ã

بالهناء والصحة، والأدب والأخلاق أيضا

طعامك على الطريقة الصينية (1)

حسين إسماعيل

القدر المنغولي يجمع الأهل والأصدقاء

      كنت في صغري أحب طعام بيت جدي، على شبل، (1914- 1996م) رحمه الله، ولكنني أيضا كنت أعلم جيدا أن الجلوس إلى مائدة جدي مهمة شاقة على طفل مثلي لا يهدأ ولا يقر في جلسته، ومع ذلك كنت أستمتع بالمشهد حول طبلية الطعام. كان جدي يجلس على رأس المائدة، ظهره مسندا إلى الحائط، وقبالته تجلس جدتي، وعن يمينه أخوالي بحسب ترتيب العمر، تليهم زوجاتهم، وعن شماله نجلس نحن الصغار، بحسب ترتيب العمر أيضا. وكان الطعام يوضع على المائدة بترتيب محدد، ويكون طبق اللحم أو الدجاج أو البط قريبا من جدتي، التي توزع على كل فرد نصيبه، بادئة بالجد ومنتهية بأصغر آكل على المائدة. لم يكن أي فرد يجرؤ على مد يده إلى طعام قبل جدي، وكان مد يد فوق الأطباق إلى طبق بعيد كارثة قد تكلف فاعلها الحرمان من الطعام، وكان التفوه بكلمة على الطعام جريمة عقابها عظيم.

     لم يحدثني جدي، المولود في منشاة قاسم، مديرية الشرقية بمصر، عن كونفوشيوس، مفكر الصين وفيلسوفها العظيم، ولكنه حدثني كثيرا عن الصين وأهلها. ومر زمن طويل حتى أدركت أن آداب مائدة جدي هي ما أوصى به تماما كونفوشيوس.

      الطعام في الصين ليس مجرد لقيمات تملأ المعدة بل تاريخ وثقافة وأدب وفن وعلاقات عامة. وللطعام مكانة هامة في تكوين الشخصية الصينية، وفهم هذا الأمر قد يريح كثيرين من الذين يَعجبون عندما يترك الصينيون كل شيء حين يحين وقت الطعام، وقد يساعدهم في إدراك مغزى كل حركة وكلمة على المائدة، فقد قال الصينيون منذ بدء قصة الحضارة: "بالنسبة للشعب، الطعام في المقام الأول". ورحلة الطعام عمرها عمر حضارة الصينيين، الذين كانوا أول من اخترع النار واستخدمها في الشواء، وهو الاختراع الذي ميز الإنسان عن مملكة الحيوان. وقد ظل الصينيون مئات آلاف السنين يشوون طعامهم في النار المفتوحة، سواء مباشرة على اللهب أو على ألواح حجرية. وقبل نحو عشرة آلاف عام، اخترع الصينيون الفخار الناري.

     وكان التطور التالي في الطهي هو الطبخ على البخار، فقد استخدم الصينيون طاقة البخار قبل آلاف السنين من اختراع المحرك البخاري في أوروبا، في القرن السادس عشر.

     بعد الأدوات الحجرية والأواني الفخارية شرع الصينيون يتناولون طعامهم في أوان مصنوعة من البرونز، ثم من الحديد. وفي زمن أسرتي شانغ وتشو الإمبراطوريتين كانت أواني الطعام التي تُسمى بالصينية "دينغ" البرونزية والحديدية أدوات مائدة عالية القيمة. وخلال فترة أسرة هان الإمبراطورية بدأت أدوات المائدة الخزفية في الظهور. وقد اختُرعت ملاقط (عصي) الطعام قبل ذلك بكثير، وكانت شائعة الاستخدام في أرجاء الصين في بداية فترة الربيع والخريف.

     وكان الصينيون سباقين في استخدام التوابل. لم يكن مفهوم تتبيل الطعام موجودا في عصور ما قبل التاريخ. ولفترة طويلة بعد اختراع الطهي، ظل الطعام يؤكل بدون طعم معين. وتشير كتابات صينية قديمة إلى أن عددا من البهارات كانت مستخدمة في زمن أسرة شانغ الإمبراطورية. ويذكر أنه عندما كان إمبراطور أسرة تشو يقدم القرابين أو يقيم مناسبات كبيرة لضيوف مهمين، كان يُقدم مائة وعشرون نوعا من الصلصة المتبلة. ولا عجب في هذا، فالصين بها أكثر من خمسمائة نوع من البهارات.

     وإلى الصديق المصري الذي أغضبه كتاب يتحدث بإعجاب وانبهار عن مصر وحضارتها، ولكنه يشير إلى فقر المطبخ المصري، أهمس له بأن الصين بها اثنا عشر مطبخا كبيرا؛ منها أربعة مطابخ رئيسية، هي مطبخ شاندونغ، مطبخ سيتشوان، مطبخ جيانغسو ومطبخ قوانغدونغ (الكانتونيز). كل مطبخ منها يشتمل على آلاف الأطباق.

     والصينيون لم يتركوا شيئا يمكن أن يؤكل إلا وجربوه. وفي فترة الربيع والخريف- الدويلات المتحاربة كان لدى الصينيين نظرية حول التغذية المتوازنة، حيث تتكون الوجبة المثالية من خمسة أنواع من الحبوب الرئيسية، تكملها خمسة أنواع من الفواكه وخمسة أنواع من لحوم الحيوانات المستأنسة، وتتمها خمسة أنواع من الخضراوات. والنباتات الصالحة للأكل ليست فقط الحبوب والخضراوات وإنما أيضا العديد من الأعشاب والفواكه والزهور والفطر. وتشير الإحصاءات إلى أن أكثر من ستمائة نوع من الخضراوات تؤكل في الصين.

      والصينيون يأكلون من النبات كل شيء فيه، ويستخدمون في طعامهم كل أجزاء الحيوان والطير، ومنها الأذنان واللسان والأجنحة والغشاء والأعضاء الداخلية، أما الجلد فيجفف ويحمص، ويستخدم الدم المتخثر في العديد من الأطباق والحساء، وإن كان هذا التوجه يقل حاليا.

     وللإجابة عن السؤال الذي أسمعه دائما: لماذا وكيف يأكل الصينيون بملاقط الطعام؟ أقول إن الأمر له علاقة بتاريخ الطعام الصيني، حيث كان الطعام الأكثر شيوعا في الصين القديمة هو نوع من الحساء الغليظ يُصنَع من الحبوب والخضراوات واللحوم، ويُسمى بالصينية قنغ، وكانت ملاقط الطعام هي أفضل أداة لرفع قطع الخضراوات واللحم من المرق إلى الفم.

     وقد كتب الثوري الصيني العظيم د. صون يات صن (سون تشونغ شان) (1866- 1925)، "إن الشاي البسيط والحبوب المغلية هي الطعام اليومي للصينيين، وهم يستمتعون على نحو خاص بالخضراوات والدوفو (جبن فول الصويا)". هذه الوجبة تكون كاملة، وفقا للتوصيات الطبية الحديثة من أجل الحياة الصحية. وبين سكان الريف الصيني الأطول عمرا هو الذي لا يشرب الكحوليات ولا يأكل اللحم. وتتكون الوجبة الصينية التقليدية أساسا من الحبوب والخضراوات ويعتقد بعض العلماء أن هذا ساهم في تشكيل طبيعة الصينيين في الالتصاق بالأرض والوطن الأم وبتقاليد أسلافهم.

      على مدى نحو ألف عام من التطور الزراعي، اكتشف الصينيون عددا وافرا من المنتجات النباتية الصالحة للأكل. والنباتيون لهم في الصين تاريخ يعود إلى آلاف السنين. تشمل الوجبة النباتية الصينية، ليس فقط الحبوب والخضراوات، وإنما أيضا الفول بأنواعه، الفطر، الجذور، البقوليات، فول الصويا ومنتجات الخيزران. ويوظف الطهي النباتي العديد من الطرق المعقدة لابتكار جملة واسعة من الأطباق، ومنها أطباق الدوفو، المرق والطهي على النار الهادئة، أي السوتيه. وقد وصل المطبخ الصيني النباتي قمة ازدهاره خلال فترة تانغ- سونغ (618- 1127م). في ذلك الوقت كان يوجد أكثر من مائة نوع من أطباق الخضار في مطاعم النباتيين بعاصمة أسرة سونغ، وحظيت كتب الطهي بانتشار واسع في تلك الفترة. وبحلول فترة مينغ- تشينغ (1368- 1911م) ظهرت أنماط من المطابخ النباتية البوذية والإمبراطورية والشعبية، وكانت هناك مطاعم نباتية مشهورة في كافة أرجاء البلاد. ومن أجل جذب زبائن أكثر طورت تلك المطاعم عددا من الأطباق النباتية التي تحاكي أطباق اللحوم، وكان من بينها أطباق الدجاج النباتي، السمك النباتي الخ. والصينيون، بشكل عام، يتناولون طعامهم، سواء في الوجبات اليومية أو في اللقاءات الأسرية أو أعياد القرية أو المآدب الرسمة، من أوعية مشتركة، حيث يجلس الجميع حول طاولة ويتناولون الطعام.
والطعام رمز للمكانة الاجتماعية، في الصين كما في بلاد أخرى. وقد كان الناس في بلدي يتندرون على رجل بأنه يأكل اللفت المُخلَل ويخرج ليغسل يديه وفمه أمام البيت بالماء والصابون، وكأنه أكل اللحم ذا الدهن. الاختبارات التي أجريت على عظام بشرية في عدد من المواقع الأثرية الصينية كشفت عن أن وجبات الطبقة الحاكمة القديمة كانت تتكون رئيسيا من اللحم، بينما كانت وجبات العامة تتكون رئيسيا من النباتات. ولهذا فإن المسئولين الحكوميين كانوا يوصفون بأنهم "أكلة اللحوم".

     وإذا كان أهل مصر يقولون: "إن الذي بني مصر في الأصل حلواني"، فإن الكتابات التاريخية الصينية تؤكد أن فو شي، واضع أصول الحضارة الصينية، كان طباخا.

     وقد قال سياسي صيني مرموق في فترة الربيع والخريف "بالنسبة للحاكم، الشعب في المقام الأول؛ وبالنسبة للشعب، الطعام في المقام الأول". وتقول الأسطورة الصينية إن إمبراطور السماء منح حكام الصين القدماء مجموعة من ثمانية قوانين ليحكموا بها الشعب، أولها وأهمها كان القانون الخاص بالطعام. وحسب القول الصيني، "يجب أن يكون في كل بيت حطب، أرز، زيت، ملح، صلصة فول الصويا، خل، وشاي". وجاء في التعليمات الصينية القديمة لشن الحرب أنه: "يجب إرسال الحبوب وعلف الماشية قبل نشر القوات". وقد أدرك الثوري الفلاح تشو يوان تشانغ (1328- 1398 م) أهمية إمدادات الحبوب في عملية الاستيلاء على سلطة الدولة. وكانت استراتيجيته الشهيرة والفعالة، "شيد أسوار المدينة عالية، خزن الحبوب في كل مكان، لا تتسرع بإعلان نفسك إمبراطورا"، هي التي مكنته من تأسيس إمبراطورية أسرة مينغ (1368- 1644 م)، واعتلاء العرش. وقد رفع ماو تسي تونغ (1893- 1976م)، مؤسس جمهورية الصين الشعبية، شعارا مشابها خلال سبعينات القرن الماضي: "احفروا الأنفاق عميقة، خزنوا الحبوب في كل مكان، لا تتورطوا في الهيمنة". وهذا يعني إقامة ملاجئ واقية من القنابل، تخزين كميات كافية من الحبوب، عدم الطغيان على الدول الأضعف. وحتى في الصين الحديثة، مازالت سياسة الحبوب ذات أهمية وطنية قصوى.

     ويُحكى أن ضيفا أجنبيا سأل ماو تسي تونغ عن السبب الذي يعزو إليه نجاح الثورة الصينية. فأجاب ماو، "الدخن والبندقية".

      في حوار بين كونفوشيوس وواحد من تلامذته، سأل التلميذ أستاذه الحكيم: كيف يجب أن تُحكم الدولة؟ فقال كونفوشوس: مقومات الحكم هي أن يتوفر طعام كاف وتجهيزات عسكرية كافية وثقة الشعب في حاكمه، فسأل التلميذ: إن لم يكن من بُد، ويجب الاستغناء عن واحد من تلك، أي منها يجب التخلي عنه أولا؟ رد كونفوشيوس: التجهيزات العسكرية. فقال التلميذ: إن لم يكن من بُد، ويجب الاستغناء عن واحد من الاثنين الباقيين، أيهما يجب التخلي عنه أولا؟ قال الحكيم: جزء من الطعام. من قديم الزمان الموت هو مصير كل البشر، ولكن إن لم يكن لدى الشعب إيمان بحكامه، فلا مبرر لوجود الدولة.

     ومازال للطعام بقية..

 

مرحبا على المقهى الإلكتروني

husseinismail@yahoo.com

Address: 24 Baiwanzhuang Road, Beijing 100037 China
Fax: 86-010-68328338
Website: http://www.chinatoday.com.cn
E-mail: chinatoday@chinatoday.com.cn
Copyright (C) China Today, All Rights Reserved.