ã

الصين الخضراء في عالم فريدمان المسطح

حسين إسماعيل

بعد مرور سبعة شهور على صدور كتاب ،((The World Is Flat, A BRIEF HISTORY OF THE TWENTY- FIRST CENTURY))

أي "العالم مسطح.. تاريخ موجز للقرن الحادي والعشرين"، صدرت في بكين الطبعة الصينية لكتاب توماس فريدمان، كاتب نيويورك تيمز، المعروف عربيا أكثر من أي كاتب أمريكي آخر. وقد حرص فريدمان على أن يكون حاضرا في العاصمة الصينية يوم صدور الطبعة الصينية لعالمه المفلطح أو المسطح، في منتصف نوفمبر العام الماضي.

في بكين كان واضحا أن "الصين" تحتل القلب في مشروع فريدمان القادم، فالكاتب الذي عرفناه عربيا برسائله <<الافتراضية>> للزعماء بل وللمواطنين العرب وتصوراته لحلول قضايا الشرق الأوسط، في فلسطين وفي العراق وغيرهما، وأشهرها رسالة مبادرة السلام العربية، ارتدى قميصا آخر وراح يبعث برسائله، أو نصائحه إن شئت، لزعماء الصين. من تلك الرسائل ما نشرته نيويورك تيمز في الثاني والعشرين من شهر نوفمبر العام الماضي بعنوان "شريك للسيد هو"، والسيد هو الذي يقصده فريدمان هو الرئيس الصيني هو جين تاو. وقد تقمص فريدمان في هذه المرة شخصية نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب الأميركي حاليا، التي تنتمي للحزب الديمقراطي، متخيلا رسالة منها إلى الرئيس الصيني. ولا يخلو اختيار فريدمان للسيدة بيلوسي من مغزى، فهي ذات السيدة المعروفة بمواقفها غير الودية تجاه الصين، وصاحبة المقالة الشهيرة في لوس أنجلوس تيمز يوم 20 إبريل العام الماضي بينما كان الرئيس الصيني يبدأ زيارته للولايات المتحدة، والتي اتهمت فيها الصين بأنها تقدم التكنولوجيا العسكرية للدول التي قالت إنها تهدد الأمن الدولي، ومنها إيران وكوريا الشمالية حسب زعمها، والتي تضمنت أيضا افتراءات على الحكومة الصينية بأنها تهدد تايوان بهجوم عسكري وتعتقل وتعذب الصينيين الذين يعبرون عن اعتقاداتهم السياسية والدينية، بل وتعتقل التبتيين إذا حملوا صورة للدالاي لاما، وغير ذلك من اتهامات تكشف عن طبيعة وطريقة تفكير السيدة بيلوسي.

وقراءة رسالة فريدمان، أو بيلوسي كما أرادها، تكشف عن الهاجس الذي يشغل السياسيين والكتاب الأمريكيين حول الصين؛ هاجس حقوق الإنسان والحرية الدينية والتجارة، فيقول في بداية رسالته.. عزيزي الرئيس هو: أنا على يقين من أنك ظننت أن رسالتي الأولى إليك ستكون حول التجارة وحقوق الإنسان؛ فهذه القضايا ما زالت موضوع اهتمام كبير لحزبي، لكنني مقتنعة بأن لدينا فرصة جيدة لتحقيق تقدم في المجالين إذا تمكنا أولا من بناء شراكة لكي نعالج القضايا المُلحة مثل الطاقة وتغير المناخ، وهما مجالان يؤثران علينا معا.

ومرة أخرى تكشف كلمات فريدمان عن الاقتناع "الافتراضي" الأمريكي بأن الصين هي السبب في مشكلة الطاقة وما يرتبط بها من تلوث، تهديده أكبر من تهديد شُح الطاقة أو نفادها. واقرأ هذه السطور في رسالة فريدمان .. أقدم هذا الاقتراح: إنشاء "حوار شانغهاي" جديد. لقد حقق حوار شانغهاي الأول عام 1972 تفاهما بين الصين والولايات المتحدة حول نزع فتيل القضية التي كانت سببا في زعزعة استقرار العالم آنذاك، ألا وهي النزاع حول تايوان. لكن "حوار شانغهاي" الجديد سينزع فتيل قضية تتعلق بيومنا الحالي ألا وهي شهية عالمنا غير القابلة للاستمرار للطاقة. وما يجب أن يتضمنه "حوار شانغهاي" الجديد هو أن تقلل الصين من استهلاكها للطاقة بنسبة 20% لكل 1% من إجمالي الناتج المحلي بحلول عام 2010، وهو تعهد جريء سبق لجورج بوش- الرئيس الأمريكي- أن طرحه لكنه فشل في الوفاء به. كذلك أقترح عليك أن تقوم الولايات المتحدة من جانبها بتحسين الكفاءة في استخدام الطاقة بمعدل 4% سنويا، علما بأن ذلك قد بدأ في ولاية كاليفورنيا، وهذا يعني تحسنا في كفاءة استخدام الطاقة يصل إلى 25% بحلول عام 2012.  وإذا تمكنا من تحقيق هذه الأهداف معا، باعتبارنا أكبر بلدين ينتجان ثاني أكسيد الكربون، فإننا سنكون في الطريق لتغيير العالم. وسوف نقلل الاعتماد على الدول المنتجة للنفط، ونشجع الآخرين على الاستخدام الفعال للطاقة المتجددة التي لا تضر البيئة. وبدلا من الصراع حول النفط الذي يتناقص مخزونه باستمرار لنبادر بابتكار طاقة جديدة متجددة.

السيد فريدمان قرر أن يرتدي في الفترة القادمة قميصا أخضر وأعلن، من بكين، أن عنوان كتابه القادم سيكون: "الأخضر هو الأحمر والأبيض والأزرق الجديد"؛ فالأخضر هو ثورة المستقبل، وهذا لا جدال فيه، ولكن الذي يستحق الجدل هو الاعتقاد الافتراضي الأمريكي بأن الصين هي عائق الوصول إلى العالم الأخضر الذي يتمناه توماس فريدمان!

لا شك أن فريدمان يعلم جيدا أن انسحاب الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش من معاهدة كيوتو للمناخ يضع عائقا كبيرا في طريق تحقيق العالم الأخضر، خاصة وأن الولايات المتحدة هي أكبر مستهلك للطاقة في العالم وأكبر منتج لانبعاثات ثاني أكسيد الكربون. ولأن الأمريكي يتصور أنه "السوبر مان" وحامل الرسالة التبشيرية في كل شيء، يقول فريدمان في رسالته التخيُلية.. أقترح إرسال «فرق خضراء» من الولايات المتحدة كي تتنقل في شتى أنحاء الصين لتقديم عروض لا يعرف المسؤولون الصينيون شيئا عنها، وهي أن السياسة الخضراء تحقق أرباحا أكثر. فالكثير من المسؤولين المحليين الصينيين يظنون أن السياسة الخضراء ترف لا يستطيعونه، ولن يكون ممكنا كسر دائرة التخريب البيئي قبل أن يفهم هؤلاء المسؤولون أن التلوث هو إهدار للطاقة والمال. وأفضل شركاتنا اليوم مثل «جنرال إليكترِك» و«دو بونت» ترى أن كلفة السياسة الخضراء أقل وتتوقع أنها ستحقق أرباحا أكثر.

إذن السيد فريدمان لا يعلم شيئا عن الحملة التي تشنها الصين لتكريس مفهوم الاقتصاد الدوري والاقتصاد في استهلاك الطاقة بين الصينيين، مسئولين ومواطنين عاديين، ولا يعلم شيئا عن قرار الحكومة الصينية اعتماد  العامل الأخضر، أي البيئي، في حساب إجمالي الناتج المحلي.

ولأن ثمة افتراضا أمريكيا بأن أبناء العم سام أكثر تفوقا، يقول فريدمان.. لديكم ملايين من السيارات القديمة التي تنفث دخانها كل يوم في الشوارع وهذا ليس سوى البداية، فالقلق الأكبر هو الـثمانمائة مليون صيني الذين يعيشون في الريف ويحتاجون إلى وسائل نقل لتحسين ظروف معيشتهم وهم لن يتمكنوا من تحقيق ذلك إلا بشراء سيارات رخيصة. وكل سنة هناك زيادة في عدد السيارات تصل إلى 30 مليونا في الريف، وهذه تستخدم أنواعا من الوقود تزيد من سواد سمائكم. أنتم بحاجة إلى المهندسين الأمريكيين، الذين يعرفون كيف ينظفون المحركات الصغيرة، للعمل مع مصانعكم التي تعرف كيف تنتج بشكل واسع وبأسعار رخيصة كي نحقق تنظيف البيئة ونحقق الربح لنا ولكم. وإذا حدث ذلك فإن الصين لن تكون قادرة على تحقيق ألعاب أولمبية خضراء في عام 2008 فحسب بل ستقدم للعالم النامي نموذجا للتنمية المستدامة.

كاتبنا  الأمريكي المشهور بدا وكأنه يعمل "مندوب مبيعات" للشركات الأمريكية، ولنقابات الفنيين والمهندسين الأمريكية، قائلا.. أريد أن أقود الجهود الهادفة لمساعدة الصين كي تستثمر في المصانع التي تستخدم تكنولوجيا الطاقة النظيفة، مثل إنتاج السيارات الخضراء وألواح الطاقة الشمسية ومحركات الهواء مثلما هو قائم حاليا في بعض ولاياتنا مثل أوهايو. ستصبح الطاقة الخضراء صناعة متنامية في القرن الحادي والعشرين ونحن نمتلك حاليا قدرا من التكنولوجيا العظيمة في هذا المجال. ولن يحسن صورة الصين في الولايات المتحدة أفضل من استخدام احتياطيها النقدي، مثلما فعلت اليابان، لخلق فرص عمل جديدة في الولايات المتحدة وتحقيق أرباح للشركات الصينية، وفي الوقت نفسه تطوير صناعة الطاقة النظيفة!

ويختتم فريدمان رسالته "التصورية" إلى الرئيس الصيني بقوله: سيادة الرئيس، حققت الصين، بمفردها، خلال الأربعين عاما الأخيرة قفزة عظمى إلى الأمام. ولتغيير الصين هذه المرة دعنا نحقق معا قفزة خضراء عظمى إلى الأمام ونغير العالم. إذن السيد فريدمان يعترف بأن الصين حققت قفزتها دون مساعدة من أحد، ولهذا فإنه يقترح أن "تساعد" الولايات المتحدة الصين هذه المرة لتغيير العالم.

إنها أفكار جميلة يتمنى الجميع، الصينيون وغيرهم، أن تتحقق. من منا لا يريد أن تكون سماؤه صافية ومياهه نظيفة وهواؤه نقيا، ولكن السؤال هو كيف يمكن أن يتحقق ذلك بينما حكومة أكبر بلد مستهلك للطاقة وأكبر منتج للتلوث في العالم، الولايات المتحدة، غير راغبة في التعاون مع الأسرة الدولية؟

السيد فريدمان يهمل، عن عمد أو جهل، حقيقة أن نصيب المواطن الصيني من استهلاك الطاقة هو 1,08 طن مكافئ نفط، أي نحو 66% من المتوسط العالمي وهو 1,63 طن مكافئ نفط، بل إن استهلاك الفرد الصيني يعادل 13,4% فقط  من استهلاك الفرد الأمريكي الذي يصل 8,02 طن مكافئ نفط، و28,1% من استهلاك الفرد الياباني الذي يصل 3,82 طن مكافئ نفط.

ولابد أن السيد فريدمان يعلم أنه من غير المنطقي أو العلمي مقارنة الصين التي يعيش بها نحو خُمس سكان العالم مع الولايات المتحدة التي يبلغ تعداد سكانها حوالي ثلاثمائة مليون نسمة أو اليابان التي لا يزيد عدد سكانها عن مائة وثلاثين مليون نسمة. ولابد أنه يعلم أن استهلاك الصين من النفط عام 2004 عندما وصل الاستهلاك بها إلى ذروته لم يتعد 300 مليون طن، أي أن 20% من سكان العالم استهلكوا 8% فقط من الاستهلاك العالمي، في حين كان استهلاك بلاده من النفط في نفس العام 938 طنا، أي 25% من الاستهلاك العالمي، وفي ذات السنة استوردت الصين 149 مليون طن نفط، أي 6% من حجم تجارة النفط في العالم بينما استوردت بلاد العم فريدمان 590 مليون طن، أي ثلاثة أضعاف الصين. والصين تنتج 12,7% من انبعاث ثاني أكسيد الكربون في العالم بينما نصيب الولايات المتحدة هو الضعف تقريبا، 24%، ومرة أخرى، برغم حقيقة أن الصين بها أكثر من أربعة أضعاف سكان الولايات المتحدة. 

هذه كلها حقائق لعلها تقنع أنصار حماية البيئة في العالم بأن "خراب" البيئة واضطرابات المناخ في كرتنا الأرضية وشح الموارد له أسباب كثيرة، ربما تتحمل الصين جانبا منها، ولكن من الإجحاف أن يُحّملها توماس فريدمان، الشيلة بكاملها!! 

husseinismail@yahoo.com

 

 

 

 

 

Address: 24 Baiwanzhuang Road, Beijing 100037 China
Fax: 86-010-68328338
Website: http://www.chinatoday.com.cn
E-mail: chinatoday@chinatoday.com.cn
Copyright (C) China Today, All Rights Reserved.