ã

السنوات الضائعة

تأليف: تشانغ كانغ كانغ* ترجمة: ربيع مفتاح

الكاتبة تشانغ كانغ كانغ

عمال المناجل الشبان كانوا موضوعا لكثير من الأعمال الأدبية في ستينات وسبعينات القرن الماضي

      إننا إذ ننشر في هذا العدد الترجمة العربية لواحدة من قصص الروائية الصينية تشانغ كانغ كانغ، تقديرا لمترجمها السيد ربيع مفتاح، نود أن ننوه إلى أن "الصين اليوم" لا تنشر أعمالا مترجمة.

     في آخر الليل، وعبر الممر المظلم العميق، سمعت دقات صوت ما، وشيئا فشيئا تحولت إلى طرق على الباب الخارجي لغرفتي. الساعة الآن الحادية عشرة إلا ربعا، ولا يأتي في هذا الوقت إلا الطلاب المجتهدون حيث يقصدون مدرسيهم للاستفسار عن شئ ما. فتحت الباب، بدأ الرجل يتكلم وهو يلهث:

     - أبحث عن الأستاذ "بنغ"، هل يعيش هنا؟

     - إنه أنا .. ادخل .

     مع نسمات هواء الخريف البارد، دخل غرفتي غريبان، زوجان في منتصف العمر، شعرت أن هناك شيئا ما من خلال عيني السيدة المتورمتين وحديث الرجل الغاضب.بعد صمت قصير سألني الرجل :

     - هل تعرف تسو لي؟

     - إنه ولدي - أضافت السيدة وهي تمسح طرف عينها بوشاحها المتسخ.

     - تسو لي؟ آسف، لا أعرفه.

     - ألم يأت هنا؟ - سألني الرجل بشك وهو يسعل.

      لم يكن لديّ شئ أقوله، فهززت رأسي. فجأة غطت المرأة رأسها ووجهها بوشاح وصرخت:

     - لو لم يكن هنا، فأين يكون يا تُرى ؟

     - ألا تعرف، لقد علمته ودفعته إلى الجنون، أين هو منك الآن، إنك معلم أما هو فإنه لا يدرى من أمره شيئا.

      حدق الرجل فيّ بغضب، أحسست أنه على وشك الاهتياج والثورة، حفرت في ذاكرتي: " تسو لي" هذا من خلال حاجبي الرجل الثائر وفم السيدة الواسع والتي كانت تبكي بمرارة، وسألت نفسي: ترى من يكون "تسو لي" هذا؟

     بدا لي الاسم مألوفا إلى حد ما، فجأة أخرج الرجل ورقة بالية من جيبه وسلمها لي ...

     - أليست هذه الورقة التي كتبتها له بخط يدك، انظر، لماذا تكتب له: "إنك تضيع وقتك مع شخص أحمق" ؟!

     تعرفت على خطي ، تسو لي! ، تذكرت على التو شابا خجولا ذا حاجبين مثل والده تماما وفم مثل فم أمه الواسع، والتي كانت تصيح بمرارة:

     - أرجوك، دعه يعود لبيته، آه يا ولدي ، لماذا هربت من البيت ؟!

     كان الهزيع الأخير من الليل، وخشيت أن يستيقظ الجيران، رجوتها أن تهدأ وقلت:

     - إنني حقا أعرف تسو لي، كان ذلك منذ فترة بعيدة، جاء مرة لزيارتي واستعار كتابا، وتلك الورقة كانت لإخباره أنني أحضرت الكتاب، هذا كل ما في الأمر، وليست لديّ أي فكرة عن هروبه من البيت.

     نظر أحدهما إلى الآخر وهما يتفرسان الحجرة كما لو أنها تستطيع أن تخفي ابنهما، غمغمت الأم وهي تخفض رأسها ...

     - لقد رحل منذ ثلاثة أيام

      قلت بحذر - أليست له صديقة أو ......

     قاطعتني أمه - إنه يخجل حينما يرى فتاة، ونادرا ما يخرج من البيت، وهو يعمل بجدية ويظل يقرأ طوال اليوم، آه يا ولدي، حتى لو فقد أبوك أعصابه وضربك كان يجب ألا تهرب.

     كان واضحا أنهما لا يستطيعان تفسير الموضوع، وأنا لا أعرف شيئا عن شجارهما العائلي، ولم أكن مهتما بالولد فحسب، ولكن بوالديه أيضا، وربما لم يريداني أن أعرف الحقيقة كاملة.

     أثناء انصرافهما، أعطاني الأب عنوانه محاولا شرح طريقة الوصول إلى بيته ووصف المكان بيديه الكبيرتين وبطريقة غير متقنة، وخمنت أنه يعمل نجارا في أحد المصانع وهمس في أذني:

     - لا تعر " تسو لي" كتبا مرة أخرى إذا طلب منك ذلك، إنه ولد أحمق، ما الفائدة من قراءة التاريخ، وأنت كمدرس، يجب لا تضيع وقتك مع ذلك الولد!

     ارتبكت وأصابني الدوار، ونسيت أن أودعهما، تلاشى وقع الأقدام، وغرق المكان في صمت عميق، أعددت كوبا من الشاي وبدأت أتذكر، قابلت هذا "تسو لي" مرة واحدة، كان ذلك منذ خمسة عشر عاما، لم أعتبره تلميذا لي، رغم أنني أكبره بعشر سنوات، تعرفت عليه بصعوبة، ذات يوم بعد انتهاء الدراسة، تبعني وأنا أهبط السلالم، حضر إليّ في حجرة المدرسين وسألني وجلا:

     - معذرة ، هل أنت الأستاذ "بنغ" ؟

     وقفت عند الباب أتأمل فيه، شاب نحيل يبعث على الإحساس بالطيبة والارتياح.

     - أنا ... قرأت مقالك عن تطور الرأسمالية المعاصرة الذي نشر في العدد الأخير من المجلة، وأود أن ....

     كنت دوما عرضة لهجوم أولئك المتخصصين في مناقشة المسائل الأكاديمية، فقاطعته:

     - آسف جدا ، ما زال لدى فصلان سأقوم بالتدريس لهما، يمكنك أن تأتي الأحد القادم إلى منزلي:

     البلوك الخامس، الشقة الثانية، الدور الثالث.

     أراد أن يضيف شيئا، لكنه تردد، وهربت منه الكلمات. أومأ برأسه وانصرف.

     وفي الموعد المحدد يوم الأحد ، حضر وهو يرتعش من البرد، لمعت ملابسه المبللة وشعره بحبات المطر، سألته:

     - هل تمطر بشدة ؟

     - نعم.

     - ولماذا لم تحضر مظلة معك؟

     - مظلة؟! لا أستطيع استعمالها أثناء العمل ...

     العمل؟ أي عمل؟

     - إنني أجرف الحجارة ثم أحمّلها على الشاحنات. إنه عمل مؤقت، فأنا أبحث عن عمل دائم، ومن حسن الحظ أنها تمطر اليوم وإلا لما استطعت زيارتك.

     بدا الشاب صديقا ودودا، فجأة أخرج كتابا من جيبه، كان غلافه مبللا عند حوافه، بعناية شديدة وضعه على المكتب وبدأ في تغيير ملابسه، كان الكتاب قاموسا صينيا ضخما، ارتبك عندما نظرت إليه، وابتسم قائلا:

     - إن الكلاسيكيات صعبة جدا إلى الحد الذي توجد فيه جمل كثيرة لا أستطيع أن أفهمها، لكن أستطيع أن أفهم ما تكتبه، تحليلاتك تعجبني، وبعض وجهات نظرك جديدة تماما ولم يوجد من فسّرها هكذا من قبلك .

     مثل ماذا؟

     - عندما قلت مثلا إن الرأسمالية تطورت عند اليونانيين القدماء و الرومان تطورا كاملا، ولكن من الصعوبة أن تنمو نموا كاملا في الصين و الهند وروسيا، لأن الرأسمالية ليست ظاهرة اقتصادية فحسب بل هي أيضا ظاهرة ثقافية.

     كنت أتابعه باهتمام وهو يمسك بالفكرة الرئيسية للمقالة، رغم أن تحليله لم يكن عميقا بدرجة كافية، إلا أنه كان يستخدم عقله بحرية تامة، أومأت برأسي كي أشجعه على الاستمرار، فقد أدركت أنه قرأ كتبا كثيرة في التاريخ ...

     - وفي التاريخ يهزم الأوفياء دائما من قبل الخائنين،

     قال ذلك وهو يضغط على فمه بقوة .

     - ذلك أن الأوفياء يحاولون أن يكونوا مخلصين، لكن الآخرين يبذلون أقصى طاقاتهم للتغلب عليهم، وفي النهاية يفوز الخائنون، هذه هي النتيجة التي وصلت إليها بعد قراءة التاريخ.

     شعرت بإعجاب تجاهه، إن معظم تلاميذي يدرسون التاريخ من أجل الحصول على الدبلوم فقط، وقليلون منهم هم الذين يغرمون به حقيقة!

     وغالبا ما يحب المدرسون المواد التي يدرسونها، والتاريخ بالنسبة لي مثل دائرة معارف، إنهم مثل قارب بخاري يسير في الاتجاه المضاد للتيار، ومن النادر أن تجد شابا مثله يقرأ التاريخ بمثل هذه الدقة والاهتمام. ترى ما الذي يدور في ذهنه، نحن ننتمي إلى جيلين مختلفين فما هي الصدفة التي جمعتنا معا؟

     - بما أنك تقرأ التاريخ هكذا، هل تعد نفسك كي تدرس في الجامعة؟

     ارتبك لتعليقي، ولم يستطع الكلام بسرعة.

     - أنا لا أستطيع النجاح في امتحان القبول، لأنني ضعيف في اللغة الصينية واللغات الأجنبية، يكفيني الآن البحث عن وظيفة دائمة.

     - وماذا كنت تعمل قبل ذلك؟

     - كنت أعمل في الريف، لقد بدأت المرحلة المتوسطة عندما اندلعت الثورة الثقافية ...

     أعددت كوبا من الشاي وقدمته له.

     - أنت تدرس بالاعتماد على نفسك؟

     - في السنوات الماضية أعارني مدرس تاريخ بعض الكتب، لكنه انتقل إلى مكان آخر، حاولت بعد ذلك أن استعير كتبا من الآخرين، والحقيقة أنني لا أستطيع تفسير سر عشقي لقراءة التاريخ!

     ويبدو أن تعاطفي جعلني أقترح عليه أن يحضر إلى الجامعة ليدرس، لحظتها أشرق وجهه بفرح سرعان ما انطفأ.

     - مستحيل، فأنا أعمل طوال اليوم، ثلاثين يوما في الشهر، كما أن والديّ لن يسمحا بذلك ... أحنى رأسه وصمت قليلا:

     - حين رسبت في امتحان القبول بالجامعة، طلب مني والدي أن أبيع الفول في السوق لأكسب من خمس إلى ست "يوانات" في اليوم. رفضت، لأني لو عملت أكثر من عشر ساعات يوميا، فلن يكون لديّ وقت للدراسة، لذا فضلت أن أعمل في وظيفة عمل عادي بدخل أقل، وأحيانا أجد وقتا للدراسة بعد أن تفرغ الشاحنات حمولته.

     بدأ الجو يظلم، ارتدى ملابسه المبللة ثانية بعد أن خلع السترة التي قدمتها له، وأخذ قاموسه.

     - هل أستطيع استعارة كتاب "التطور والأخلاق" ؟

     زادت دهشتي، فهل يستطيع هذا الشاب الصغير فهم موضوعات صعبة كهذه، وفكرت أن أعيره مظلة، وعدته بالبحث عن هذا الكتاب. في مكتبة الجامعة، وأثناء بحثي عن المظلة كان قد اختفى في الظلام.

     هل هرب - حقا- تسو لي من البيت، وهو يكن هذا الاحترام لأبويه، وهذا الاهتمام بأخيه الصغير وأخته، ولماذا؟

     برد الشاي تماما، لكنني أيقنت أنه سيأتي لرؤيتي ثانية ليأخذ الكتاب، وتمنيت ألا يتورط في أية مشكلة.

     في اليوم التالي عدت إلى منزلي حوالي الرابعة بعد الظهر، وفي طريقي إلى الباب وجدت قصاصة:

     "أستاذي بنغ، أتيت لأخذ الكتاب الذي وعدتني به، حصلت على وظيفة جديدة، تركت البيت، عنوان عملي الجديد هو: " 7381 المركز الرئيسي للتشييد و البناء".

     سعدت أنه حصل على الوظيفة التي يحبها، " 738" مشروع ضخم لبناء خط دفاع مضاد للغارات الجوية. وصلت إلى المركز دون صعوبة. صف من الأكواخ البسيطة المعرشة بالحديد المتموج واللافتات صغيرة، سألت عن تسو لي، أجابني رجل ضخم وهو يتثاءب:

     - من تسو لي هذا؟ لم أسمع عنه من قبل.

     - أرجوك ابحث عنه ، فهو عامل مؤقت جديد.

     - لسنا مسؤولين عن العمال المؤقتين!

     وراح يرد على مكالمة هاتفية.

     تركته ساخطا ومتعجبا. لماذا لا يعرفونه؟ تجولت بدراجتي في أرجاء المشروع، كان الظلام قد بدأ في الانتشار حينما رأيت دخانا يتصاعد من مدخنة كوخ خشبي صغير، ورأيت شخصا منهمكا في العمل.

     - يا .......

     كان منحنيا ليلتقط شيئا ما، وعندما سمع صوتي، اتجه إلي،

     - تسو لي!

     أشرق وجهه بالدهشة، لم يصدق أنني أتيت لزيارته.

     - أستاذ بنغ!

     - قرأت الورقة، فأتيت إلى هنا لأعطيك الكتاب، وأيضا لأرى الوظيفة الجديدة التي حصلت عليها.

     - تقصد غلي الماء؟

     - غلي الماء!

     - نعم، إنني أغلي الماء في المرجل.

     ترك كل الأشياء التي كان يحملها بجوار الباب، وأشار إلى الداخل قائلا: هذه هي غرفتي الجديدة. أحنيت رأسي كي أدخل، كان هناك سرير خشبي عليه لحاف رقيق وبجواره صندوق خشبي مقفل، على السرير ملاءة من "السيلوفان"، وفي مواجهته كان المرجل.

     - انتظر من فضلك.

     بدأ يجفف السيلوفان بقطعة من القماش، واعتذر بخجل.

     معذرة ، التراب كثير جدا.

     جلست على السرير، لم يكن مريحا، وعندما رفعت المرتبة وجدت تحتها عددا من المجلات وكتب التاريخ، هز كتفيه مبتسما:

     - لدى الآن وقت كاف للقراءة، وظيفتي بسيطة: غلي الماء، وإضافة الفحم، ومراقبة النار.

     بدا سعيدا راضيا، وعندما نظرت حولي ثانية؛ وجدت الأرضية رطبة، والسقف منخفضا، والضوء خافتا ، فشعرت بالكآبة.

لماذا جئت إلى هنا، هل تكسب أكثر؟

     وشعرت على التو أن أسئلتي سخيفة ومضحكة.

     - لا، على العكس، إنني أكسب هنا أقل.

     أخفض رأسه ، ناظرا إلى حذائه، وكان صامتا، نفس التعبير حين زارني في غرفتي أول مرة.

     - أنا ....

     وقف، وغطى عينيه بيديه الخشنتين، وبدأ صوته يتهدج:

     - أنا .... لا أملك مكانا أقيم فيه.

     - وعائلتك، ألا توجد حجرة صغيرة لك؟

     عمي سوف يتزوج، ولأنه لا يملك شيئا، وليس له بيت، فسوف يعطيه والدي الحجرة الصغيرة و التي لا تتسع سوى لسرير واحد كنت أقتسمه مع أخي الصغير.

     اختنق صوته بالبكاء ...

     الآن عرفت ماذا حدث له، رفع إحدى يديه لينشف وجهه بطرف كمه، ثم ألقم الفرن مزيدا من الفحم.

     توهج الفحم الأسود بلهب مثل الستان الأزرق.

     - أستاذ بنغ ، هل تعتقد أنني غبي وليس لي مستقبل على الإطلاق؟

     - من قال ذلك! يمكنك أن تحاول ثانية في العام القادم وتدخل الجامعة.

     - أنا لا أدرس كي أدخل الجامعة أو كي أحصل على وظيفة مرموقة، إنني أدرس التاريخ لتتسع مداركي، لا أود أن أكون جاهلا.

     كان متعبا فاستند إلى الحائط الخشبي وكانت الغرفة مشوبة بالحرارة، اقتربت منه ووضعت يدي على رأسه برفق.

     - يمكنك أن تأتي إليّ وسوف أساعدك في فهم الدروس، ألسنا أصدقاء وسندرس معا!

     كان جو الغرفة الخانق شديد القسوة لدرجة أنني لم أستطع الكلام بعد ذلك، أحضر كعكة بالسمسم وبصلة صينية خضراء. أكلت، كان طعاما شهيا، وبدا أكثر حيوية، عندما هممت بالانصراف، هرش رأسه.

     - أستاذ بنغ، أرجوك لا تخبر أحدا أنني أعمل هنا في غلي الماء.

     - أنا لا أعرف أحدا من أصدقائك.

     - والديّ مثلا، لم أخبرهما بذلك، لأنهما لو علما بعملي جديد ، فسوف يجبراني على تركه وبيع الفول. إنهما يعارضان فكرة الدراسة من أجل كسب مال أكثر، لكن المال لا يستطيع شراء الوقت، أرجوك لا تخبرهما، وسوف أرسل جزءا من أجري الشهري لوالدتي.

     كان الباب مفتوحا، فكشف ضوء المصابيح الخافت عن أكوام الفحم الأسود ذي النوعية الرخيصة.

     - من الأفضل أن ترمي ذلك بعيدا.

     - حقا ، إنه ليس من نوعية جيدة، ولكنه لا يزال قابلا للاحتراق.

     ركبت دراجتي وودعته. فجأة ارتطمت العجلة الأمامية بكومة من الفحم، نظرت إلى الخلف، فرأيت ظله ولم أكن قلقا عليه.

Address: 24 Baiwanzhuang Road, Beijing 100037 China
Fax: 86-010-68328338
Website: http://www.chinatoday.com.cn
E-mail: chinatoday@chinatoday.com.cn
Copyright (C) China Today, All Rights Reserved.