية على القائمة الدولية للمنظمات الإرهابية. ولاشك أن هذه الحركات الانفصالية في عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر تواجه طريقا كان بالفعل مسدودا قبل هذا التاريخ.

في شينجيانغ، وعلى أرض الواقع لا تلحظ شيئا يقول إن هؤلاء الناس يفكرون في الانفصال أو اللجوء إلى العنف لأنهم ببساطة مشغولون حتى الرمق الأخير بتدبير قوتهم في بيئة طبيعية قاسية، ولأن شينجيانغ ركن أساسي في الدولة الصينية، فهي سُدس مساحة الصين، وبها نحو ثلث احتياطي النفط وثلث احتياطي الغاز الطبيعي وأكثر من ثلث احتياطي الفحم في الصين وهي بوابة الصين الشمالية الغربية، فكيف يمكن أن تسمح الصين لأحد أن يغتصب هذا الجزء منها. إن تركستان الشرقية ليست أكثر من سراب ووهم، والذين يسعون إلى فصل شينجيانغ عن الصين إنما يحرثون في الماء ولا يعون حقائق العصر، وإن شئت اليقين فلتذهب إلى شينجيانغ ذاتها!   

   

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Address: 24 Baiwanzhuang Road, Beijing 100037 China
Fax: 86-010-68328338
Website: http://www.chinatoday.com.cn
E-mail: chinatoday@chinatoday.com.cn
Copyright (C) China Today, All Rights Reserved.