ã

الهاربون إلى هاربين

حكاية رجل أعمال ينزلق فوق الجليد!

حسين إسماعيل

كاتب المقال بين رئيس ((الصين اليوم)) قونغ شي شيانغ (اليمين) وتشو تينغ تساي

     ينبغي بداية أن أنوه إلى أن هاربين التي أتحدث عنها هي المدينة العاصمة لمقاطعة هيلونغجيانغ الواقعة شمال شرقي الصين على الحدود مع روسيا، وحيث أننا في فصل الشتاء لا يغيب عن خاطري بالطبع مهرجان الجليد الذي تقيمه المدينة سنويا. وقد تم إبلاغي، على عجل، بالاستعداد للرحيل إلى هاربين، التي عرفت لاحقا أن اسمها يعني مكان صيد السمك. ولكن لماذا وكم يوما ومع من؟ أسئلة لم يكن لها إجابة، فخمنت أن الأمر جد جليل، واستعددت بالكثير من اللباس، فقد حذرنا الأصدقاء في بكين من برد هاربين؛ فالذي يفر من برد بكين إلى هاربين كمن يستجير من الثلج بالجليد (لا مجال لذكر النار والرمضاء هنا). وقيل إن درجة الحرارة بها يمكن أن تصل، يا رعاك الله، أربعين تحت الصفر.

     بعد رحلة بالطائرة استمرت ساعة ونصف من العاصمة الصينية صوب الشمال ها أنا أقرأ لافتة "مطار هاربين الدولي". انسللت مع المجموعة المسافرة إلى خارج المطار، وكان الوقت منتصف الليل تقريبا. كان الجو باردا ولكنه محتمل برغم أن ملابسي ليست كثيرة، فابتسمت في نفسي وهمست، أين البرد. المسافة من المطار إلى وجهتنا، التي لا أعرفها حتى تلك اللحظة، سوف تستغرق ساعة ونصف. بدأت أشعر بشيء من البرد، فأحكمت الكوفية حول عنقي وضغطت الطاقية في رأسي ودفنت أصابعي وكفي في القفاز العازل للبرد، ولكن شعوري بالبرد يتزايد. فتحت حقيبتي التي أتخذ منها مسندا وأخرجت السويتر الجلدي والملابس الصوفية الكثيرة ورحت أكومها فوق جسدي. بعد ساعتين وصلنا إلى المكان الذي قيل إننا سنمضي ليلتنا به، ولكن قبل الصعود إلى غرفنا كان لابد من تناول العشاء، فتذكرت المقولة الصينية القديمة جدا: بالنسبة للشعب، الطعام في المقام الأول.

     في الصباح، خرجت لأجد نفسي في عالم أبيض، كل شيء مكسو بالجليد، ومع أشعة الشمس بدأت الأمور تتكشف، فنحن هنا في منطقة آرلونغ شان، أي جبل آرلونغ. رفعت كوفيتي لتغطي وجهي تماما باستثناء العينين، وتبعت السيدة ليو يي تشون، مرشدتنا منذ وصولنا، إلى البحيرة المتجمدة التي تقع أمام الجبل، حيث مارسنا كل ألعاب الجليد تقريبا، باستثناء الانزلاق. وبعد الظهر دخلنا قاعة كبيرة حيث ارتدينا عدة التزلج على الجليد، وتولت شان شان، وهي تتحرك فوق لوحي التزلج مثل فراشة تحوم من حولي، مهمة تعليمي كيف أنزلق على الجليد دون أن أسقط، وبعد عدة محاولات استطعت التحكم في سرعة لوحي التزلج ولكن دون السيطرة على الاتجاه. وبينما أنا في غمرة زهوي بهذا الإنجاز أطلقت العنان للوحي الانزلاق حتى فقدت السيطرة تماما، فسقطت في نهاية الحلبة، وما كدت أنهض واقفا حتى رأيت أمامي رئيس "الصين اليوم"، قونغ شي شيانغ ومعه شخص آخر، فركت عيني لأتحقق، خشية أن يكون الذي أراه مجرد تهيؤات من أثر السقوط المروع حيث لم يكن السيد قونغ معنا في سفرنا. مد الرجل يده فصافحته، وقدمني لمن معه وقدم من معه لي، وقال بلطف، واصل التزلج، أو بالأحرى الانزلاق.

     على العشاء الذي حضره السيد قونغ، كان معنا، وبمعنى أدق كان مُضيفنا، هو السيد تشو تينغ تساي، الذي رأيته قبل قليل في ملعب التزلج، رجل الأعمال صاحب هذا المنتجع السياحي الجميل، وصاحب منتجع يابولي لألعاب الجليد، وهو مكان يعرفه معظم الصينيين، إضافة إلى منتجع آخر بالقرب من نهر خيخه القريب من الحدود الروسية، وأعمال أخرى كثيرة. كما كان على المائدة ابن السيد تشو، الشاب الواعد الذي يناديه أبوه باسم شياو خو أي النمر الصغير، وقد قال لي شياو خو: يمكن أن تناديني جيمس. بعد كلمات الترحيب التقليدية، وهي من آداب المائدة الصينية، أنشد رئيس "الصين اليوم" قصيدة شعر، أثنى فيها على الجليد الذي يغطي سوءات الأرض، فقلت من عندي والبشر أيضا. هنا في شمال الصين الشرقي الجليد جزء من حياة الناس، فهم يعيشون معه نصف العام، وقد تشكلت لديهم ما يمكن أن نسميه ثقافة الجليد، بل إن السيد تشو تينغ تساي نفسه أصدر كتابا بعنوان ثقافة الجليد، كتب له مقدمته رئيس "الصين اليوم"، كونه هو الآخر من أبناء هيلونجيانغ العاشقين للجليد. في هذا الكتاب، يرى السيد تشو أن ثقافة الجليد لم ترسخ جذورها بين الصينيين وانه لكي تستمتع بالجليد، وكي تدير أعمالا لها علاقة بالجليد ينبغي أن تعرف ثقافة الجليد، التي هي أكثر من مجرد الانزلاق أو التزلج دون أن تسقط.

     لقد وجدت نفسي أمام شخصية تثير فضولك لمعرفة المزيد، ولم يكن هناك أفضل من الفكرة التي اقترحها قونغ شي شيانغ بأن تُقسم المجموعة الزائرة إلى فريقين يلتقي كل منهما، على حدة، الأب والابن بالتبادل، ليتأكد حدسي بأنني أمام رجل استثنائي ونموذج لرجل الأعمال الناجح في الصين، أو بالأحرى الوصفة التي تضمن نجاح أعمالك.

     ولد السيد تشو في واحدة من قرى مقاطعة هيلونجيانغ وارتبطت طفولته بالثلج والجليد، وفي عام 1970 بدأ حياته عاملا في شركة هيلونجيانغ للبناء والهندسة، وقد تدرج في المناصب بالشركة حتى وصل إلى منصب نائب رئيس الشركة، وهذا إنجاز كبير، وفي عام 1993 سافر، بطلب من الشركة، إلى هونغ كونغ، وكان هذا، حسب قوله، التحول الكبير في حياته، فهذه المنطقة الصينية التي احتلها الانجليز ردحا من الدهر فيها نظم متكاملة ولكنها تعتمد على بر الصين الرئيسي في كل شيء. عمل تشو هناك لمدة سنتين من أجل الاستعداد لتوسيع استثمارات الشركة، وتعاون مع شركة تنمية عقارية مقرها هونغ كونغ وأنشأت هذه الشركة التي تعاون معها مشروع فيلات في هاربين. عاد تشو من هونغ كونغ إلى هاربين عام 1995 فتعاون مع بعض المستثمرين في إنشاء شركة خاصة، ولكنه استقل بنفسه عام 1999، فاحتاج إلى مساعدة ابنه الذي عاد من اليابان بعد منحة دراسية قدمتها لها حكومة هاربين للدراسة بجامعة هوكايدو لمدة خمس سنوات. وقد أشاد الأب غير مرة بابنه الذي يحب وطنه فآثر العودة إلى الصين ولم يبق في اليابان بعد إنهاء دراسته.

     الآن يمتلك السيد تشو، بعد عشر سنوات تقريبا من بداية نشاطه التجاري الخاص، ثلاثة منتجعات سياحية كاملة المرافق، من فنادق ومطاعم ومقاهي وملاهي وملاعب، يديرها فريق من العاملين المتخصصين بشكل عام في الفندقة والسياحة، إضافة إلى فندق صغير في مدينة هاربين تديره زوجته، السيدة شيه، مع ملاحظة أن هذا هو ما رأيناه فقط. والسيد تشو لديه أسطول من السيارات، رأينا منها المرسيدس أحدث موديل التي تخصه والتويوتا راند روفر الفاخرة التي يقودها النمر الصغير والسيارة التي حظيت بركوبها من ماركة انفنتي 4200 سي سي المزودة بكل ما لا تتخيله من إمكانات، والتي قال سائقها إن سعرها لا يقل عن مليون ونصف المليون يوان (190 ألف دولار أمريكي). ويفخر السيد تشو بأنه أول من أنشأ ملعب جليد لغير المحترفين في الصين، وهو منتجع وملاعب يابو لي. وعندما سألنا السيد تشو عن عوامل نجاح رجل الأعمال قال: أولا وقبل كل شيء، ينبغي على الشركة الكبيرة أن تعي الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي للبلد، وأن تعتمد على الحكومة وأن تهتم بالقانون، وقال إنه حصل على مساعدة كبيرة من عمله السابق في شركة الهندسة والبناء وإنه يهتم بالثقافة التقليدية الصينية. ومن الواضح أن الرجل قرأ الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي جيدا وعرف كيف تعامل معه.

     والسيد تشو رجل له حيثية اجتماعية فهو عضو بالحزب الشيوعي الصيني كما أنه عضو بالمجلس الشعبي المحلي لمدينة هاربين، أعلى هيئة تشريعية في المدينة وله علاقات اجتماعية واسعة لم يكن من الصعب ملاحظتها عندما استقبلنا، على مأدبة فاخرة، قادة مكتب الإعلام بحكومة مقاطعة هيلونجيانغ وقادة دائرة النشر بالحزب الشيوعي بالمقاطعة. والسيد تشو له رؤية خاصة في شأن الموارد البشرية بشركته، فأبناء الريف، كونه ريفيا، وأعضاء الحزب الشيوعي، كونه حزبيا، لهم الأولوية للعمل في شركاته. ولكي تنجح الشركة، يقول السيد تشو، لابد أن تلتزم بالقانون وأن توفر بيئة عمل جيدة للعاملين ليشعروا بالسعادة وأن تقدم لهم رواتب كافية، وأن تتيح للموظف الفرصة لتنمية نفسه وتطوير إمكانياته.

     شياو خو (النمر الصغير) شاب أنيق ومتحدث لبق، درس إدارة الأعمال في اليابان وتأثر بالثقافة اليابانية. عندما قلت له، ونحن نتناول العشاء، يقول الناس في بلادي إن ابن الوز عوام، ابتسم ابتسامة رضا، وقال إنه محظوظ لأن والده رجل أعمال ناجح ولم ينكر دور العلاقات، أي قوانغشي باللغة الصينية، في نجاح الشخص أو التجارة في الصين. وقال إن العلاقات لها دور كبير في اليابان أيضا، ولكن الفرق أن العلاقات في الصين فوق السطح بينما في اليابان تكون تحت الأرض. والنمر الصغير عضو بالحزب الشيوعي أيضا وله طموح سياسي ولكنه يركز في الفترة الحالية على تطوير أعمال شركاتهم.

     إن مسيرة السيد تشو وشركاته، وما حققه خلال عشر سنوات ليس أكثر، جديرة بالتأمل وتعتبر مرآة للنجاح التجاري، ليس في هاربين أو مقاطعة هيلونغجيانغ فقط وإنما في كل الصين.

مرحبا على المقهى الإلكتروني

husseinismail@yahoo.com

 

Address: 24 Baiwanzhuang Road, Beijing 100037 China
Fax: 86-010-68328338
Website: http://www.chinatoday.com.cn
E-mail: chinatoday@chinatoday.com.cn
Copyright (C) China Today, All Rights Reserved.