محتويات العدد 5 مايو (آيار)‏2005‏
م
الصين والمفهوم الجديد للتأثير في الساحة الدولية

د. محمد نعمان جلال

يقوم المفهوم الصيني للتأثير في العالم على أساس ركيزة هامة، وهي العمل الجاد لزيادة الإنتاج داخلياً، والعمل المستمر لتسويق الإنتاج عالمياً، مستهدية في ذلك بالدراسة العلمية للأسواق والأذواق والثقافات المختلفة لشعوب العالم وبمتطلباتها وأولوياتها، وفي نفس الوقت ساعية لتعزيز التقدم الصيني بتأمين متطلباته الرئيسية من الحصول على المواد الخام ومواد الطاقة وتصريف الإنتاج.الواقعية التي تنظر للمستقبل وتبني

إن المفهوم الصيني للتأثير في العالم، يقوم على الترويج للتجارة وليس الثقافة، يقوم على التفاهم ودراسة ثقافات وتقاليد الشعوب ولا يسعى إلى عتغييرها أوع تحديثهاع فهذه كلها ليستع من اهتماماته، إنها مسئولية الشعوبع وحكوماتها.ع إنهع لا ينتهج العمل السياسي ولا الثقافي فلاععيبشر بالفكر الكونفوشيع أو البوذي أو فكر دنغ شياو بنغ أو غيرهم، فهذه أمور ليست موضع اهتمامه، كما لا تسعى الصين للسيطرة العسكرية واختبار أسلحتها المتطورة بضرب وتدمير بيوت ومساكن الشعوب التي تتعامل معها. ولم يكن للصين مستعمرات في تاريخها بل قامت حضارتها على حماية نفسها من افتئات البرابرة على الحدود.  وهي حضارة مكتفية بذاتها. إن مفهوم التأثير الصيني في العالم يقوم على السعي لتبادل التجارة، وتطوير السلع الصينية وفقاً لأذواق ومتطلبات ثقافة كل مجتمع. ففي الدول الإسلامية يتعبدون على سجادة، ويمسكون بمسبحة، ويفرح الأطفال باستقبال شهر رمضان بالفوانيس، إذن يتم تصنيع ذلك في الصين وترويجه بأرخص الأسعار فيكسب البائع والمشتري أليس ذلك هو المفهوم الحسن للتأثير والنفوذ؟!الواقعية التي تنظر للمستقبل وتبني

تهتم الصين بدراسة ثقافة ولغات الشعوب الأخرى ولا تهتم كثيراً بنشر ثقافتها هي، ولهذا تنشئ كوادر متخصصة في كل لغة من لغات العالم، وتوظف الخريجين منها وتبعث بهم إلى تلك الدول، ليس بغرض التجسس كما تفعل بعض الدول الأخرى ولكن بغرض التعرف على الأسواق ودراستها، هذا ربما كان من قبيل التجسس التجاري إذا شئنا استخدام التعبير، ولكنه يختلف عما تنشره أجهزة الإعلام الأمريكية وبخاصة بعد غزو العراق من نشر إعلانات عن حاجتها لمتخصصين في اللغة العربية للقيام بأعمال المخابرات الأمريكية في جمع المعلومات وتحليلها عن الشعوب العربية.  الهدف الأمريكي هو السيطرة على الشعوب سياسياً وثقافياً وعسكرياً واقتصادياً.  الهدف الصيني هو التأثير في العالم اقتصادياً من خلال الوسائل السلمية، إنه هدف غايته ومبتغاه تبادل المنافع وتحقيق المصالح لكافة الأطراف.الواقعية التي تنظر للمستقبل وتبني

وهذا ما فعلته الصين بسياسة الانفتاح الإنتاجي والتكنولوجي العقلانية منذ عام 1978. ومن ثم فإنه بالنسبة للدول النامية، ومنها الدول العربية، فإن التعاون مع الصين أكثراق سهولة ويسراً، لأن له أهدافاً مشتركةاق ووسائل سلمية تقوم على تبادل المنافع ونقل التكنولوجيا بخلاف التعاون مع دول أخرى تسعى اقللسيطرة والهيمنة مناق خلال مفاهيمها السياسيةاق والاقتصاديةاق والثقافية، وتفرض حظراً على نقل التكنولوجيا، بل تسعى لتشويه الطابع القومي للشعوب وتطالبها بتغيير مناهجها الدراسية وتغيير ثقافتها.الواقعية التي تنظر للمستقبل وتبني

وإذا نظرنا لعلاقات الصين الخارجية منذ مرحلة الإصلاح والانفتاح في أواخر السبعينات من القرن الماضي لا يكاد يمر يوم دون أن تكون هناك عشرات الوفود والبعثات الصينية تجوب العالم بحثاً عن المواد الخام، وترويجاً للسلع الصينية، وتعزيزاً للتفاهم بين الشعوب، وبناء لأواصر الصداقة بينها، وتتحدث تلك الوفود لغات الدول التي تزورها فتسهل على القاصي والداني التفاهم معها. إنها تقدم أدوات الحوار في سهولة ويسر لبناء الفهم المشترك بين الوفود الزائرة والدول المستضيفة.الواقعية التي تنظر للمستقبل وتبني

وتركز الصين على الدول الهامة في كل منطقة، ولكنها تكاد لا تغفل عن دولة صغيرة أو كبيرة.  فإدارة السياسة الصينية تقوم على تخطيط مركزي مدرك واع للأبعاد الاستراتيجية، ولحساسية الشعوب، ثم أنها في نفس الوقت تقوم على تنفيذ لا مركزي بالغ المرونة.  ولو نظرنا لعلاقة الصين مع أية دولة نجد أنه لا يمر يوم أو أسبوع دون أن يكون هناك وفد زائر لمصر، أو لدبي باعتبارهما أكبر مراكز الحركة السياسية أو التجارية في الشرق الأوسط، فضلاً عن وفود عديدة لدول أخرى مثل السعودية والسودان واليمن ولبنان والبحرين وقطر وغيرها ناهيك عن إيران وتركيا وإسرائيل.  ليس هناك أعداء للسياسة الصينية وإنما هناك أصدقاء وجسور مفتوحة باستمرار، العداء بين الدول في أي إقليم شأن يخصهم ولا تتدخل الصين فيها بطريقة تؤثر سلبياً على مصالحها. علاقاتها السياسية مع اليابان يشوبها قدر من التوتر، ولكن العلاقات الاقتصادية والتجارية هي الأقوى بين الطرفين، وكذلك الشأن مع الولايات المتحدة، فالمبدأ الحاكم هو مقولة دنغ شياو بنغ المشهورة "لا يهم لون القط  طالما يصطاد الفئران". سفراء ودبلوماسيو الصين في غاية التواضع، وهم يعرفون عادة لغة البلاد التي يعملون بها ويتعلمون ثقافتها، أو يكون الرجل الثاني في السفارة على علم تام بثقافة وحضارة البلد المعتمد لديها. أساليب التعامل التجاري متنوعة من مكاتب ملحقة بالسفارات إلى مراكز تنمية الصادرات والترويج للاستثمار، إلى باعة متجولين في الطرقات يقرعون أجراس الشقق والمنازل. إنها تجربة فريدة، ومنهج جديد للعمل الاقتصادي والتجاري.  إن الصين هي ثاني دولة الآن في العالم في تصدير الاستثمارات للخارج، وهي الأولى في اجتذاب الاستثمارات الأجنبية، وهي الخامسة في استيراد السياحة العالمية، وهي الأولى في حجم السكان، كما أنها الأولى في معدل النمو الاقتصادي على المستوى العالمي،ع ولهذا استطاعتع زيادة الدخل القومي ع15 ضعفاً منع 406ع مليارع دولار ععام 1980 إلى 6354 مليار دولار عام 2003.  والصين هيع الأولى التيع ليست لها مشاكل سياسية وليست علها عقواعد عسكرية عفي أية دولة، وليست لها مستعمرات في العالم، ربما المستعمرة الصينية الوحيدة هي ما يطلق عليها الحي الصيني في كل منطقة، وفي كل دولة، وربما في العديد من المدن حيث المأكولات الصينية والمطاعم الصينية والثقافة الصينية. إنها ثقافة قانعة بذاتها مكتفية بذاتها، ولكنها منفتحة على العالم تتفاعل معه حيث الاستفادة المتبادلة، ثم تعود لحياتها الخاصة في شبه عزلة راضية عن حضارتها وثقافتها وتقاليدها لا تسعى لتغيير العالم، وإنما تحرص على التعامل معه كما هو، وهذه هي نقطة البداية في تفاعل الصين مع العالم الخارجي، والتي تختلف عن تفاعل أمريكا أو أوربا معه، حيث تسعى الولايات المتحدة لتغيير العالم ليكون على صورتها أو تابعاً لها. ولعلنا نقول إن مثل هذا الهدف الأمريكي هو أمر يشبه المستحيل، ومن ثم يستمر الصراع والاقتتال على مستوى كل دولة، وينضم إلى قائمة المستحيلات الثلاثة مثل الغول والعنقاء والخل الوفي. إن حب الشعوب لأمريكا قائم على أساس الرهبة والخوف من سطوتها، والرغبة في الاستفادة مما لديها من علوم وتكنولوجيا، بينما حب الشعوب للصين فهو قائم ونابع من الإعجاب بتجربتها التنموية الحديثة والانبهار بحضارتها العريقة.الواقعية التي تنظر للمستقبل وتبني

وكما تجوب الصين البلاد بحثاً عن الأسواق لتصريف منتجاتها، فإنها تسعى في نفس الوقت للحصول على السلع التي تحتاجها من الدول الأخرى، ونظراً لضخامة حجم الصين واتساع سوقها تتسابق الدول من أجل الحصول على جزء من السوق الصيني، ويقوم رؤساء الدول والحكومات بزيارة الصين ومعهم وفود مرافقة لهم من كبار رجال المال والأعمال في بلادهم، ويتم توقيع الاتفاقات والصفقات في أثناء تلك الزيارات أحياناً أو الإعداد لصفقات واتفاقات أحياناً أخرى. فعلى سبيل المثال وقعت شركة الخطوط الجوية الصينية "ايرتشانيا" في 6 ديسمبر 2004 اتفاقاً قيمته  1.3 مليار دولار لشراء 23 طائرة جديدة متوسطة المدى من الشركة الأوربية إيرباص أثناء زيارة المستشار الألماني جيرهارد شرودر للصين في نفس الفترة.  وهذا هو العقد الثاني في نفس العام الذي وقعته الصين، والأول كان في يونيه 2004 لشراء 20 طائرة إيرباص للمدى البعيد.  ولقد باعت شركة الإيرباص للصين 250 طائرة منذ عقد الثمانينات، ولكن شركة بوينج الأمريكية كانت الأولى في حجم الصفقات مع الصين.  وبمناسبة تسابق قادة الدول لزيارة الصين فإن هذه الزيارة هي السادسة للمستشار شرودر للصين، وتنتج الصين حالياً سيارات كرايسلر التي تنمو بسرعة في إنتاجها، كما أنها تقوم بتصنيع سيارات مرسيدس اعتباراً من عام 2005.الواقعية التي تنظر للمستقبل وتبني

ومن ناحية أخرى أعلنت الصين في سبتمبر 2004 عن حاجتها لبناء أربعة مفاعلات نووية لإنتاج ما يزيد عن ألف ميجاوات تخصص لمناطق الجنوب الشرقي وذلك لتغطية احتياجات الطاقة في تلك المناطق، وتخطط الصين لبناء 32 مفاعلاً نووياً عام 2020 تقدر قيمة الواحد منها 1.5 مليار دولار لرفع نسبة إنتاجها من الكهرباء من المفاعلات النووية من 1.3%من استهلاكها حالياً إلى 40% من احتياجاتها عام 2040، وقد زار رئيس الوكالة الأمريكية للطاقة النووية الصين لهذا الغرض في نوفمبر 2004، وأعلن أن واشنطن على وشك رفع الحظر عن مبيعات التكنولوجيا الأمريكية المفروض على الصين منذ سنوات.الواقعية التي تنظر للمستقبل وتبني

ولعل إلقاء نظرة على علاقات الصين مع دول مجلس التعاون الخليجي توضح لنا المنهج الصيني في الانفتاح والانتشار في العالم.  فقد بلغ حجم التبادل التجاري بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي 20 مليار دولار عام 2003. وتركز الصين فهذا المجال على ثلاث ركائز.الواقعية التي تنظر للمستقبل وتبني 

الركيزة الأولى: هي دبي حيث مركز التجارة ولذلك افتتحت الصين فيها أكبر مجمع تجاري باسم "سوق التنين" في إطار المجمع التجاري العالمي في دبي، وتحتل الإمارات العربية المتحدة المرتبة الأولى في حجم التبادل التجاري الخليجي مع الصين الذي وصل إلى 5.8 مليار عام 2003 ويتوقع أن يصل إلى 10 مليار دولار عام 2005.الواقعية التي تنظر للمستقبل وتبني

الركيزة الثانية: الاستثمار في مجال النفط والغاز وفي هذا الإطار طورت علاقاتها بالمملكة العربية السعودية واليمن.الواقعية التي تنظر للمستقبل وتبني

ونفس الشيء تهتم به الصين في علاقاتها مع الأردن والسودان وأيضاً مع دول الجوار العربي وفي مقدمتها إيران التي وصل حجم التبادل التجاري معها إلى 4 مليار دولار عام 2003 منه 2.5 صادرات إيرانية من النفط، وهناك أكثر من مائة مشروع صيني إيراني مشترك، وهي مشاريع صناعية هامة فضلاً عن مشروع مترو الأنفاق في طهران، وأيضاً في مجال الغاز الطبيعي الذي تملك إيران منه احتياطات ضخمة تقدر بـ27 تريليون متر مكعب، وحصلت الصين على عقد لتطوير حقل "يادا فاران" الضخم للغاز بقيمة مائة مليار دولار، وهي من أكبر الصفقات وتشمل الاستكشاف والتنقيب ومد خطوط وإقامة منشئات بتروكيماوية.  وهذه هي الصفقة الثانية بعد الأولى في السعودية للتنقيب على الغاز في صحراء الربع الخالي في السعودية.الواقعية التي تنظر للمستقبل وتبني

أما بالنسبة لمصر فإنه يلاحظ أن الرئيس مبارك زار الصين ثمانية مرات وأن جميع القيادات الصينية المتعاقبة زارت مصر (عدا ماو تسي تونغ) ووقعت الدولتان في عام 1999 اتفاقاً لإقامة تعاون استراتيجي، ورغم العلاقات السياسية المتميزة فإن حجم التبادل التجاري أكثر بقليل من مليار دولار، وحجم صادرات مصر للصين أكثر بقليل من 100 مليار دولار، وتراجعت مصر لتحتل المركز السادس في حجم التبادل التجاري بين الصين والدول الأفريقية تاركة الأماكن الأولى لجنوب أفريقيا، والسودان ونيجيريا وغيرها.  ولعل مرجع ذلك أن المؤسسات والوزارات المصرية لم تدرك بعد قيمة الصين وحجمها الاقتصادي والتجاري والسياحي، وكذلك رجال الأعمال المصريين لم يزالوا يفكرون في الغرب بأنه محور الكون في حين أصبح محور الاقتصاد والتجارة الآن يتحول إلى أسيا وبخاصة شرق آسيا وعلى وجه الخصوص للصين كما أظهرت الإحصاءات التي أشرنا إليها في هذه الدراسة. الواقعية التي تنظر للمستقبل وتبني

إن السؤال الذي نطرحه هو هل يدرك العرب الفارق في مناهج للتأثير والسيطرة؟ وهل يمكنهم التعامل بفعالية وفي إطار خطة استراتيجية تحقق مصالحهم وتجعلهم غير خاضعين لأي  تأثير شرقي أو غربي؟ وهل يمكنهم العمل الجاد من أجل تحقيق ذواتهم وبناء علاقات على أساس التكامل والمصالح المتبادلة والمنافع المتبادلة.  ومن ناحية أخرى هل تدرك المؤسسات المصرية في القطاعين الخاص والعام قيمة الصين وحجمها أم تظل مبهورة بذلك عن بعد دون أن تتحرك بإيجابية وفاعلية، ويسبقها العالم شرقاً وغرباً في تعزيز علاقاته بالصين، وتبقى هي تكرر أنها أول دولة عربية وأفريقية اعترفت بالصين وأقامت معها علاقات دبلوماسية. الواقعية التي تنظر للمستقبل وتبنيواقعية التي تنظر للمستق

إن عالم اليوم لم يعد عالم اجترار الذكريات والمناقب السالفة وإنما عالم الحقائق الواقعية التي تنظر للمستقبل وتبني حقائق فعلية كل يوم. الواقعية التي تنظر للمستقبل وتبني

--+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-

 

 

 

 


 

 

 

Address: 24 Baiwanzhuang Road, Beijing 100037 China
Fax: 86-010-68328338
Website: http://www.chinatoday.com.cn
E-mail: chinatoday@263.net
Copyright (C) China Today, All Rights Reserved.