محتويات العدد 9 سبتمبر (أيلول)  2005‏
م

أطباء زمان، في الصين

 

كانت جدتي، رحمها الله، تسمي الطبيب "الحكيم"، وكنت أتعمد أمامها بالحديث عن الدكتور، في محاولة مني لتعويدها على أن الطبيب هو الدكتور، ولكنها كانت تصر دائما على أنه الحكيم. وقد تيقنت لاحقا من حكمة جدتي عندما أدركت أن الطب ينبغي أن لا يكون مهنة فحسب، بل هو فلسفة وروح ومشاعر إنسانية. أدركت ذلك بعد عدة تجارب مع مستشفيات وأطباء العصر الحديث، الاستثماري. هو شئ مؤلم أن تشعر وأنت في مستشفى وأمام طبيب أنك في مؤسسة استثمارية وأن الذي أمامك رجل أعمال وأنك مشروع استثماري.ح والوخز، وقليل من الأعشاب،

إن العالم، شرقه وغربه، سئم العلاج الغربي بالمواد الكيماوية وراح يبحث في الطبيعة عن الدواء، فيما يسمى بالعودة إلى الطبيعة أو الطب البديل. الصينيون، من ناحيتهم، لديهم طبهم التقليدي، الذي هو طب الأعشاب أي الطب البديل. كتب وممارسات وتجارب وخبرات هذا الطب موجودة، فهل أطباء اليوم لديهم حكمة أطباء الزمن الغابر؟ح والوخز، وقليل من الأعشاب،

لقد ارتبط الطب الصيني التقليدي بالفكر الكونفوشيوسي، تلك المدرسة الفكرية التي أقامها كونغ تسي (كونفوشيوس) (551-479 ق م) خلال فترة الربيع والخريف (770-476 ق م). وفي عام 134 قبل الميلاد استطاع العالم الكونفوشيوسي دونغ تشونغ شو (179-104 ق م) إقناع الإمبراطور هان وو دي ، إمبراطور أسرة هان الغربية (140ق م – 9 م) لرفع الكونفوشيوسية إلى مرتبة الفكر الرسمي للدولة. ح والوخز، وقليل من الأعشاب،

الكونفوشيوسية من موقعها في قلب الثقافة الصينية التقليدية أثرت في كل أوجه الطب التقليدي الصيني، من القيم والأخلاقيات الطبية إلى فلسفة ين ويانغ وتشكيل أسس نظرية الطب التقليدي الصيني والممارسة الإكلينيكية. ولعل مفهوم رن (النزعة الخيرية)، وهو مفهوم محوري في الثقافة الكونفوشيوسية، هو أكثر ما أثر في الطب الصيني القديم. المعنى الجوهري للنزعة الخيرية هو أن تحب الآخرين. الإنسان، أولا وقبل كل شيء يحب أسرته، ومن هنا يكون توسيع مدى حبه للعالم كله. النزعة الخيرية تدعو البشر للتعاطف مع بعضهم البعض. فهي تدمج بين الوعي بالذات وفهم الطبيعة الإنسانية أيضا كروح عميقة للنزعة الإنسانية. وجوهر الحب الخيري هو الاعتراف بالقيمة الحقيقية للآخرين، والقدرة على أن ترى أنهم لا يختلفون فعلا عن نفسك.ح والوخز، وقليل من الأعشاب،

هذا المفهوم كان عاملا رئيسيا في تشكيل منظومة الأخلاقيات الطبية الفريدة للطب التقليدي الصيني. وتؤكد الرؤية الكونفوشيوسية للنزعة الخيرية على التربية الذاتية لتحقيق تناغم الفرد مع نفسه وتنظيم الدولة، بينما يؤكد الطب التقليدي الصيني على علاج الأمراض لتنسيق الجسم وإنقاذ الحياة، فحسب هذا الفكر، يداوي الطبيب العادي المرض، بينما الطبيب الوسط يداوي الناس، والطبيب المتفوق يداوي الدولة. ح والوخز، وقليل من الأعشاب،

والطب الصيني التقليدي يولي أهمية بالغة للأخلاق الفردية والمهنية. فقد كان أولئك الذين يمتلكون الكمال والقدرة يعتبرون مؤهلين لممارسة الطب. وقد أوضح سون سي مياو (581- 682م)، المعروف باسم حكيم الطب، التناظر الشديد بين الأخلاقيات الطب التقليدي الصيني ومفهوم حب الخير الكونفوشيوسي. يقول هذا الطبيب الحكيم في وصفه للأخلاقيات الطبية المهنية إن الطبيب عندما يعالج مرضا ينبغي أن يكون معتدلا وعطوفا، وملتزما تماما لإنقاذ الناس جميعا من المعاناة دون تفكير في مكسب شخصي. عليه أن يعتبر كل من يأتون إليه طلبا للمعونة كأفراد من أسرته، سواء كانوا أغنياء أو فقراء، صغارا أو كبارا، ذوي جمال أو قبح، صينيين أو أجانب!ح والوخز، وقليل من الأعشاب،

 على الطبيب، والكلام مازال للطبيب الحكيم سون سي مياو، أن لا يتردد في التصرف، حتى وإن خشي على سلامته الذاتية، عليه أن يستجيب لآلام الآخرين كما لو كانت آلامه هو. لا يمنعه من مساعدة الآخرين من أعماق قلبه، خطر أو جوف ليل، برد أو حر، جوع أو عطش أو تعب. على الطبيب أن يعالج مرضاه على أتم وجه وبإخلاص عظيم وبأعمق مشاعر. وأولئك الذين لا يفعلون ذلك ليسوا أكثر من لصوص!ح والوخز، وقليل من الأعشاب،

قانون الأخلاقيات الطبية للطب التقليدي الصيني، والذي يستند على حب الخير أنتج شعورا عميقا بالمسئولية الاجتماعية لدى أطباء الصين القديمة. ويكفي لنعرف إخلاص الطبيب الحكيم في الصين القديمة أن نشير إلى تشانغ تشونغ جينغ، وهو طبيب عاش خلال فترة الاضطرابات والحروب في أواخر أسرة هان الشرقية والتي أدت إلى تفشي الأمراض والإصابات الجماعية  فكرس نفسه لجمع وتجويد المعارف الطبية الموجودة حتى أنجز مؤلفه الموسوعي حول الممارسة الإكلينيكية للطب التقليدي الصيني، شانغهان تسابينغ لون (كتاب أضرار البرد والعلل المتنوعة). كما نشير إلى الطبيب العلامة، لي شي تشن (1518- 1593 م)، زمن أسرة مينغ، الذي لاحظ أن تركيبات الأعشاب الموجودة تحتوي على كم هائل من الأخطاء القاتلة فقرر مراجعتها وتدقيقها، في مهمة استغرقت منه ثلاثين عاما حتى أصدر عمله الموسوعي عن طب الأعشاب (الخلاصة الوافية في العقاقير الشافية)، التي أفادت البشرية جمعاء.ح والوخز، وقليل من الأعشاب،

وقد كان من أهم نتائج اندماج الفكر الكونفوشيوسي والطب التقليدي الصيني ظاهرة "الطبيب الكونفوشيوسي"، وهم الأطباء الضالعون في كل من الفلسفة والطب، وكان بعضهم في الأصل علماء كونفوشيوسيين أو مسئولين حكوميين أصبحوا أطباء وكان البعض الآخر  أطباء متمرنين شملت تدريباتهم خلفية شاملة عن الكلاسيكيات الكونفوشيوسية. ظاهرة الطبيب الكونفوشيوسي تعاظمت، في جانب منها، بفضل التناظر بين المسئولية الاجتماعية للطب في مداواة الناس والمسئولية الاجتماعية للكونفوشيوسية في تنظيم الدولة. وقد اعتبر العديد من الكونفوشيوسيين التقدميين أن ممارسة الطب لا يسبقها في الفضل إلا خدمة الحكومة. ومن أشهر الأطباء الكونفوشيوسيين في تاريخ الصين، الطبيب تشانغ تشونغ جينغ، من فترة أسرة هان الشرقية، وهو المعروف باسم حكيم الطب  وهوا توه، طبيب في أواخر فترة أسرة هان الشرقية . وكان العمل بالطب أمنية الفضلاء، ليس قطعا من أجل العائد المادي، وإنما من أجل رسالته السامية. وقد ذكر المسئول الكونفوشيوسي فان تشونغ يان (989- 1052م)، من فترة أسرة سونغ الإمبراطورية، أنه إن لم يستطع أن يكون رئيس وزراء مرموقا لأصبح طبيبا متفوقا، في زمن كانت فيه خدمة الدولة والشعب حسب الفكر الكونفشويسي قمة العطاء للبشرية.ح والوخز، وقليل من الأعشاب،

لم يكن الطبيب الصيني التقليدي يعتمد على العقاقير فقط في علاج المرض، وإنما كان طبيبا نفسيا يعالج علل القلب والعقل أيضا، انطلاقا من مفهوم الوسطية في الفلسفة الكونفوشيوسية، حيث يعتقد كونفوشيوس أن لكل ظاهرة وجهين متعارضين يوجدان في حالة من التوازن النسبي. عندما يتجاوز التوتر بين الجانبين حدا معينا، يضطرب هذا الاعتماد المتبادل مما يسفر عن المرض. وجوهر مبدأ الوسطية هو مفهوم التوازن والتناغم. ويؤكد الطب التقليدي الصيني على أنه لكي تعمل الوظائف الفسيولوجية المعقدة طبيعيا ينبغي الحفاظ على توازن ين ويانغ. إذا فُقد هذا التوازن، فإن الأمر يكون كالربيع بدون رياح، أو الصيف بدون ماء. عندما يكون ين ويانغ في حالة تناغم وتوازن نسبي، تعمل الوظائف الفسيولوجية بكامل طاقتها. وحسب الطب الصيني التقليدي ثمة عديد من العوامل يمكن أن تضر بالعمل المتناغم لين ويانغ وتؤدي إلى بدء المرض، مثل  التغير في الطقس، المشاعر الحادة، قلة الطعام، والتوازن غير الصحيح بين العمل والفراغ. ح والوخز، وقليل من الأعشاب،

والطبيب التقليدي الصيني ينصح بأن الحفاظ على التوازن بين ين ويانغ هو الطريقة الأكثر فاعلية للحفاظ على الصحة وطول العمر. وقد آمن القدماء بأنه لكي تعيش طويلا وبصحة جيدة، من الضروري أن تسافر وتستريح، تنام وتقرأ وتستمع إلى الموسيقى، كل ذلك باعتدال. لا ينبغي للفرد أن يأكل أو يشرب إلى الحد الأقصى، ولا ينبغي أن يحزن أو يقلق بإفراط. فقط من خلال الاعتدال يمكن تحقيق التناغم، وفقط أولئك الذين يعيشون في توازن وتناغم يعمرون طويلا.ح

الأعشاب،

في المستشفيات الفاخرة المكيفة وأمام أطباء العصر المتأنقين أشعر دائما بالحاجة إلى حكيم يداوي الناس بالحجامة والتشييح والوخز، وقليل من الأعشاب، وفوق هذا وذاك، لا يتعامل معك كصفقة تجارية!  ح والوخز، وقليل من الأعشاب،

مرحبا على المقهى الإلكتروني

husseinismail@yahoo.com

--+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-

 

 

 

 


 

 

 

Address: 24 Baiwanzhuang Road, Beijing 100037 China
Fax: 86-010-68328338
Website: http://www.chinatoday.com.cn
E-mail: chinatoday@263.net
Copyright (C) China Today, All Rights Reserved.