ã

الصين البلد الذي يقرأ

* محمد ياسر منصور

في متجر شيدان للكتب

محمد ياسر منصور

الأطفال أيضا يحبون القراءة

      في الصين أربعمائة مليون قارئ وآلاف دور النشر. لقد أظهر الصينيون ولعاً شديداً لا يصدق بالكتب والقراءة. ويروي هذا المقال تعطش الصيني للمعرفة والثقافة، ويشرح صناعة الطباعة من بكين إلى شانغهاي.

     في ترددهم بين المطابخ وقاعات الطعام، يسحب النادلون في المطاعم الكتيبات من جيوبهم ويغرقون للحظات في القراءة. وفي سيارات الأجرة المنتظرة أمام الفنادق كل من فيها يدس أنفه في كتاب. وزبائن المطاعم والمقاهي يتناولون كتبا يتصفحون فيها بين لحظة وأخرى. الصينيون، أغنياء أو فقراء، شباناً أو شيوخاً، عاملين أو عاطلين عن العمل، لا يضيعون أية دقيقة دون قراءة. الكل يسعى بنهم إلى التعلم وإلى الفهم.

     في جميع الاتجاهات والنواحي، تجد رغبة جامحة في التهام المعرفة لدى أبناء الصين. والأكثر تواضعاً فيهم يجد ما يشبع نهمه إلى المعرفة في مجلة مختارات (ريدرز دايجست) وتعني باللغة الصينية (دو تشه ون تشاي) وهي مجلة صينية تباع ملايين النسخ منها على الأرصفة. ولا يعتبر قراء هذه المجلة في عداد القراء الحقيقيين. فليس في الصين "سوى" أربعمائة مليون قارئ حقيقي؛ هم سكان المدن. إنهم يتزاحمون في معارض الكتاب العديدة ويقضون ساعات طويلة في متاجر بيع الكتب في المدن. وفي بكين وحدها عدد من تلك المتاجر، ومنها متجر وانغفوجينغ لبيع الكتب، الواقع في قلب أحد التجمعات العقارية الجديدة، ويتألف من سبعة طوابق، مساحة كل طابق أكثر من ألف متر مربع. وهناك متجر شيدان لبيع الكتب الذي يعرض أكثر من مائتي ألف مؤلف، وتبلغ حركة البيع فيه نحو ثلاثمائة مليون يوان (36 مليون دولار أمريكي تقريبا).

     أكداس من الكتب المنضدة فوق الطاولات التي يبدو أنها لا تثير اهتمام أحد. ومنها "مائة مبدأ للفتيان" لبيل غيتس، وكتاب للمؤرخ البريطاني أرنولد توينبي حول بالتزار غراسيان، والسيرة الذاتية لهيلاري كلينتون، وبحث حول فلاحي الصين، وهو الأكثر مبيعاً في بداية العام المنصرم. والحقيقة أن هذه المقارنة تختصر كثيرا اهتمامات الصينيين، ذلك أن اهتماماتهم تنصب أولاً على اكتشاف العالم وذلك ما توفره كتب الجغرافية، والكتب التي تشكل الدليل أو المرشد، وكتب أدب الرحلات. ويأتي بعد ذلك في الاهتمامات الكتب التي تساعد في فهم أسباب تأخر الصينيين، مثل كتب التاريخ المصورة وكتب الاجتماع السهلة. ثم تأتي بعد ذلك معرفة أسباب الهيمنة الغربية، ويتمثل ذلك في العديد من التراجم حول حياة الزعماء السياسيين، والعلماء والفنانين والرياضيين وغيرهم. وأخيراً، البحث عن مفاتيح النجاح، وهنا تجد فيضا من المؤلفات حول علم الإرادة والاعتماد على النفس، وتنمية الذات اعتماداً على دراسات ناجحة.

     الشعب الصيني بعيد طبعاً عن إبداء شغفه بالافتتاحيات التي كانت تستقطب الاهتمام في الثمانينيات من القرن الماضي. لكن حدث توسع في موضوع الافتتاحيات، فهناك المزيد من قراء تلك الافتتاحيات والمزيد من كتابها، والكثير من أنواعها والمزيد من المؤلفات التي تتضمنها. وأخيراً، هناك المزيد من دور النشر الخاصة التي تنشرها، حيث يوجد خمسة آلاف دار نشر خاصة في مدينة بكين وحدها. ويقول سونغ وي جنغ، المحرر في مجلة "الكتاب الصيني" إن هناك مائة ألف عنوان جديد في السنة حسب الأرقام الرسمية، والواقع أن الرقم الحقيقي ضعف هذا، منها عشرة آلاف كتاب مترجم، وعدد العناوين المتوافرة اليوم يتجاوز العشرة ملايين عنوان، في حين لم يكن هذا الرقم يتجاوز الأربعين ألف عنوان منذ عشرين عاماً".

     الكفاءات جديرة بالتحية. وتقول فابيين مانسنكال، الملحق الثقافي المكلف بالكتاب في السفارة الفرنسية في بكين: "يجب أن نعلم هنا أن الكتاب والصورة لا علاقة لهما بوزارة الثقافة. إنهما يتبعان إدارة الدولة للطباعة والنشر". وتتركز قدرة الرقابة الصينية كلها حول نظام يهتم اهتماماً خاصاً "بالفكر الصحيح". وحسبنا أن نتفحص الكتب الصادرة عن قرب ونقرأ ما هو مدون على غلافها. يوجد أحياناً عبارة "ورشة النشر" بدلاً من الناشر الرسمي أو رئيس التحرير، أو يوضع اسم مكتبة خاصة أو أحد فروعها أو اسم مؤسسة ثقافية أو مستشار ثقافي. وهذه الأسماء تعود إلى ناشرين أو مستثمرين خاصين يصنعون الكتاب من ألفه إلى يائه. فهم يمولون الكتاب ويحققونه وينتجونه ويطبعونه ويوزعونه ويطبعون مجموعات كاملة بجهودهم، لكن توزيعها يتم بإشراف القطاع العام.

     في أطروحتها الرائعة التي دافعت عنها في العام 2003 في جامعة سياتل في ولاية واشنطن، شرحت تشي قان، مؤسسة أقدم مكتبة خاصة في العاصمة بكين (الحكماء العشرة آلاف) النظام الهجين للكتاب الصيني فقالت: "إنه كيان مزدوج وتكافلي". وشرحت طبيعته التي تتألف من طرف مستقل وتمثله الأفكار والنقود (القطاع الخاص) والطرف الحكومي الذي يوافق على النشر، ويستأثر بالناشرين الرسميين. وتقول تشي قان: " والنتيجة هي خصخصة في الحقيقية ولكن لا تكشف عن نفسها. واليوم، الثمرة الظاهرة لهذا التعاون الخفي، هي نصف العناوين المنشورة (ما عدا الكتب المدرسية الخاضعة حصراً للدولة) أي نحو خمسين ألف عنوان في السنة، أي ثلاثة مليارات وثلاثمائة مليون كتاب صدر حتى الآن".

     بدأ كل ذلك في ثمانينيات القرن الماضي من خلال إصلاح محدود لقطاع التوزيع، الذي كان حتى ذلك التاريخ مهمة هيئة عامة، وهي جهاز واسع من متاجر شينهوا لبيع الكتب. لكن في العام 1985، وتحت تأثير ضغط البطالة في المدن والحاجة إلى نشاطات تجارية جديدة، اتُخذ قرار بفتح هذا القطاع أمام الفعاليات الخاصة. كسر الاحتكار يشكل كارثة مدمرة لشينهوا. ذلك أن البنية المركزية لتلك المكتبات مثقلة جداً وبطيئة للغاية إلى درجة أن الكتاب تستغرق رحلته بضعة أشهر حتى يصل إلى رفوف المكتبات. وفي الوقت نفسه، وهو موعد ولادة القطاع الخاص، الذي سمي "القناة الثانية" (مقارنة بالقناة الأولى وهي القطاع العام) أظهر هذا القطاع فاعلية كبيرة جداً. ففي العام 1986، انخفضت المبيعات كثيراً إلى درجة أن أوامر الطلب على مجموعة شينهوا انهارت فجأة، حيث نقصت بمقدار مليار ونصف مليار كتاب على الأقل. إنها صفعة قوية للناشرين. ومنذ ذلك الحين، لم تعد القناة الأولى توزع ما يكفي من النسخ لتحقيق المكاسب المتوخاة. أما القناة الثانية، فلم تسوق سوى الكتب "الرائجة". وعندما أحست بعض دور النشر بأنها في ضائقة حاولت استثمار المورد الوحيد الذي تمتلكه، وهو الكتب المخصصة حصراً للناشرين العامين، وهي كتب ثمينة من نوع ( ISBN ) وتنتشر إجبارياً في جميع أنحاء بر الصين الرئيسي.

     وهكذا ولدت سوق سوداء غريبة، حيث كانت الكتب تباع بأسعار غير ثابتة (وهي حالياً 15 ألف يوان في المتوسط، أي ما يعادل 1900 دولار أمريكي) حسب طبيعة الكتاب، وشهرة الكاتب، ومكانة الناشر العام، ورأس المال الخاص المبذول، ونوع "المغامرة الخطرة" ولا سيما درجة الصداقة بين الطرفين (القناتين الأولى والثانية). والمكتبات الخاصة هي من انجذب أولاً بالوعود بتحقيق المكاسب، لكنها أصيبت بالأضرار. وفي نهاية الثمانينيات، انصبت الثروة على مؤلف واحد، بشرط أن يحظى بشعبية كبيرة فعلاً. فقد ظهرت بعض الروايات الإباحية التي أسفرت عن فضيحة عامة أدت إلى مصادرة تلك النسخ فيما بعد.

     يقول ليانغ شياو يان: "ليس لنا ما يميزنا وليس لدينا وجود قانوني، ولا عقد يحمينا في حال أقيمت علينا دعوى أو خصومة. لكن هم أيضاً معرضون ويعرفون أن "وشاية" لدى الوزارة التي تمثل وصياً عليهم يمكن أن تحدث دائماً". وهذا التوازن في الذعر هو الطابع الذي يتسم به العديد من الناشرين في القناة الأولى (القطاع العام)، الذين لجئوا إلى الناشرين في القناة الثانية لنشر بعض الأعمال التي رفضت من قبل مسئوليهم.

     إن "دار سيتيك للنشر" التي أسست في الأصل كواجهة لتروست كبير لمجموعة نشر احتكارية كبيرة، أصبحت في العام 2001 مسؤولة مالياً عن 50 عنواناً منشوراً معظمها يندرج في مرتبة الكتب "الأفضل مبيعاً". تقول مديرة التروست بان يوي، وهي طالبة سابقة في الآداب في الولايات المتحدة: "نحن أول من طرح كتب علم الإرادة ، وكذلك مذكرات الرئيس المدير العام الشهيرة الذائعة الصيت، مثل مذكرات جاك ولش مدير شركة جنرال إلكتريك" . وفي هذا العام نشرت سيتيك 450 عنواناً، ومنها مذكرات دافيد روكفلر ومذكرات ميلتون فريدمان، الحاصل على جائز نوبل في الاقتصاد. وعلى الرغم من أعمال القرصنة الكثيرة ، فإن رقم الأعمال الذي تحقق كان لا يستهان به، فقد بلغ 120 مليون يوان (15 مليون دولار أمريكي ) في العام 2003 .

     المطبوعات حرة في الصين

      يقول المؤرخ شن يان، مؤلف "نهضة الصين"، إنها مهنة متكاملة تتشكل بشكل شبه سري. ولدى أول بادرة بالتحرر، سيتسلم المهمة جهاز مستقل وعملياتي تماماً". ولقد سبق لشركات خاصة أن أعلنت رغبتها في الانضواء تحت لواء جديد للنشر. ولهذا الغرض، أسس وو جي يان، الذي يعمل في العقارات "شركة ثقافية " بالاشتراك مع مجموعة من المثقفين، وقد نشرت هذه الشركة سلسلة كتب لجامعة تشينغهوا. ويقول وو جي يان: "أنا لا أسعى إلى نشر مؤلفات رائجة لكني أريد أن أخلد صورتي إلى الأبد". فما هو هدفه من ذلك؟
يقول: "أريد إقامة مجموعة مستقلة للنشر والطبع والتلفزة والإنترنت من الآن حتى عشر سنوات مقبلة ".
------------------------------------------------------------
الكاتب: عضو اتحاد الصحفيين السوري.

 

Address: 24 Baiwanzhuang Road, Beijing 100037 China
Fax: 86-010-68328338
Website: http://www.chinatoday.com.cn
E-mail: chinatoday@chinatoday.com.cn
Copyright (C) China Today, All Rights Reserved.