محتويات العدد 12 ديسمبر (كانون الأول) 2005‏
م
با جين باق في أسرته

حسين إسماعيل

كانت "الأسرة" أو (جيا) باللغة الصينية، من أوائل الأعمال الأدبية الصينية التي أتيح لي أن أقرأها. قدم الرواية لي صديقي المرحوم محمد عبد الكريم، الذي ترجمها إلى العربية، ضمن مجموعة من كتب الأدب الصيني. وقد  لفت انتباهي هذا التلاقي الفكري بين قامة أدبية صينية سامقة هو با جين وقامة أدبية عربية شامخة هو نجيب محفوظ، واقتضى الأمر توقفا وتفكيرا أكثر عمقا بعد أن استبان أن "الأسرة" درة في عقد ثلاثية "الوابل" (جي ليو سان بو تشيوي)، لبا جين، والتي تضم  أيضا روايتي "الربيع" و"الخريف"، في سياق يكاد يكون متوازيا مع ثلاثية "القاهرة" لنجيب محفوظ؛ التي تشمل روايات "بين القصرين" و"قصر الشوق" و"السكرية". بعد ذلك قرأت دراسات مقارنة لباحثين عرب متخصصين في الأدب الصيني حول أعمال با جين ونجيب محفوظ، ومنها دراسة للباحث الأردني يوسف خطايبة نال عنها درجة الماجستير عام 1996 ركزت حول رؤية كل من هذين الأديبين لشخصية الرجل من خلال "بين القصرين" لمحفوظ و"الأسرة" لبا جين. ولا شك أن أوجه التشابه بين با جين ومحفوظ لا تقتصر على الثلاثيتين وإنما تمتد إلى جوانب أخرى لعل أبرزها قدرتهما الفائقة على تصوير الواقع، فأنت تشاهد وتعيش وتعايش اللحظة المروية. وقد يكون من نافلة القول إنهما ولدا في بداية القرن العشرين؛ با جين عام 1904 ومحفوظ  عام 1911، وإذا كان نجيب محفوظ هو عميد الرواية العربية فإن با جين هو أحد أهم رموز الرواية الصينية. غير أن ثمة فروقا كثيرة كذلك بين الأديبين الكبيرين، حتى في "أسرة" با جين و"بين القصرين" لمحفوظ، فرواية الأسرة أقرب إلى السيرة الذاتية للكاتب نفسه، فهو ابن عائلة إقطاعية ثرية تعرضت للانهيار عقب قيام ثورة 1911 الديمقراطية التي قادها د. صون يات صن وأنهت الحكم الإقطاعي لأسرة تشينغ (1644 -1911م)، آخر أسرة إمبراطورية في تاريخ الصين. في هذه الرواية يستعرض با جين حياة عائلة برجوازية إقطاعية كبيرة تعتبر نموذجا لكثير من العائلات الإقطاعية التي ظلت موجودة حتى تأسيس الصين الجديدة. يرسم با جين في روايته صورة واضحة لشخصية الجد، الذي هو رب هذه الأسرة. شخصية طاغية قوية تتحكم في مصير سائر أفراد الأسرة الآخرين، رجالا ونساء، كبارا وصغارا. الجميع يقف أمامه في خشوع، ويقدم فروض الولاء والطاعة. لا أحد يستطيع أن يفعل شيئا دون إذنه، ومن أراد الخروج من الدار لا بد أن يمر بغرفته لينحني أمامه ويسمع لتوجيهاته. إنها شخصية قريبة من شخصية السيد أحمد عبد الجواد في "بين القصرين" وتشبه العديد من كبار الجيل القديم. ولكن يخرج في هذه الأسرة أحد أفراد الجيل الجديد متمردا على شخصية الجد الطاغية، إنه الشاب الذي يمثل الجيل الثائر على العادات والتقاليد، جيل يتطلع إلى تغيير الأنماط السائدة، ومرة أخرى يبرز التشابه الكبير بين "الأسرة" وبين القصرين" ولكن الأخيرة لم تكن بحال سيرة ذاتية للأستاذ نجيب محفوظ . وقد كتب با جين ثلاثية "الوابل" بين عامي 1937 وعام 1940، بينما انتهى محفوظ من كتابة ثلاثية "القاهرة" عام 1952، وإن لم يتمكن من نشرها إلا في عام 1956.بيتر إليتش تشايكوفسكي

هذا التلاقي الكبير بين الأديبين العظيمين جعلني أحلم بأن يتم ترتيب لقاء بين الرجلين، في الصين أو في مصر، وتحدثت بالفعل قبل خمسة أعوام حول هذا مع عدد من الأصدقاء المهتمين بالثقافة العربية والصينية ومع مسئولين من الصين ومصر، ولكنها فكرة، أو قل حلما، ولد مستحيلا، ذلك أن با جين بعد إصابته بمرض الشلل الرعاش رقد في أحد مستشفيات شانغهاي، فاقدا القدرة على الكلام تقريبا، بينما نجيب محفوظ، إضافة إلى اعتلال صحته بعد الطعنة الغادرة التي تعرض لها، لا يغادر مصر، حتى عندما فاز بجائزة نوبل في الأدب لم يسافر الأستاذ إلى السويد وإنما بعث بكريمتيه والكاتب المصري محمد سلماوي لتسلم الجائزة نيابة عنه.بيتر إليتش تشايكوفسكي

في السابع عشر من الشهر قبل الماضي (أكتوبر 2005) وبعد رحلة استمرت  مائة عام وعام في العالم الذي أحبه بعمق توفي بمستشفى هوادونغ بشانغهاي أشهر روائي صيني. رحل با جين الذي عاصر أمراء  الحرب والوطنيين والشيوعيين وفوضى الثورة الثقافية. رحل الكاتب الوحيد الباقي من الجيل الأول من الكتّاب الذين استخدموا العامية أكثر من اللغة الصينية الرسمية، وأحد أكثر القلوب رقة في عصرنا، حسب وصف البروفيسور تشن سي خه، أستاذ الأدب وعميد كلية الآداب في جامعة فودان بشانغهاي.بيتر إليتش تشايكوفسكي

ولد لي ياو تانغ، وهذا هو الاسم الحقيقي  لبا جين، في مدينة تشنغدو، عاصمة مقاطعة سيتشوان بجنوب غربي الصين في 25 نوفمبر 1904 لعائلة ثرية، فقد كان والده مسئولا محليا ذا جاه ومال. وقد تلقى با جين وأخوته الثلاثة تعليما أجنبيا في مدارس داخلية، حيث درس با جين الإنجليزية في مدرسة تشنغدو للغات الأجنبية، وفي عام 1923 انتقل إلى شانغهاي ثم إلى نانجينغ، حاضرة مقاطعة جيانغسو حاليا وعاصمة الصين في فترة جمهورية الصين، حيث التحق بمدرسة ملحقة بجامعة جنوب شرقي الصين. ودرس با جين، بدعم من أسرته، في فرنسا من عام 1927 حتى عام 1929 لكنه نأى بنفسه هناك عن الطلبة الصينيين اليساريين وظل على حياده السياسي. وبا جين هنا يختلف تماما عن نجيب محفوظ، الذي لم يدرس في مدارس أجنبية، رغم كثرتها بمصر في تلك الفترة كما أنه لم يُعرف عنه أي ميول فوضوية ولم يكن سليل أسرة ثرية، حيث ولد في حي الجمالية بالقاهرة، ثم انتقل إلى العباسية والحسين والغورية، وهي أحياء القاهرة القديمة التي أثارت اهتمامه في أعماله الأدبية وفي حياته الخاصة. بيتر إليتش تشايكوفسكي

تأثر با جين كثيرا بحركة الرابع من مايو التي اندلعت في بكين عام 1919، فقد شحنته بأفكار ديمقراطية مثالية. كانت هذه الحركة واحدة من أكثر حلقات التاريخ الصيني الحديث إبداعا وتألقا، حيث وقعت في فترة كانت الثقافة الكونفوشيوسية التي سيطرت على الفكر الصيني آلاف السنين قد وصلت إلى صدام حاد مع التأثيرات الغربية. والكونفوشية ثقافة تقوم على الهيراركية الهرمية في السلطة وفي العلاقات الاجتماعية، فالمبادئ الأساسية للكونفوشيوسية هي الولاء، طاعة الأهل، الوحدة الأخلاقية، الاستقامة والسلطة المطلقة للحاكم على المحكوم، الوالد على الابن، الزوج على الزوجة. وقد أتاحت حركة الرابع من مايو للكتاب إبداع أدب بقيم ووعي جديدين للشعب الصيني. وانعكست روح هذه الحركة في أعمال با جين الأدبية، وبخاصة في "الأسرة".بيتر إليتش تشايكوفسكي

ترك انهيار أسرة با جين أثرا واضحا على الشاب الطموح، فقد شاهد أمام عينيه الحال الذي آلت إليه عائلته، التي تحمل أعباءها شقيقه الأكبر فباع كل ممتلكاتهم للوفاء باحتياجاتهم، وانتهى الأمر بالأخ الأكبر إلى الانتحار في بداية الثلاثينيات عندما أفلست الأعمال التجارية للأسرة. لهذا لم يكن غريبا أن تحمل أول قصة كتبها با جين عنوانا معبرا هو (مييوان) أي "الدمار"، وقد أتمها عام 1928 وهو في فرنسا. تروي "الدمار" قصة شاب فوضوي غير قادر على اتخاذ أي قرار أو عمل حاسم. وقد اختار لي ياو تانغ اسم با جين لتوقيع كتاباته وهو اسم مأخوذ من الترجمة الصينية للجزء الأول من اسم باكونين (1814-1876م)، والجزء الأخير من اسم كروبوكتين(1842-1921م)، وهما الشخصيتان الفوضويتان اللتان أعجب بهما كثيرا. وبحلول عام 1937 كان با جين كاتباً غزير الإنتاج، له اثنتا عشرة مجموعة قصصية قصيرة. ووصل قمة إبداعه الأدبي في "الأسرة" التي كتبها عام 1937 و"الربيع" عام 1938 و"الخريف" عام 1940. بيتر إليتش تشايكوفسكي

في تقديمه للطبعة الإنجليزية لأعماله "مختارات من أعمال با جين" كتب: "عندما يحرقني الألم يقترب قلبي من الانفجار ولا أدري أين أضعه، فأشعر بأن علي أن أكتب. لست فنانا، والكتابة مجرد جزء من حياتي، والتي هي مثل أعمالي، مليئة بالتناقضات. الصراع بين الحب والكراهية، الفكر والفعل، العقل والعاطفة، كل هذا يتآلف لينسج شبكة تغلف حياتي كلها وكل أعمالي". بيتر إليتش تشايكوفسكي

وبرغم أن با جين عاد إلى الصين بعد أن استولى الشيوعيون بزعامة ماو تسي تونغ على السلطة عام 1949 وتأييده للدولة الجديدة وإشادته بها، فإن ذلك لم يحمه من إذلال وهجمات الحرس الأحمر اليساري المتطرف خلال فوضى الثورة الثقافية (1966 -1976)، حيث فقد زوجته شياو شان عام 1972 وتعرض للضرب والمحاكمة ووُصم بأنه "العشب السام" وجُرد من أعز ما يملك الكاتب، قلمه، فقد اعتبر الثوار من الحرس الأحمر أن كتاباته ضارة ومحرضة على الفتنة. ولكن با جين دفن سخطه وغضبه في قلبه وجعل من محنة الثورة الثقافية زادا فكريا ومشعلا يضيء الطريق له وللآخرين، فكتب سلسلة من المذكرات نشرت في صحيفة بهونغ كونغ بين عامي 1978 و1986 ودوًن رائعته (سويشيانغ لو) أي "أفكار عشوائية" التي اعتبرت أعظم عمل من أعمال البحث عن الذات في عصره. وقد كتب با جين معلقا على أثر الثورة الثقافية فيه: "لست أنا الذي غير راغب في أن ينسى أو يخفي. إنها الحقائق الدامية والكوابيس هي التي تمنعني من النسيان. إن حب الحقيقة والحياة بأمانة هو وجهتي في الحياة. كن صادقا مع  نفسك، وكن صادقا مع الآخرين، فهنا يمكن أن تكون الحكم على سلوكك". وقال أيضا: "قلمي مشعل وبدني شعلة. وإلى أن يصير الاثنان رمادا سوف يبقى حبي وتبقى كراهيتي هنا في هذا العالم". ولهذا ظل با جين وفيا لقلمه حتى بعد أن أصيب بالشلل الرعاش، فلم ينقطع عن الكتابة وترجمة الأدب الأجنبي حتى بلغ التسعين من عمره.بيتر إليتش تشايكوفسكي

حصل با جين على العديد من الجوائز والأوسمة الأدبية من إيطاليا وفرنسا والولايات المتحدة واليابان، وظل حتى آخر يوم في حياته يحمل منصب نائب رئيس اللجنة الوطنية للمؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني ورئيس اتحاد الكتاب الصينيين.بيتر إليتش تشايكوفسكي

كان با جين يكرر دائما العبارة المقتبسة من الأديب الروسي العظيم بيتر إليتش تشايكوفسكي: "إن لم تجد السعادة في نفسك فابحث عنها لدى الناس، وسوف ترى أن السعادة تشرق في أكثر أوقات الحياة صعوبة". وقد أمضى با جين حياته بحثا عن السعادة لنفسه وللآخرين ولهذا فإنه باق في أسرته الإنسانية. بيتر إليتش تشايكوفسكي

مرحبا على المقهى الإلكتروني

husseinismail@yahoo.com

 

--+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-

 

 

 

 


 

 

 

Address: 24 Baiwanzhuang Road, Beijing 100037 China
Fax: 86-010-68328338
Website: http://www.chinatoday.com.cn
E-mail: chinatoday@263.net
Copyright (C) China Today, All Rights Reserved.