ã

سهر الليالي في الصين

حسين إسماعيل

     لأنني من الذين يفضلون النوم مبكرا والاستيقاظ مبكرا أيضا، يزعجني أن أُضطر للسهر، سواء أرقا أو عملا أو في صحبة الأصدقاء. ومن حسن حظي أن معظم أصدقائي الصينيين يحترمون خصوصية الليل للآخرين، فلا يهاتفونك بعد التاسعة مساء إلا لأمر لا يحتمل الانتظار إلى صباح اليوم التالي، وهذا يناقض تماما مبدأ الصديق المصري الذي يكرر علي دائما: "لا تزرني قبل الحادية عشرة مساء". هذه العادة، أقصد النوم مبكرا، التي يعتبرها كثيرون صحية، تُسبب لصاحبها مشاكل في التواصل الاجتماعي، ولك أن تتخيل ضيفا في بيتك في منتصف الليل وأنت تجلس معه مغمضا عينا وفاتحا أخرى بينما هو يسرد لك ما حدث وما سيحدث وما لن يحدث، وتصور الحرج الذي يواجهك عندما تتصل بقريب أو صديق الساعة الثامنة صباحا فيرد بصوت مُغيب عن الوعي، قائلا إنه دخل الفراش قبل ساعات قليلة.

     ولكن، وكما يقال "بقاء الحال من المحال" وتحديدا في الصين، فقد راح الصينيون، الذين كان يُضرب بهم المثل في النوم مبكرا، يسهرون راغبين ومُكرهين. الراغبون تجدهم في الملاهي الليلية والمطاعم والبارات ومقاهي الإنترنت وأمام شاشات التلفزيون وفي صالات الكاراوكي، ذلك المنتج التقني الياباني الذي يظهر لك على شاشة عرض كلمات الأغنية مع الموسيقى فتقرؤها وترددها مع اللحن الموسيقي. والمُكرهون تعثر عليهم في المكاتب وأمام أجهزة الكمبيوتر وفي مواقع العمل التي تقتضي السهر، ويضاف إليهم المصابون بالأرق والأمراض الأخرى ذات العلاقة بعدم القدرة على النوم حتى وإن أرادوا.

     اضطراب النوم لا يعني فقط أنك لا تستطيع أن تنام، وإنما أيضا أن تنام في المكان غير المناسب والوقت غير المناسب، وكلنا نشاهد أعضاء مجالس تشريعية في العديد من دول العالم وهم يغطون في نومهم بينما الجلسات منعقدة، والصورة نفسها في المؤتمرات والاجتماعات الهامة وقاعات المحاضرات وفصول الدرس. ولا أنسى مشهد اجتماع عقدته اللجنة الإعلامية لمجلس السفراء العرب في بكين مع الإعلاميين العرب العاملين في العاصمة الصينية، عندما انطلق فجأة صوت شخير من العيار الثقيل فاستدرت خلفي ظنا مني أن أحد العاملين أو السائقين نائم في غرفة المطبخ التي ورائي في مقر بعثة الجامعة العربية بالعاصمة الصينية، حيث كان الاجتماع منعقدا، وكانت المفاجأة أن أحد أصحاب السعادة السفراء العرب قد راح في سابع نومة بينما الاجتماع على أشُده!

     الآن يعاني نصف الصينيين تقريبا من الأرق وقلة النوم، فحسب دراسة ميدانية أجريت بطريقة العينة العشوائية على عشرة آلاف فرد، 45% من أبناء الصين، أي 585 مليون إنسان يجدون صعوبة في الخلود إلى النوم. وتشير دراسة أخرى مشابهة أجريت في مدينتي بكين وشانغهاي إلى أن عددا متزايدا من الصينيين ينامون وقتا أقل. يقول عن ذلك ليو يان جياو، مدير الجمعية الصينية لبحوث النوم، إن حالات اضطراب النوم تتزايد في الصين بشكل ملحوظ. وحسب معهد البحوث الصيني للطب التقليدي ببكين فإن الأرق والأبنيا apnea(انقطاع النفس أثناء النوم)، والاضطراب العصبي المزمن الناتج عن عدم قدرة المخ على تنظيم دورة النوم- الاستيقاظ، تحتل المقدمة ضمن مائة صنف من أنواع اضطرابات النوم في الصين. ويتبوأ الصدارة في قائمة ضحايا اضطرابات النوم العاملون في مجالات الصحافة والإعلام ومديرو الأعمال التجارية.

     صحيح أنه ليس هناك معيار عالمي لعدد الساعات التي ينبغي أن ينامها المرء يوميا إلا أن هناك اتفاقا بين الخبراء المتخصصين على أن النوم الكافي يعني أن تستيقظ في اليوم التالي وأنت تشعر بالطاقة والحيوية. ويقول المتخصصون إن الفرد البالغ يحتاج من سبع إلى ثماني ساعات نوم يوميا، بشكل عام. غير أن الحقيقة هي أن ناس الصين حاليا ينامون أقل ويجدون صعوبة في الخلود إلى النوم، أو البقاء متيقظين. في بكين كشفت دراسة ميدانية أجرتها في شهر نوفمبر العام الماضي مصلحة الإحصاء في المدينة عن أن سكان العاصمة ينامون 25 دقيقة أقل في المتوسط عما كانوا عليه قبل عشرين عاما، ولاحظت الدراسة أن هناك تناسبا عكسيا بين مستوى التعليم وعدد ساعات النوم، فالأفضل تعليما هم الأقل نوما! وفي شانغهاي أجرى نادي صحة العمال بالمدينة دراسة على عشرين ألف عامل، كشفت عن أن 17% فقط منهم ينامون بين سبع وثماني ساعات يوميا، في حين ينام 67% منهم فترة من خمس إلى ست ساعات، أما الآخرون فإما ينامون أقل من خمس ساعات أو أكثر من ثماني ساعات. وحسب هذه الدراسة أيضا، فإن أكثر من 70% من العاملين في المكاتب بالمدينة يجدون صعوبة في الخلود إلى النوم و25% منهم تقريبا يعتمدون على الحبوب المنومة، و95% من الذين يعتمدون على الأدوية من أجل النوم يعانون من الأرق إذا توقفوا عن استخدامها. ولكن في الريف، وعلى الرغم من التحول الهائل الذي شهدته أرياف الصين في السنوات الأخيرة، الوضع مغاير لما هو عليه في المدن الصاخبة، فمشاكل النوم نادرة حيث يلوذ الريفيون إلى فراشهم بعد مشاهدة القليل من البرامج التلفزيونية، ثم يستيقظون مع ساعات الصباح الأولى في اليوم التالي، فهل نقول مع القائلين: "ما أحلاها عيشة الفلاح"؟ يبدو ذلك!

     ويقول مدير الجمعية الصينية لبحوث النوم، إن المهن التي يعاني العاملون بها من مشاكل النوم في الصين هي مهن حضرية بالأساس تحتاج مجهودا ذهنيا، فالإعلاميون والمحاسبون والمسؤولون التجاريون، هم الأقل راحة في النوم، يضاف إليهم المعرضون للإصابة بالأمراض التناسلية. ومن نماذج ذلك الصحفي وانغ جيان جيه، بأحد جرائد بكين، الذي تضطره ظروف عمله إلى النوم في الثانية أو الثالثة صباحا، والاستيقاظ قبل التاسعة، لماذا؟ يقول، وفقا لمقابلة أجرتها معه صحيفة "تشينا ديلي" الصينية، إنه طوال اليوم لديه الكثير من العمل والاجتماعات التي يجب أن يشارك فيها، وتبقى ساعات الليل فقط هي المناسبة لكي يجلس إلى الكمبيوتر ويكتب موضوعاته التي تتطلب كتابتها وسطا خاليا من الإزعاج. ولكن هذا النمط غير النظامي للحياة الذي أدى إلى نقص في النوم كانت له انعكاساته السلبية على الشاب الذي لم يصل بعد الثلاثين من العمر، فالإرهاق يلازمه طوال يومه، والإجهاد واضح على وجهه. هذه الحالة متكررة ولكل أسبابه، ومعظمها أسباب لها علاقة بالمتطلبات المادية المتزايدة.

      المثير للقلق هو أن طلاب الجامعات وتلاميذ المدارس في الصين ليسوا استثناء من اضطرابات النوم على الرغم من أنهم لم يدخلوا معترك الحياة بعد، فحسب دراسة أجراها خلال العامين الماضيين مركز بحوث الطفل بالتعاون مع صحيفة "شباب الصين" وشملت 6846 تلميذا في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة بعشر مدن، قال نصفهم إن النوم الجيد هو أعز ما يطلبون، وحسب الدراسة التي أعلنت نتائجها في بداية هذا العام، 10,4% من الأطفال تحت سن 12 سنة ينامون أقل من ثماني ساعات في اليوم، ومن بين الذين تتراوح أعمارهم بين 13 و15 سنة ينام ثلثهم أقل من ثماني ساعات يوميا، وهذا أقل مما ينصح به الأطباء من ضرورة أن ينام الأطفال والصبية تسع ساعات على الأقل في اليوم. ويقول العلماء إن عدم النوم لوقت كاف يجعل قدرة الطفل على التعلم أقل. وربما لهذا السبب قررت مدرسة ديسان تشونغشين الابتدائية بحي هونغكو في بلدية شانغهاي تأجيل وقت بداية أول حصة دراسية كل يوم من الساعة الثامنة إلا عشر دقائق إلى الساعة الثامنة وعشرين دقيقة وذلك اعتبارا من الفصل الدراسي الثاني هذا العام. وقد جاء القرار بعد دراسة قامت بها إدارة المدرسة واستطلاع رأي أولياء أمور التلاميذ، حيث لاحظ المعلمون أن التلاميذ يغالبهم النعاس أثناء الدرس لأنهم لا ينامون وقتا كافيا.

     ويقول الخبراء الصينيون إن الساكت عن اضطرابات النوم مذنب في حق نفسه وفي حق وطنه، ذلك أن الحرمان من النوم قد يخفي أمراضا محتملة مثل الاكتئاب والقلق كما أنه يؤدي إلى خسائر هائلة، اجتماعيا واقتصاديا بما ينجم عنه من حوادث وإصابات، وبالطبع قلة الإنتاج لضعف القدرة على الأداء. في أستراليا مثلا تقدر التكلفة الاجتماعية والاقتصادية لاضطراب النوم بعشرة مليارات دولار أمريكي سنويا. هذا في بلد عدد سكانه حوالي عشرين مليون نسمة، أي عدد سكان مدينة شانغهاي وحدها، فما بالك في بلد بحجم الصين. وفي الولايات المتحدة تُعزى العديد من الكوارث البيئية والتكنولوجية في جانب منها إلى الحرمان من النوم. وقد كشفت التحقيقات في حادثتي مركبة الفضاء تشالنجر، ومفاعل تشيرنوبل النووي وغيرهما، عن أن العاملين كانوا يشتغلون ساعات طويلة مع القليل من النوم، ولهذا كان لهم دور ما في كل منها. والصين ليست استثناء، وإذا كنا نعلم القليل عن دور الحرمان من النوم في كوارث المناجم في الصين التي لا يكاد يمر يوم دون أن نقرأ عن ضحاياها، فإن الشركات تخسر عندما يكون العاملون بها نصف مستيقظين أثناء العمل، ولم أعجب للنصيحة التي يوجهها دائما أحد أصحاب مناجم الفحم الصينيين لعمال المنجم محذرا إياهم من أنه "إذا نمت أثناء العمل قد لا تستيقظ أبدا".

     هل الناس في الصين مشغولون بالأرق وعدم الراحة واضطرابات النوم؟ الإجابة بالنفي، فالصينيون يعتبرون أنه لا مشكلة إن مرت بالمرء عدة ليالي مؤرقة، فمن بين المصابين باضطرابات النوم، عشرون بالمائة فقط هم الذين يذهبون إلى المتخصصين طلبا للمساعدة، في حين يلجا الباقون إما إلى المنومات والمهدئات أو يتجاهلون الأمر ببساطة ويواصلون حياتهم إلى أن يجبرهم المرض على زيارة المستشفيات، ربما بعد فوات الأوان.

     على الجانب البحثي والصحي لم تكن الهيئات الصينية حتى وقت قريب تهتم بمسألة النوم أو نوعية النوم، وكما قال البروفيسور لي شون وي، أستاذ الأمراض العصبية بمستشفى كلية الطب لجامعة بكين، إن ما تنفقه الصين على البحوث ذات العلاقة بهذا المجال لا يتجاوز مئات الآلاف دولار سنويا، مقارنة مع مليارات الدولارات الأمريكية في الولايات المتحدة.

     قد يكون صحيحا أنه: "ما أطال النوم عمرا ولا قصر في الأعمار طول السهر"، ولكن المؤكد أن النوم له دور بالغ الأهمية في نوعية العمر الذي تعيشه، وكما يقول الكاتب الكبير أنيس منصور: النوم والجوع والراحة البال هي عناصر الصحة والجمال.

مرحبا على المقهى الإلكتروني

husseinismail@yahoo.com

Address: 24 Baiwanzhuang Road, Beijing 100037 China
Fax: 86-010-68328338
Website: http://www.chinatoday.com.cn
E-mail: chinatoday@chinatoday.com.cn
Copyright (C) China Today, All Rights Reserved.