ã

الحوار الحضاري الصيني العربي

(الحلقة الأولى)

لي هوا ينغ

زيارة المتحف الوطني بالسعودية

كاتب المقال

مسجد هوايشنغ (الحنين إلى النبي) في مدينة قوانغتشو. قيل إنه شيد في عهد تانغ (618- 907م) على يد الداعية العربي سعد أبي وقاص الذي جاء الصين لنشر الإسلام وهو أقدم مسجد فيها. أما منارة المسجد البادية على شكل أسطوانة فلم يكن لها مثيل في الصين من حيث شكلها المعماري

عرف العالم منذ فجر التاريخ حضارات كثيرة، لكن أربع حضارات فقط، وفقا للعالم الصيني الكبير جي شيان لين، لعبت دورا رئيسيا في تاريخ البشرية، وهي الحضارة الصينية والحضارة الهندية والحضارة العربية الإسلامية والحضارة الغربية. تعتز تلك الحضارات بقيم الحق والخير والجمال، وذلك هو أساس الحوار بينها. ولكن، لابد أن تكون هناك تناقضات بين الشعوب المختلفة بسبب التنوع الحضاري. فهناك العداء الذي تراكم عبر التاريخ بين الحضارتين الصينية والهندية، اللتين تربط الجبال والأنهار بين حدود بلديهما، الأكثر أن القوى الغربية الكبرى شنت عدوانا على الدول التي تمثل الحضارة الصينية والحضارة الهندية والحضارة الإسلامية. وقد ظلت الصداقة الطويلة المدى بين الصين والبلدان العربية خالية من أي تناقض.

في عمله الموسوعي (تاريخ الصين العام)، ذكر المؤرخ فان ون لان: "لم يكن للحضارة الصينية نظير في العالم، وقد قدرها محمد صلى الله عليه وسلم، لذا، بدأت علاقات معنوية ودية بين الصين وبلاد العرب حينذاك" (تاريخ الصين العام، ص. 374). هذا التقدير الذي أشار إليه فان ون لان هو مقولة "اطلبوا العلم، ولو في الصين". وانطلاقا من هذا الإرشاد، أرسل الخليفة عثمان بن عفان مبعوثين إلى الصين لمقابلة إمبراطور أسرة تانغ، الإمبراطور قاو تسونغ في تشانغآن (شيآن حاليا) في أغسطس عام 651 ميلادية، فكان ذلك بداية الحوار الحضاري بين الأمتين الصينية والعربية. هذه المقابلة سُجلت رسميا في المجلد الرابع من ((كتاب أسرة تانغ القديم)).

على هذه الخلفية التاريخية، دخل الإسلام الصين. وبعد أكثر من ألف وثلاثمائة عام بلغ عدد المسلمين الصينيين أكثر من عشرين مليون نسمة. وطوال هذه الفترة الطويلة، دامت العلاقات الودية بين الصين والعالم الإسلامي، وأصبحت نموذجا للعلاقات الدولية بين الأنظمة الاجتماعية والأيديولوجيات المختلفة.

ولم تخلو مسيرة العلاقات الصينية العربية من المواجهة العسكرية بين الجانبين: في عام 751، قاد الضابط الصيني قاو شيان تشي قوة تأديبية للهجوم على دويلة شي التي طلبت بدورها الدعم من إمبراطورية داشي (الدولة العباسية). ووقعت معركة بين الصينيين والعرب على ضفة نهر تالاس Talas (في كازاخستان حاليا). ولكن هذه الحرب أسفرت عن نتيجة لم يتوقعها أحد. ورد في ((تاريخ العرب العام، ترجمة ما جيان))، أن الجيش العربي أسر في هذه الحرب عددا كبيرا من الجنود الصينيين، ومنهم حرفيون يجيدون صناعة الورق، فنقلوا صناعة الورق الصينية إلى المناطق الواقعة غرب الصين حينذاك، مما قدم إسهاما خالدا للحضارة العربية والحضارات الأخرى في العالم." ومن عجائب هذه الحرب أنها لم تترك رواسب عداء بين الجانبين، فبعد خمس سنوات من نهايتها (756م)، لبى خليفة داشي، العباسي أبو جعفر المنصور طلب حكومة أسرة تانغ الإمبراطورية الصينية وأرسل جيشا لمساعدتها في إخماد الانقلاب العسكري الذي قاده آن لو شان وشي سي مينغ، فكان ذلك إسهاما حاسما لإعادة الصداقة بين الدولتين. لكل هذا كانت المواجهة العسكرية الوحيدة بين الصين وبلاد العرب في التاريخ حديثا طيبا في تاريخ العلاقات الدولية تناقلته الأجيال.

هنا نقدم صورة أخرى، فمنذ أن اجتاح الاستعمار الغربي أنحاء العالم، تعرضت الصين والدول الإسلامية لشتى ضروب الإهانة والإذلال من قبل الاستعماريين. من أجل التحرر الوطني، اجتمعت الصين والدول الإسلامية على قلب واحد وإرادة واحدة وشاطر كل منها الآخر السراء والضراء ودعم بعضها بعضا في المحافل الدولية. في الدورة السادسة والعشرين للجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1971، كان من بين ثماني عشرة دولة تقدمت بمشروع قرار إعادة الصين إلى مقعدها في المنظمة الدولية عشر دول إسلامية، وصوت لصالح هذا المشروع 22 دولة إسلامية، مثلت نحو ثلث عدد الدول التي أيدته. بعد العودة إلى الأمم المتحدة، تمسكت الصين، كعضو دائم في مجلس الأمن، بالعدل ودافعت عن الحق للحفاظ على مصالح دول العالم الثالث، مما زعزع هيمنة القوى الكبرى على العالم، وكان ذلك هو سبب ظهور "نظرية التهديد الصيني" و"نظرية التهديد الإسلامي" التافهتين.

 

الانتشار في الصين بفضل الظروف الناضجة

تفتح الصين أبوابها منذ قديم الزمان للعقائد المختلفة، مما أتاح الفرصة لانتشار أديان دخيلة عديدة في الصين، ولكن التبشير بتلك الأديان لم يكن مسيرة سلسة في أغلب الأحوال. من أجل التغلب على عائق اللغة، شرع كبار الرهبان البوذيين ترجمة الأسفار البوذية منذ القرن الأول الميلادي؛ وكرس مبشر النسطورية المسيحية ألوبن أبراهام (Alopen Abraham) جهوده لترجمة ((العهد القديم والعهد الجديد)) على الفور بعد وصوله إلى الصين عام 635 ميلادية، فكان ذلك دليلا على عزيمة البوذيين والمسيحيين على مباشرة أعمال عظيمة في الصين. مع ذلك، تعرضت البوذية للحظر في الصين أربع مرات؛ ولم تجد المسيحية موضع قدم لها إلا في محاولتها الثالثة للانتشار في الصين. السبب في ذلك أن الكونفوشية ظلت الفكر الرسمي للمجتمع الإقطاعي الصيني، الذي امتد أكثر من ألفي سنة، بعد أن طرح دونغ تشونغ شو شعار "تمجيد المدرسة الكونفوشية الفكرية وتحريم سائر المدارس الفكرية". لذا، واجهت مختلف العقائد الدينية صدا ومقاومة من المدرسة الكونفوشية في الصين بشكل أو بآخر. وقد شهد التاريخ حالة تنافس بين الكونفوشية والبوذية والطاوية؛ فالكونفوشية تختلف مع معظم تعاليم البوذية وتتفق مع القليل منها؛ أما البوذية والطاوية فتختلفان كثيرا ولا مجال للتوفيق بينهما؛ أما المدرسة الكونفوشية فهي وإن كانت لا تختلف مع المدرسة الطاوية فإنها أيضا لا تتفق معها؛ وتتفق المدرسة الطاوية مع المدرسة الكونفوشية ولا تختلف معها. من هنا نجد أن الكونفوشية مدرسة لا مثيل لها في تاريخ الصين. وبرغم أن البوذية انتشرت في الصين انتشارا واسعا بسرعة نظرا لتشابه تعاليمها مع تعاليم مدرسة شيوانشيويه الفلسفية للاو تسي وتشوانغ تسي، التي كانت شائعة في فترة وي وجين (220- 420م) في الصين، فإن البوذية ذاتها تعرضت لكارثة كادت تقضي عليها في فترة الأسر الجنوبية والشمالية (420- 581م)؛ أما المسيحية، التي نالت تقديرا عاليا في فترة أسرة تانغ المزدهرة، فتلاشت في الصين بعد انتشارها لمدة مائتي وعشر سنوات. وعندما عادت المسيحية إلى الصين بعد وصول المبشر الإيطالي جيوفاني دي مونتكورفينو (Giovanni de Montecorvino) كمبعوث بابوي خاص إلى الصين عام 1289، تلاشت مرة أخرى بعد قرابة 80 سنة، مع زوال حكم أسرة يوان عام 1368. في القرن السادس عشر الميلادي، جاء إلى الصين مبشرون من البرتغال وأسبانيا وهولندا وبريطانيا وإيطاليا عبر ماكاو. من أجل نشر "الإنجيل" بين الصينيين، كان أول شيء يفعله المبشرون عادة هو دراسة اللغة الصينية، وترجمة الكتاب المقدس المسيحي. من هذه الدفعة من المبشرين، الإيطالي ماتيو ريتشي (Matteo Ricci)، الذي ابتكر أسلوبا فريدا في التبشير، حيث اتخذ لنفسه اسما صينيا هو "لي ما دو" وحلق شعره وأرسل لحيته ولبس رداء الرهبان البوذيين فأطلق عليه الصينيون اسم "الراهب الغربي" حينذاك. لذلك، يمكن القول إن المبشرين المسيحيين عصروا أدمغتهم من أجل نشر دينهم في الصين.

الإسلام، على العكس من ذلك، دخل الصين مع حركة التبادل الاقتصادي والثقافي بين الصين وبلاد العرب:

في صدر الإسلام، جاء إلى الصين أفواج من أبناء البلدان الإسلامية لمزاولة التجارة، يحملون إليها العقاقير والعطور واللؤلؤ ويعودون منها بالحرير والشاي والخزف. وقد نقل هؤلاء معهم علوم الطب والرياضيات والفلك العربية إلى الصين ونقلوا الاختراعات الصينية الأربعة إلى الغرب.

الاسم الذي أطلقه الصينيون على المسلمين في ذلك الزمان هو "فانكه"، أما الأحياء التي سكنوها، وكانت تضم مساجدهم ومقابرهم، فسميت "فانفانغ". ومنذ ذلك الوقت، تكرس وضع المساجد الواقعة في أنحاء الصين كمكان لممارسة العبادة والنشاطات الدينية وليس مكان دعوة إلى الإسلام. كان عدد المسلمين الذين هاجروا إلى الصين في المرحلة الأولى جد قليل، ولكنهم لم ينصهروا في القوميات الأخرى، بل ضموا عددا من أبناء القوميات الشقيقة إليهم الذين أسلم بعضهم لاقتناعهم بالعقيدة الإسلامية، كما انضم البعض الآخر إلى صفوف المسلمين بمحض إرادتهم بسبب الزواج. ومع زيادة عدد المسلمين الصينيين بمرور الأيام تعاظم تأثير المسلمين في الصين بصورة ملحوظة. وقد بذلوا جهودا كبيرة لاستيعاب وتشرب الحضارة الصينية كما قدموا إسهامات بارزة في تطوير التبادل الاقتصادي والثقافي بين الصين والمناطق الواقعة غربها. ومن المسلمين الذين كان لهم شأن عظيم في الحياة الصينية آنذاك، لي يان شنغ الذي اجتاز الامتحان الإمبراطوري (أعلى امتحان دراسي في الصين قديما) في أسرة تانغ، وتولى المسلمان بو شو قنغ وبو شو شنغ مناصب حكومية في أسرة سونغ. ومن الملاحظ أن الإسلام انتشر في الصين بشكل طبيعي بعد أن جاءها المسلمون من المناطق الواقعة غربها في فترة أسرتي تانغ وسونغ، برغم أنهم لم يقوموا بأي عمل لدعوة غير المسلمين إلى الإسلام، ولعل هذا يفند الاتهام الباطل بأن "الإسلام انتشر بحد السيف".

طوال الفترة من بدء دخوله الصين عام 651 وحتى سقوط حكومة أسرة سونغ عام 1279، انتشر الإسلام بين أسلاف أبناء قومية هوي بسلاسة لمدة أكثر من 600 سنة. أما أبناء قومية الويغور الذين يسكنون منطقة شينجيانغ، فبدأ بعضهم يعتنق الإسلام في أواخر القرن العاشر الميلادي، وفي أواخر القرن الرابع عشر، أصبح الويغور- الذين آمنوا بآلهة متعددة من قبل- أول قومية صينية يؤمن كل أبنائها بالإسلام.

 

قفزة في عدد أبناء هوي أثناء أسرة يوان

أثناء حملة المغول للاستيلاء على الصين، أُرغم آلاف الجنود المسلمين من آسيا الوسطى على دخول الصين. وبرغم أن معظم هؤلاء المسلمين، الذين استوطنوا الصين فيما بعد، كانوا جنودا عاديين، تولى كثير منهم مناصب حكومية هامة في فترة أسرة يوان (1271- 1368م). فقد شغل أكثر من ثلاثين منهم منصب كبار الوزراء والوزراء، أما الذين عُينوا رؤساء للمقاطعات والمحافظات المختلفة، فعددهم أكبر. من مشاهير المسلمين في فترة أسرة يوان السياسي الحكيم السيد الأجل عمر شمس الدين (1211- 1279م) الذي قدم إسهاما رائعا في تنمية المناطق الحدودية بجنوب غربي الصين؛ والمهندس يحي طاهر (يقال أيضا اختيار الدين) الذي صمم مدينة دادو (بكين)؛ والرسام قاو كه قونغ والعالم الموسوعي شمس الدين والعالم جمال الدين الذي اخترع سبعة أجهزة فلكية والشاعر سعد الله (1272- 1348م) الخ. في أسرة يوان، عاش المسلمون في كل ركن على ضفتي نهر اليانغتسي، وساد القول بأن المسلمين موجودون في كل أنحاء الصين.

مع انتشار الإسلام في الصين في فترة أسرة تانغ وهجرة المسلمين إلى الصين بشكل هائل في فترة أسرة يوان، لم يزدد عدد المساجد في الصين فحسب، بل ظهر عدد من المطاعم الإسلامية أيضا.

أما الذين حملوا اسم المسلمين في الصين حينذاك فهم أولا، خلف العرب والفرس الذين أتوا إلى الصين لمزاولة التجارة في فترة أسرتي تانغ وسونغ؛ ثانيا، المسلمون من شتى القوميات بآسيا الوسطى الذين أرغمهم المغول على الانضمام لجيشهم في حملتهم على الصين؛ ثالثا، أبناء قوميتي الويغور والقازاق وغيرهما من الأقليات في منطقة شينجيانغ الذين آمنوا بالإسلام. بالإضافة إلى ذلك، هناك عدد كبير من أبناء قومية هان أسلموا بسبب الزواج مع المسلمين والإيمان بالعقيدة الإسلامية. وقد قال المؤرخ البروفيسور تشن يوان: "إن للإسلام جاذبية قوية يصعب تصورها." وتجدر الإشارة إلى أن الإسلام شهد اتجاها نحو الازدهار عندما مد جذوره ورسخها في الصين. ولكن الآراء في سبب ذلك مختلفة. وقد عزا البروفيسور تشن يوان الانتشار السلس للإسلام في الصين إلى "عدم التبشير بالإسلام بين غير المسلمين، وعدم مخالفة المدرسة الكونفوشية. وقال: "إن أبناء القوميات الأخرى لم يتخذوا موقفا عدائيا من الإسلام بفضل عدم دعوة غير المسلمين إلى الإسلام"، و"لم يتخذ المثقفون الكونفوشيون موقفا مناهضا من الإسلام بفضل عدم مخالفته للمدرسة الكونفوشية". ولكن البروفيسور تشن لم يوضح سبب عدم تعارض الإسلام مع الكونفوشية. ونحن نقول من عندنا إن سبب انتشار الإسلام الواسع في كل أنحاء العالم هو تعاليم الإسلام ليس إلا. "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير" (13: 49). وهذا يوضح موقف الإسلام بأن الناس جميعا ينتمون إلى أصل واحد، وعدم وجود فرق بين إنسان وآخر. بالإضافة إلى ذلك، يدعو الإسلام أتباعه إلى نبذ التعصب واستيعاب الجيد والمفيد من ثقافات الآخرين، وفقا لسُنة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. والمسلم يتعامل مع غير المسلم بالود وحسن الجوار، ويستوعب حضارة الآخر بشكل إيجابي، خاصة الحضارة الصينية التي تتشابه مع الحضارة الإسلامية من حيث الأخلاق.

لقد شهد الإسلام تطورا كبيرا في الصين في فترة أسرة يوان، ووصلت قوة المسلمين المؤثرة في المجتمع الصيني إلى مستوى غير مسبوق. ولكن الصينيين آنذاك كانوا ينظرون إلى الذين استوطنوا أرضهم كمهاجرين أجانب، سواء كانوا من خلف الذين جاءوا إليها في فترة أسرتي تانغ وسونغ، أو المسلمين، الذين أُرغموا على دخول الصين في أسرة يوان وخلفهم. وهؤلاء المسلمون سموا أنفسهم "أبناء قومية هوي من المناطق الغربية". (البقية العدد القادم)

 

 

 

 

Address: 24 Baiwanzhuang Road, Beijing 100037 China
Fax: 86-010-68328338
Website: http://www.chinatoday.com.cn
E-mail: chinatoday@chinatoday.com.cn
Copyright (C) China Today, All Rights Reserved.