ã

كونفوشيوس .. رمز الثقافة التقليدية الصينية

وانغ لي تشي

      في الثامن والعشرين من شهر سبتمبر للسنة الخامسة بعد الألف الثانية للميلاد احتفل الناس في بقاع شتى من الأرض بالذكرى السنوية الألفين وخمسمائة وست وخمسين لميلاد كونفوشيوس. الاحتفالات امتدت من المدينة التي ولد بها، تشيويفو بمقاطعة شاندونغ الصينية، ومدينة شانغهاي ومقاطعات تشجيانغ ويوننان وقانسو ومنطقة هونغ كونغ ومدينة تايبي الخ في الصين، إلى عاصمة كوريا الجنوبية، سيول، ومدينة أشيكاغا اليابانية وسنغافورة ومدينة سان فرانسيسكو في الولايات المتحدة ومدينة كولون في ألمانيا. كانت هذه أول مرة للتعبير عن الاحترام لكونفوشيوس في ذات اليوم بكافة أرجاء الأرض، كما أنها أول مرة تقوم فيها حكومة الصين بتلك النشاطات منذ تأسس الصين الجديدة.

     لماذا هذا التعبير عن الاحترام الكبير لكونفوشيوس بعد وفاته بأكثر من 2500 عام؟ ماذا ترك كونفوشيوس للصين وللعالم؟

     1 كونفوشيوس

     كونفوشيوس هو الاسم الشائع خارج الصين لفيلسوف الصين الكبير كونغ تشيو أو كونغ فو تسي. ولد عام 551 ق.م وتوفي عام 479 ق.م في دويلة لو (مقاطعة شاندونغ حاليا)، إبان عصر الربيع والخريف (770- 476 ق.م). في ذلك العصر سادت الفوضى وتهاوت القيم الأخلاقية في المجتمع، فكان الابن يقتل أباه والوزير يقتل ملكه. كان أجداد كونفوشيوس من النبلاء في دويلة سونغ، ولكن أسرته عانت من الفقر أثناء طفولته. وقد مات أبوه وهو في الثالثة من عمره وماتت أمه وهو في السابعة عشر. هذه الخلفية الأسرية جعلته يسعى منذ طفولته إلى طبائع النبلاء وإلى وظيفة رسمية. درس كونغ فو تسي، وعمره عشرون عاما، المهارات الأساسية الست في الصين القديمة، وهي الثقافة والتواصل الاجتماعي والشؤون العسكرية والووشو والكتابة والحساب؛ وهي المهارات التي كان يجب توفرها في من أراد الانضمام إلى الدائرة السياسية. كان الهدف السياسي الأسمى لكونفوشيوس هو العودة بالمجتمع إلى ما كان عليه من نزاهة وأمانة في بداية أسرة تشو الغربية (القرن الحادي عشر ق م – 771 ق.م) وإعادة نظام الدرجات الاجتماعية الهرمي الهيراركي. في سن الثلاثين كان قد استوعب المهارات الست، وازدادت شهرته وسعى إليه كثيرون طلبا للعلم، فأنشأ معهدا خاصا في بيته هو الأول من نوعه في الصين، ومارس فيه مهنة التعليم، من أجل نشر الثقافة التقليدية لأسرة تشو وإعداد تلاميذه وفقا للمُثل التي آمن بها ودعا إليها، على أساس أن هؤلاء سيصبحون يوما أعمدة المجتمع من خلال المناصب التي سيشغلونها. لقد اعتبر كونفوشويس التدريس سبيلا آخر للانضمام إلى الدائرة السياسية، ولهذا أمضى حياته كلها ما بين التدريس والعمل السياسي، حيث شغل منصب المسئول عن دائرة الشؤون القانونية في حكومة دويلة لو، وكان عمره خمسين عاما، ولكنه ترك العمل بالحكومة بعد مكيدة سياسية دبرت له. بعدها تجول مع تلاميذه بين الدويلات لمدة أربع عشرة سنة، سعيا لإصلاح المجتمع وتحقيق مُثله، ولكنه لم يجد فرصة لذلك، فعاد إلى دويلة لو ومات بعد ثلاث سنوات.

     لقد تردد كونفوشيوس طوال حياته بين العمل التربوي التعليمي والعمل السياسي بكل ما بين الُمثل السياسية والواقع الاجتماعي القاسي من تناقضات. لقد حاول أن يحقق مُثله في المجتمع الحقيقي، وبذل كل ما يستطيع مع علمه أن تحقيق هذه المُثل أمر صعب. لم ينجح كونفوشيوس في عالم السياسة ولكنه أصبح أعظم معلم في تاريخ الصين.

     2 المعلم التربوي

     كونفوشيوس هو أعظم معلم تربوي، وأول من أقام مؤسسة تعليمية خاصة في تاريخ الصين، وهو الذي وضع هيكل النظام التعليمي القديم في الصين، من حيث أهدافه التربوية ومحتواه التعليمي وأساليبه. لقد سعى إلى تعليم تلاميذه الأخلاق والكفاءة، اقتناعا منه بأن هدف التعليم هو بناء شخص كريم الخلق. كان يطلب من تلاميذه أن يقرءوا أمهات الكتب ثم يشرحها لهم بصورة إبداعية، واستطاع أن يعلم تلاميذه من الواقع ويثقفهم وفقا لاستعدادات كل منهم ويوقظ ضمائرهم ويجعلهم يتعلمون ذاتيا ويتنافسون في الدراسة، ويبذلون أقصى الجهود في سبيل التقدم. وقد دعا كونفوشيوس إلى "حق الجميع في التعليم على قدم المساواة". واعتبر أن جميع البشر متشابهون بالطبيعة، ولكنهم يتباينون في الممارسة نتيجة تأثيرات البيئة والعادات المختلفة، ولذلك فإن كل فرد قادر على الارتقاء بنفسه عن طريق التربية والتعليم. وتحتل التربية الأخلاقية مكانة محورية في النظام التعليمي الكونفوشيوسي، أما التربية في المجالات الأخرى فتحتل مكانة ثانوية، ورأى كونفوشيوس أيضا أن ممارسة السياسة تعتمد على الأخلاق أساسيا، بينما تأتي المهارات الأخرى في مراتب تالية. وقال كونفوشيوس: "على المعلم أن يُدرس بدون ملل ويعلم الناس دون سأم" ((المحاورات 7:2)) وقال:"إن الذي يستطيع، بمحاكاة القديم، أن يكتسب معلومات عن الجديد يصلح أن يكون معلما ((المحاورات 2:11)). ودعا كونفوشوس إلى أن يكون التعليم بالقول والفعل، وأن يدرس المعلم والتلاميذ معا ويتعاونون ويتقدمون معا، وأن يمارس المعلم التدريس والتفكير في نفس الوقت. وشجع كونفوشيوس الطلاب على تجاوز معلميهم في العلم والمعرفة، فقال:"احترم الشباب، كيف تعلم أنهم لن يكونوا يوما، ما أنت عليه الآن" ((المحاورات 9:22))، ودعا كونفوشيوس المسئول الذي أنجز مهماته أن يكرس نفسه للدراسة، والطالب الذي أكمل دراساته أن يكرس نفسه لواجباته كمسؤول". وقد كانت هذه الفكرة ذات أهمية خاصة في تاريخ الصين، حيث أنها كانت الإرهاصات الأولى لنظام الامتحان الإمبراطوري الذي ظهر أولا في زمن أسرة سوي ( 581 – 618 م)، وكان وسيلة اختيار الموظفين الحكوميين. كان كونفوشيوس يلقي تعاليمه على تلاميذه ويشرح لهم ولم يدون أي مؤلف في حياته. بعد وفاته، جمع طلابه كلماته في كتاب ((المحاورات)).

     3 مؤسس الكونفوشيوسية

     تتدفق الثقافة التقليدية الصينية مثل مياه نهر يجري آلاف السنين ولكنها لم تغمر ضفة النهر التي أقامها كونفوشيوس.

     كونفوشيوس، مؤسس الفكر الكونفوشوسي- أول فكر منهجي في تاريخ الثقافة الصينية- لم يتحدث عن أعاجيب وأعمال قوة واضطرابات أو أرواح، وإنما أوضح العلاقات الاجتماعية. ومحور الكونفوشيوسية هو النزعة الخيرية، التي حددها كونفوشيوس بشكل أساسي وهي احترام الأبوين والأخوة والأخوات ((المحاورات 1:2)). إن النزعة الخيرية في الكونفوشيوسية لا تقتصر على الأخلاق فحسب، وإنما تشمل معاملة الآخرين بالاحترام، كما أنها، الهادي في ممارسة الشؤون السياسية. وحسب الكونفوشيوسية، النزعة الخيرية هي معيار السلوك الإنساني. وحدد كونفوشيوس طريقتين لإقامة الدولة على أساس النزعة الخيرية. الأولى، الأمانة والتسامح ((المحاورات 4:15)) والثانية، هي الالتزام بالشعائر ((المحاورات 12:1)). وقد شرح الطريقة الأولى بالقول: إذا أردت أن أقيم مثلا طيبا في حياتي، أساعد الآخرين على إقامة المثل الطيب، إذا حاولت أن أحقق المثل، أساعد الآخرين على تحقيقه. ((المحاورات 6:28)) هذه الفكرة فكرة رئيسية في الفكر الكونفوشيوسي. وقد قال المفكر الكونفوشيوسي منشيوس " إذا كنت كبيرا، وأريد أن يحترمني الناس، علي أن أحترم الآخرين أولا، وإذا كنت طفلا وأريد أن يحبني الناس، علي أن أحب الآخرين أولا". هذا التعبير على الرغم من بساطته فإنه يعبر عن حقيقة جوهرية في علاقات الناس في الحياة اليومية، وهو الأساس الذي اعتمد عليه المجتمع البشري في مسيرته الطويلة. إلزام النفس بالشعائر قول صيني قديم، ولكن كونفوشيوس قدم له تفسيرا جديدا فقال إن الذي يستطيع أن يلزم نفسه بالشعائر طيب، إن استطاع ذلك يوما واحدا فإن كل فرد تحت السماء سوف يرد طيبته. ((المحاورات 12:1)) ويعتقد كونفوشيوس أنه ينبغي على المرء أن يسيطر على نفسه ويرتقي بأخلاقه إلى الدرجة العالية ويحقق ذلك بأفعاله، فيستطيع أن يفيد الآخرين في تحقيق الخير. وإذا تناقضت مصالح الحياة والأخلاق لا يجوز التضحية بالأخلاق من أجل مصالح الحياة، وقال كونفوشيوس: "لا تدع أحدا يسبقك إلى فعل الخير، حتى ولو كان معلمك". ((المحاورات15:35)) في الفكر الكونفوشيوسي، إذا ارتقى المرء إلى منزلة طيبة، استطاع أن يفعل ما يشاء دون أن يناقض الأخلاق ((المحاورات 2:4))، فالفقراء يهتمون بأخلاقهم وبعد أن يصبحوا أثرياء يخدمون المجتمع بثروتهم.

     إن الفكر الكونفوشيوسي يشتمل على مبادئ الأخلاق والتربية والسياسة في إطار منظومة كاملة وضعها كونفوشيوس. وقد أصبحت المثل العليا لكونفوشيوس الهدف الذي يسعى إليه الصينيون جيلا بعد جيل.

     4 كونفوشيوس في تاريخ الصين

     بعد وفاة كونفوشيوس، ارتقت شهرته ومكانته إلى آفاق جديدة، وقد أطلق عليه لقب "المعلم الأكبر"، وفي عام 195 ق.م، عندما مر الإمبراطور قاو تسو من لأسرة هان الغربية ( 206 ق.م – 24 م)، بمنطقة دويلة لو، عبر عن الاحترام لكونفوشيوس وطلب من وزرائه التعبير عن الاحترام لكونفوشيوس أولا قبل ممارسة العمل السياسي، وفي عصر الإمبراطور وو دي من أسرة هان الغربية، وصلت الكونفوشيوسية إلى قمتها في الصين بعد أن حظر البلاط كافة المدارس الفكرية إلا الكونفوشيوسية، التي أصبحت الفكر الرسمي للدولة، واعتُبر كونفوشيوس إلاها. وتواصلت مكانة كونفوشيوس كأعظم معلم في الصين حتى القرن التاسع عشر، ولكن عندما اندلعت انتفاضة الفلاحين في أواسط القرن التاسع عشر، حطم الفلاحون تماثيل كونفوشيوس وهدموا معابده، وصارت الكتب الكونفوشيوسية كتبا ضارة. في تسعينات القرن التاسع عشر، رفع الإصلاحيون البرجوازيون في الصين مكانة كونفوشيوس وأصبح كونفوشيوس المعلم الأول للإصلاح والتجديد. ولكن خلال حركة الثقافة الجديدة – الرابع من مايو 1919، تعرضت الكونفوشيوسية للهجوم، وفي فترة الثورة الثقافية (1966-1976)، تعرض الفكر الكونفوشيوسي للهجوم مرة أخرى.

     في العصر الحديث، أصبح شباب الصين يفضل الثقافة الغربية وقليل منهم يقرأ ((المحاورات)). ولهذا فإن قيام حكومة الصين باحتفالات تعبر عن الاحترام لكونفوشيوس في العالم في السنة الماضية، أمر له مغزى، كونه يمثل رد الأمة الأكثر سكانا في العالم على غزو الثقافة الغربية للثقافات المحلية التقليدية في خضم عملية العولمة والرد على الأزمة الروحية التي تواجهها الأمة الصينية بتأكد الهوية الثقافية الذاتية. إن التعبير عن الاحترام لكونفوشيوس هو إبراز لتنوع الثقافة الصينية التقليدية واستعادة الإيمان الروحي.

     ملاحظة

     ((المحاورات)) أهم الكتب الكونفوشيوسية، ألفه تلاميذ كونفوشيوس، ويسجل الكتاب أقوال وأفعال كونفوشيوس وتلاميذه وحواراته معهم . ينقسم الكتاب إلى عشرين بابا، ويحتوي على 499 فصلا.

 

Address: 24 Baiwanzhuang Road, Beijing 100037 China
Fax: 86-010-68328338
Website: http://www.chinatoday.com.cn
E-mail: chinatoday@chinatoday.com.cn
Copyright (C) China Today, All Rights Reserved.