ã

أنسنة الشرطة

حكاية رجل ومصلحة أمن في جينتشو!!

حسين إسماعيل

مركز مواجهة الطوارئ بمصلحة أمن جينتشو

وانغ لي جيون يقدم جانبا من البحوث التي تجريها مصلحة أمن جينتشو

ردهة مصلحة أمن جينتشو عبارة عن متحف أمني

اعترف بداية أنني وإن كنت لا أكن مشاعر غير ودية تجاه أفراد الأمن، أي أمن في أي مكان، فإنني أيضا- حتى قبل شهرين- لم أكن أشعر بكثير من التعاطف معهم أو الود تجاههم. ولعل الصورة التلفزيونية والسينمائية للشرطة وقوات الأمن هي التي كرست لدي الشعور بأن قوات الأمن تعادل اليد الثقيلة التي لا قلب لها، برغم أن لي أقارب وأصدقاء يعملون في الأجهزة الأمنية. لكل هذا عندما أُخبرت بأن أستعد لزيارة مصلحة الشرطة في جينتشو، وهي مدينة تتبع مقاطعة لياونينغ وتقع على مسافة أكثر من أربعمائة كم من العاصمة بكين، لم أكلف نفسي- كعادتي قبل السفر- عناء البحث عن معلومات عن تلك المدينة أو جهازها الأمني؛ فالأمر بالنسبة لي لن يكون أكثر من زيارة لمكاتب يسودها الانضباط القاسي والجفاف الإنساني ورؤية شارات لامعة على أكتاف أفراد ينفذون- دون تفكير- الأوامر التي تصدر لهم.

بدأت رحلة جينتشو من بكين، استمرت نحو سبع ساعات، بصحبة مسئول الحراسة بمصلحة أمن جينتشو السيد شياو لتأمين طريقنا إلى هناك. وصلنا وكانت الساعة تقترب من الثامنة والنصف مساء اليوم الثامن من ديسمبر2006، وفي فندق بيجياشان  بدأت حكاية الرجل.

في قاعة استقبال بالفندق تحلق أعضاء وفد ((الصين اليوم)) الثمانية عشر، منهم سبعة أجانب، حول الرجل الذي كان في استقبالنا. همست الزميلة وانغ فو في أذني بأن الرجل هو عمدة المدينة، وقد اكتشفنا لاحقا أن ذلك ليس صحيحا، فالرجل صاحب البنية القوية والحيوية الظاهرة هو وانغ لي جيون، رئيس مصلحة الشرطة في مدينة جينتشو، وهو بحكم هذا العمل يشغل أيضا منصب نائب عمدة المدينة. 

في مقر مصلحة الشرطة تعرفت أنا وغيري من زملاء الرحلة على وانغ لي جيون عن قرب، وبدا واضحا أن الرجل يجيد فن التعامل مع الإعلاميين، وقد عزى ذلك إلى أن والده كان مراسلا عسكريا إبان الحرب الكورية. وكانت أول مفاجأة، ضمن مفاجآت كثيرة، ألقى بها وانغ لي جيون هي تأكيده على ضرورة معاملة المجرم على أنه مريض نفسي! هذه أول مرة أسمع رجل أمن ينظر إلى المجرمين بعين اجتماعية وطبية. الكلام الذي قاله وانغ لي جيون يدعمه بحقائق عملية، فعندما سألته عن الأسباب التي تؤدي بالفرد إلى طريق الجريمة قال إن هناك أسبابا نفسية وأسبابا عضوية، وأشار إلى أن تشريح رأس رجل وامرأة أدينا بقتل شابة وأكل لحمها في الصين أثبت وجود اختلافات في تركيب الجمجمة ومقدمة الرأس وتكوين المخ عن الأفراد العاديين، ودعم ذلك بالصور التي عرضها أمامنا، فهو الذي قام بعملية التشريح. وكانت تلك هي المفاجأة الثانية، فالرجل ليس ضابط شرطة فحسب بل طبيب تشريح أيضا!

   وتقول السيرة الذاتية لوانغ لي جيون إنه من أبناء قومية منغوليا، من مواليد عام 1959 وإنه درس بكلية العلاقات السياسية والاقتصادية الدولية، وجامعة الشرطة، وجامعة الأمن، وأثناء عمله درس أيضا في جامعة كاليفورنيا الأمريكية وجامعة دونغبي (الشمال الشرقي) للمال والاقتصاد بالصين، وحصل على شهادتي ماجستير إدارة الأعمال MBA   وماجستير إدارة الأعمال التنفيذي EMBA.

والسيد وانغ له باع طويل في البحث الجنائي، ليس على مستوى الصين فحسب، بل على مستوى العالم، فقد انتدبته المنظمة الدولية للطب الشرعي، بعد موافقة الحكومة المصرية، للتحقيق في حادث مقتل السياح الأجانب بمدينة الأقصر المصرية في نوفمبر 1997، وكانت مهمته هي تحديد الجهة التي أطلق منها الرصاص، كما أن مصلحة الشرطة التي يرأسها وتضم مركزا للبحث الجنائي على أعلى مستوى فني وتقني أجرت العديد من تحقيقات الأدلة الجنائية في العديد من الجرائم الدولية ومنها حادث تفجيرات مدريد في مارس 2004 وحادث تفجيرات لندن في يوليو 2005.

وحول تجربته في مصر قال وانغ لي جيون إنه واجه بعض "التشويش" من عناصر خارجية، وإن عمله كان تقديم نتيجة التحقيقات وليس أي موقف سياسي. وقال إنه شاهد حماسة المصريين في حبهم لوطنهم وإن أجهزة الأمن المصرية أثنت على الطريقة التي أدى بها دوره في معالجة هذه القضية. 

ضابط الشرطة الذي خاض معارك كثيرة بالرصاص الحي، وكان قاب قوسين أو أدنى من الموت 11 مرة، بدأ حياته عسكريا بالجيش، ولكنه كان يمارس الأعمال المدنية، وعندما أتيحت له أول فرصة للدراسة الجامعية رفضها، حسبما قال في مقابلته الصحفية مع ((الصين اليوم))، حيث أدى به تنسيق القبول إلى تخصص البناء بينما أراد هو دراسة القانون. بعد أن خرج من الجيش انخرط في سلك العدالة وعمل في الخط الأمامي وواجه مختلف أنواع الجرائم والمجرمين فتراكمت لديه خبرات وتجارب ثمينة كانت الذخيرة له في سنوات العمل التالية. قبل عدة سنوات عندما كان يرأس مصلحة الأمن في مدينة بانجين، المعروفة بإنتاج النفط، أرهق عصابات تهريب البترول، لدرجة أن واحدة من تلك العصابات رصدت مبلغ عشرة ملايين يوان (مليون ومائتي دولار أمريكي تقريبا) لمن يأتي برأسه. ولا غرابة بعد كل هذا أن تعرف أنه حاصل على وسام "أول مايو"، ووسام "العامل النموذجي"، و"واحد من أبرز عشرة شرطيين"على مستوى الصين، ولقب "بطل من الدرجة الثانية" و"بطل من الدرجة الأولى" على مستوى الأجهزة الأمنية بالصين، إضافة على اختياره عضوا بالمؤتمر الوطني السادس عشر للحزب.        

ولا شك أن هذه الخبرة العملية في العمل إضافة إلى الخلفية القانونية الأكاديمية جعلت وانغ لي جيون باحثا ومحاضرا مرموقا تسابقت إليه مراكز البحوث والجامعات، فهو  باحث ومحاضر بمعهد قانون العقوبات بكلية القانون في جامعة بكين، ومحاضر في كلية الشرطة بأوكرانيا وجامعة دونغبي للمال والاقتصاد وغيرها من 17 جامعة صينية وأجنبية، يعمل فيها أستاذا ومشرفا على رسائل الدكتوراه والماجستير. وهو أيضا رئيس المركز الوحيد في الصين لبحوث سيكولوجية مسرح الجريمة، ونائب رئيس الجمعية الدولية للطب الشرعي لفحص الجماجم والمسؤول عن مشروع الموضوعات الأكاديمية ذات العلاقة للفترة 2004-2007، كما أنه رئيس مركز البحوث النفسية والاجتماعية بجامعة دونغبي للمال والاقتصاد، ورئيس مركز بحوث التقييم التكنولوجي لمسرح الجريمة بالصين.

والمفاجأة الثالثة في قصة رجل الأمن الاستثنائي الذي قام بتشريح ألف جثة كجزء من عمله في البحث الجنائي أنه أول من أجرى بحوث تجارب نقل أعضاء الفرد الذي يعدم بأسلوب الحقنة القاتلة في الصين بعد الحصول على موافقة هو وأسرته، فمن المعروف أن أعضاء الذين يُعدمون بهذا الأسلوب لا تصلح للزراعة في أجسام آخرين، والجديد هو إيجاد وسيلة لحماية تلك الأعضاء واستخدامها لإنقاذ حياة آخرين، كما أنه يقوم ببحوث إعادة تشكيل مسرح جرائم تفجير المركبات.  وقد حصل هو  ومركز بحوث سيكولوجية مسرح الجريمة على جائزة "قوانغهوا" الصينية للإسهام الخاص للابتكار العلمي والتكنولوجي في 17 سبتمبر العام الماضي، وبفضل إنجازاته البارزة في بحوثه حول مكافحة الجريمة المنظمة وسيكولوجية ارتكاب الجريمة، منحته المنظمة القضائية الدولية جائزة الإنجازات في عام 1997 وفي عام 1999.

هذه الخبرة الثرية في العمل الأمني والإنجازات العديدة في مكافحة الجريمة   إلى جانب البحوث الأكاديمية والإدارة التنفيذية، جعلت أبناء الشعب يطلقون على وانغ لي جيون لقب "رئيس مصلحة الأمن العام ذو القبضة الحديدية". والحقيقة أن الرجل في مظهره وتعاملاته وآرائه القانونية يمثل وجها إنسانيا راقيا لرجل الأمن، ويعد واحدا من رواد أنسنة الشرطة في الصين.

والحقيقة أيضا أن وانغ لي جيون لا يعمل بمفرده، فمن خلفه مؤسسة أمن وتحقيقات جنائية واجتماعية وبحوث علمية ومختبرات وعقول بشرية وتقنيات هائلة تكلفتها تزيد على مائة مليون يوان أي حوالي اثني عشر مليون دولار أمريكي. في المقر الرئيسي لمصلحة الشرطة في جينتشو تشعر بأنك في متحف للأمن، في صالون أدبي أو قاعة موسيقى، على الرغم من سيارات الشرطة المزودة بأحدث التجهيزات الواقفة أمام البناية الرئيسية، والمختبرات العلمية والباحثين الذي يحتلون الطابق الثاني والثالث والرابع للبناية.

في ردهة البناية الفاخرة التي انتصب في مقدمتها تمثال متحرك لبابا نويل، فقد كنا في أيام الكريسماس، وبالقرب منه صورة جماعية تضم الرئيس الأمريكي الحالي، بوش، والسابق، كلينتون، إضافة إلى الرئيسين فورد وريغن، قادنا وانغ لي جون بين عشرات الصور لقوات الأمن من كافة أنحاء العالم، تزين الحوائط وتعكس السلوك الأمني والإنساني للشرطة، ومن بينها صورة لقوات الأمن الفلسطينية يرتدي أفرادها تي شيرتات عليها صورة لياسر عرفات، وصورة أخرى للرئيس الروسي بوتين يقف مائلا قليلا جهة اليمين، وقد أوضح وانغ لي جيون السبب في ذلك بأن بوتين لاعب جودو.

وعلى أنغام الموسيقى الهادئة اصطحبنا وانغ لي جيون إلى الطوابق الأخرى حيث المختبرات والمعامل، وحيث تجرى بحوث التشريح بدون جراحة، وذلك باستخدام الأشعة المقطعية، والتي من شأنها أن تحل كثيرا من المشاكل التي تواجهها العدالة في أماكن عديدة من العالم عندما ترفض أسرة المتوفى التشريح الجراحي لأسباب دينية أو اجتماعية. كما تجرى هنا بحوث كشف الكذب باستخدام 12 معيارا وبالاعتماد على التغيرات الكيميائية والفيزيائية لجسم الفرد، والتي تتم متابعتها عبر شاشة الكمبيوتر. وفي قاعة بالطابق الأخير للبناية توجد غرفة عرض لعملية إعادة تركيب مسرح الجريمة، والتي من خلالها يمكن التوصل إلى الحقيقة وتحقيق العدالة.

ومن أكثر ما أدهشني في المقر الرئيسي للشرطة بمدينة جينتشو هو المطعم الفاخر الذي يحتل قسما من البدروم بالبناية. دهشتي ليس مبعثها الجمال الفائق للمكان الذي زينت بوابته بنماذج للحبوب وآلات الزراعة القديمة وإنما كمية الكتب التي وضعت على أرفف مجاورة لطاولات الطعام، والتقديم الشيق الذي عرضت به الشرطية المسئولة عن المطعم ما أسمته هي بثقافة الطعام والحرص على أن يكون المطعم صالونا وليس مجرد مكان لتناول الطعام.

لقد استقبل مقر شرطة جينتشو في عام 2005 سبعمائة مواطن تقدموا بشكاوى ضد أفراد الشرطة، وأرسل وانغ لي جيون باسمه اعتذارات لمائة منهم. ولأنه يؤمن بأن رسالة الشرطة إنسانية في البداية والنهاية، وليقينه بأن الفساد هو العدو الأول للتناغم الاجتماعي، وقع وانغ لي جيون عقوبات على 70% من أعضاء الشرطة الذين يعملون تحت قيادته، وبعد ثلاث سنوات ونصف من شغله هذا المنصب انخفض الفساد في جهاز الشرطة الذي يقوده بنسبة 90%.

إن وانغ لي جيون يمثل الاتجاه الجديد للعدالة في الصين ويقود تيار أنسنة الشرطة في هذا البلد الذي يشهد حملة إقامة مجتمع متناغم، فلا استقرار بدون أمن ولا أمن بدون عدالة.     

 

Address: 24 Baiwanzhuang Road, Beijing 100037 China
Fax: 86-010-68328338
Website: http://www.chinatoday.com.cn
E-mail: chinatoday@chinatoday.com.cn
Copyright (C) China Today, All Rights Reserved.