محتويات العدد 11 نوفمبر (تشرين الثاني) 2005‏
م

الإعلام المهذب

حسين إسماعيل

 مازال كثيرون خارج الصين يظنون أن أجهزة الإعلام الصينية ليست أكثر من ناطق باسم الحكومة، تردد ما يقوله المسؤولون وتبرر ما يفعلونه. بل إن بعض الكتاب والباحثين في بلادنا العربية يعتبرون أن الاستناد إلى مصادر إعلامية صينية، في ما يكتبون عن الصين، يجرح مصداقية كتاباتهم. وأذكر أن لقاء جمعني برئيس تحرير مجلة أكتوبر المصرية السابق رجب البنا، وهو واحد من الذين أحترم قلمهم ومن الذين كتبوا كثيرا عن الصين وصاحب مقولة "الصين أقرب إلينا من أمريكا" في مقال له بنفس العنوان، وخلال حديثنا قلت له، والمرارة في حلقي، إن أحد كبار كتاب مصر نقل ثلث كتاب له عن الصين من مجلة "الصين اليوم" وهو نقل حتى دون تصرف، فالمقالات نُسخت عن المجلة الصينية كما هي، ومن بينها مقالات كتبتها ربما أبرزها مقال عن دنغ شياو بينغ بعنوان "يذهب الرجال وتبقى الأمم" عندما توفي الزعيم الصيني الكبير عام 1997. وقلت إنني فخور بذلك، ولكن مؤلف الكتاب لم يشر إلى "الصين اليوم" في مراجع كتابه. وقد كانت صدمتي ودهشتي عظيمة لرد الكاتب الكبير الذي قال إن ذكر الصين اليوم، كمجلة حكومية صينية، في مراجع الكتاب سيجعل منه وكأنه دعاية للصين!ذه السيارات بعيدة عن تفكيرهم؟!

والحق أن من يفكرون بهذا المنطق مازالوا يعيشون أسرى أوهام عفى عليها الزمن وتجاوزتها الأحداث، غير مدركين لما تشهده الصين من تحولات كبرى في كافة المجالات، وليس الإعلام استثناء منها. والغريب حقا أنهم يكتبون عن الصين بافتتان بين، وتفيض أقلامهم إعجابا بالتجربة الصينية ومدحا لما أنجزته حكومة الصين خلال الربع قرن المنصرم.ذه السيارات بعيدة عن تفكيرهم؟!

الواقع هو أن أجهزة الإعلام الصينية، التي تدافع بقوة عن المصالح الاستراتيجية للوطن والتي تساهم في منظومة صياغة صورة الصين خارج الحدود، هي ذاتها أجهزة الإعلام التي تنتقد الحكومة إن جانبها الصواب وتلاحق الخطأ أينما كان وأيا كان من ورائه. وهناك مئات بل آلاف من القضايا التي تمس مصالح جماهير الشعب كشفتها أجهزة الإعلام ومئات من الظواهر الجديدة ذات التأثير السئ على صالح المجتمع وكان لأجهزة الإعلام الفضل في كشفها ومقاومتها. وأشير هنا إلى ثلاثة قضايا اجتماعية تصدت لها أجهزة الإعلام الصينية في الشهور الأخيرة، فكانت ناطقا حقيقيا باسم الشعب بكافة فئاته.ذه السيارات بعيدة عن تفكيرهم؟!

القضية الأولى، هي تزايد ظاهر الاستهلاك الترفي بين الأثرياء الجدد في الصين، وهي الظاهرة التي تجلت في أبرز صورها، الاستفزازية في رأي البعض، بعرض أحد متاجر العاصمة الصينية سيارتين من ماركة بنتلي يزيد ثمنهما على مليون دولار أمريكي، وقد تم بيع إحداهما بعد أسبوع من عرضهما!ذه السيارات بعيدة عن تفكيرهم؟!

الصحف الصينية لفتت إلى أن الصين بات مقصدا للماركات العالمية المشهورة، فقد أصبح غريبا أن تجد سوقا يخلو من ماركات مثل لويس فيوتون، كالفين كلاين، جورجيو أرمني وأوميجا وغيرها. بل إن أحد متاجر شارع وانغفوجينغ التجاري الشهير ببكين يعرض نظارات شمسية يتراوح ثمن الواحدة منها من مائة وعشرين ألف إلى ستمائة ألف دولار أمريكي (الرقم صحيح، وليس ثمة خطأ مطبعي)!ذه السيارات بعيدة عن تفكيرهم؟!

الصحافة الصينية طرحت هذه القضية بكافة أبعادها وفي إطار أوسع من أن شخصا لديه المال ويشتري به ما يشاء، وإنما في سياق اجتماعي وبيئي واقتصادي وثقافي. البعض قال إن الصين برغم ما حققته من إنجازات في التنمية لم تصبح بعد دولة غنية وأن من تقاليد الصينيين الكد والاقتصاد في الإنفاق، وأن الوفرة لا تعني التخلي عن تلك التقاليد، لا فرق في ذلك بين فرد أو مؤسسة أو الأمة كلها. ذه السيارات بعيدة عن تفكيرهم؟!

صحيح أن الصين، في رأي هذا الفريق، تختلف اقتصاديا عما كانت قبل تطبيق سياسة الإصلاح والانفتاح، فالآن يوجد مليونيرات في الصين تؤدي طريقتهم في الاستمتاع بثروتهم إلى شقاق بين الذين يملكون والذين لا يملكون. ويتكرس ذلك الشقاق مع عدم رغبة الأثرياء في رد جميل المجتمع الذي أتاح لهم فرصة تكوين ثرواتهم. ويطالب هؤلاء الحكومة بأن تفرض ضرائب على استهلاك السلع الترفية لتعديل الفجوة بين الدخول وتشجيع الأثرياء على المشاركة في الأعمال الخيرية.ذه السيارات بعيدة عن تفكيرهم؟!

المثير أن صحافة الدولة الاشتراكية لم تهمل رأي أولئك الذين يعتبرون أن من حق من لديه الثروة أن يستمتع بها وأنه لا تعارض بين سلوكيات الإنفاق الترفي الفردي ووجود أسلوب الحياة البسيطة كتيار اجتماعي رئيسي، فالإنفاق الترفي أسلوب عدد قليل من المواطنين وليس التيار الغالب في المجتمع. وربما، حسب هؤلاء، يعتبر الأثرياء الإنفاق الترفي نوعا من الاستثمار. بل ويذهب هذا الفريق إلى أبعد من ذلك بالقول إن الدعوة إلى الاقتصاد في الإنفاق تتعارض مع السياسة الاقتصادية للصين الداعية إلى زيادة الطلب المحلي وحفز الاستهلاك الداخلي. وتأكيدا لدعوتهم بحرية الاستهلاك الترفي يشير هؤلاء إلى أن مدخرات الصينيين في البنوك وصلت 1,23 تريليون دولار أمريكي، أي أن الصينيين لا ينقصهم المال للاستهلاك، ومن ثم فإن أسلوب الاستهلاك المقتصد القديم قد يعيق تنمية الاقتصاد الصيني!ذه السيارات بعيدة عن تفكيرهم؟!

القضية الثانية، وهي ذات علاقة بالأولى، هي قضية إهدار الموارد والسفه في الإنفاق من جانب هيئات حكومية وشركات تجارية، وقد كان لأجهزة الإعلام الصينية دور هام في التصدي لها.ذه السيارات بعيدة عن تفكيرهم؟!

وكان إعلان مقاطعة هيلونغجيانغ الواقعة شمال شرقي الصين عن إقامة نافورة خلال مهرجان البيرة السنوي الذي تقيمه في مدينة هاربين، عاصمتها مظهرا آخر لإهدار الموارد. النافورة المقترحة لم يقصد بها أن تنفر ماء وإنما بيرة، سيكون مصيرها أنابيب الصرف الصحي!ذه السيارات بعيدة عن تفكيرهم؟!

وقد بدأ بالفعل نصب النافورة وإجراء التشغيل التجريبي لها وكادت الأمور تسير كما خطط لها المسؤولون بالمقاطعة. ولكن الإعلام الصيني أثبت مرة أخرى، وليست الأخيرة، أنه أقوى من سلطات المسؤولين حيث شنت الصحف الصينية حملة إعلامية انتقدت فيها هذا السلوك حتى وإن كانت الشركات المنتجة للبيرة هي التي تتحمل تكلفته. وأكدت الأقلام الصينية أن المسألة أكبر من مجرد وسيلة دعاية لمنتج، فالمجتمع الصيني في حاجة ماسة إلى تعزيز القيم التي تشجع على استخدام الثروة بطريقة لها معنى ولابد من تشجيع المواطنين على التخلي عن أحلامهم غير الواقعية، وفوق هذا وذاك، مثل هذا العمل يمثل إهدارا للموارد في الدولة الأكثر سكانا بالعالم. النافورة المقترحة كانت ستستهلك تسعين طنا من البيرة، وهي كمية تحتاج، حسب الخبراء، 1800 طن من الماء و18 طنا من الشعير والأرز وتسعة أطنان من الفحم، كل هذا في بلد يشكو من نقص الطاقة والمياه والموارد الطبيعية الأخرى.ذه السيارات بعيدة عن تفكيرهم؟!

وكان انتقاد الصحف الصينية للمسئولين الحكوميين عنيفا، فكما جاء في إحداها، إن المسئولين المحليين معروف عنهم ولعهم بالاحتفالات الضخمة، وقد حصل مشروع نافورة البيرة على دعم حكومة مقاطعة هيلونغجيانغ. وطالبت الصحف باتخاذ إجراءات للثواب والعقاب لمن يحافظ على الموارد ومن يهدرها. وانتهى مشروع نافورة البيرة.ذه السيارات بعيدة عن تفكيرهم؟!

القضية الثالثة التي كانت محل اهتمام أجهزة الإعلام الصينية في الفترة الأخيرة هي قضية الطاقة. فمع ارتفاع أسعار النفط إلى أكثر من سبعين دولارا أمريكيا للبرميل يضيق خناق الطاقة في ثاني أكبر دولة مستهلكة للنفط في العالم.ذه السيارات بعيدة عن تفكيرهم؟!

الصحف الصينية لم تعف الحكومة من المسؤولية عن أزمة الطاقة داخل الصين، وخاصة فيما يتعلق بسياسة المرور التي تنتهجها العديد من المدن الصينية، ذلك أن محركات السيارات في الصين تلتهم أكثر من ثلث النفط المستهلك في هذا البلد. والحكومة، حسب الصحف الصينية، أحد أسباب الأزمة! فأنت في الصين إذا أردت شراء سيارة اقتصادية تستهلك وقودا أقل عليك أن تفكر مليا في المكان الذي تعيش فيه، فحسب قرارات الحكومة، في بكين إن كانت سعة محرك سيارتك لترا أو أقل لا يسمح لك بالمرور في شارع تشانغآن الذي يتوسط العاصمة، ولا في منطقة وسط المدينة داخل الطريق الدائري الثاني. وفي شانغهاي، السيارة التي تقل سعة محركها عن 1,2 لتر (1200 سي سي) ممنوعة من استخدام الجسور العلوية، أما في مدينة سوتشو، بمقاطعة جيانغسو فأنت لا تستطيع ترخيص سيارة تقل سعة محركها عن لتر، وفي قوانغتشو بمقاطعة قواندونغ يمكنك أن تقود سيارة سعة محركها لتر واحد ولكن ليس على الطرق الرئيسية للمدينة!ذه السيارات بعيدة عن تفكيرهم؟!

انتقدت الصحف حقيقة أن 80% من المدن الصينية تضع قيودا على استخدام السيارات الصغيرة، وهي سيارات اقتصادية في استهلاك الوقود وتخرج عوادم أقل وتحتل مساحة أصغر عندما تقف. وتساءلت أقلام كثيرة في انتقاد صارخ لهذه الظاهرة: لماذا حكومتنا غير متسامحة مع السيارات الصغيرة، هل هذه السيارات بعيدة عن تفكيرهم؟!ذه السيارات بعيدة عن تفكيرهم؟!

هذه مجرد نماذج للدور الذي تؤديه أجهزة الإعلام الصينية في ضبط إيقاع المجتمع والسياسات الحكومية، ولعل الاختلاف بينها وبين أجهزة الإعلام في دول أخرى هو أن الصحف الصينية لا تميل إلى العبارات اللاذعة والمانشيتات الملتهبة وأنها تخلو مما يسمى "الإثارة الصحفية". ولكن ذلك أمر لا ينفصل عن تركيبة الشخصية الصينية، فالمواطن الصيني حتى عندما ينتقد الآخرين يكون مهذبا لطيفا ينتقي عباراته جيدا. والمتابع للسياسة الخارجية الصينية يلحظ بوضوح السلوك الدبلوماسي الهادئ والمهذب للصين في التعاطي مع مختلف القضايا، حتى عندما تتعرض الصين لمواقف يظن المرء معها أن يأتي الرد عنيفا.ذه السيارات بعيدة عن تفكيرهم؟!

إن الإعلام الصيني جزء من منظومة ثقافة الأمة الصينية، ويعمل في إطارها ويتفاعل معها مؤديا دوره الإيجابي. إنه إعلام بناء ينطق باسم الشعب ويدافع عن مصالح الأمة بهدوء ووقار. إعلام مهذب.    ذه السيارات بعيدة عن تفكيرهم

مرحبا على المقهى الإلكتروني

husseinismail@yahoo.com

؟!    

--+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-

 

 

 

 


 

 

 

Address: 24 Baiwanzhuang Road, Beijing 100037 China
Fax: 86-010-68328338
Website: http://www.chinatoday.com.cn
E-mail: chinatoday@263.net
Copyright (C) China Today, All Rights Reserved.