محتويات العدد 4 إبريل (نيسان) 2005
م

عندما بكى رئيس حكومة الصين

حسين إسماعيل

كان المشهد مؤثرا، فالرجل الثاني في الصين يرتدي ملابس العمال وتغطي رأسه خوذة حمراء، تمسك يده اليمنى بقطعة من مانتو، وهو الخبز الذي ينضج على البخار، أشهر أطعمة الفقراء بالصين، بينما تقبض اليد اليسرى على كوب شاي أخضر. من حول ون جيا باو، رئيس مجلس الدولة الصيني، يلتف، جلوسا ووقوفا، عدد من عمال منجم فحم تشنجياشان بمقاطعة شنشي، شمال غربي الصين، يتناولون معا الطعام في عمق المنجم الذي يقع على مسافة 1300 متر تحت الأرض. الأقل تقليدا ومحاكاة، ولكن النتيج

كان الوقت هو أول يوم في السنة الميلادية الجديدة، وبينما سهر الناس، من الميسورين، في المطاعم وقاعات الفنادق ومرحوا طوال الليل واستقبلوا النهار في فراشهم، كان ون جيا باو يحتفل برأس السنة بطريقته الخاصة، الطريقة التي يفضلها.. بين الناس؛ ليس أي ناس وإنما الذين يكدون في القاع. لم تكن هذه أول مرة يرى فيها الصينيون رئيس حكومتهم بينهم كأي مواطن عادي، ولكنها ربما كانت المرة الأولى التي يرون فيها مسئولا صينيا كبيرا يذرف الدمع. فالسياسي المثقف الذي يطعم حديثه دائما بدرر من الشعر الصيني القديم والذي أعلن منذ أول يوم تولى فيه رئاسة مجلس الدولة أن على القادة أن يكونوا أكثر اقترابا من الجماهير، لم يتمالك دموعه وهو يسمع  حديث أسرة عن عائلها الذي فقدته في واحدة من أسوأ حوادث المناجم بالصين. كان يحتضن بيده اليسرى ابن الفقيد وبكى الطفل وسالت دموع ون جيا باو.الأقل تقليدا ومحاكاة، ولكن النتيج

بعيدا عن هذا المشهد الإنساني نكأت دموع رئيس حكومة الصين جرحا لا يكاد يندمل حتى يُفتح مرة أخرى؛ فحوادث العمل في الصين، وخاصة في قطاع المناجم، ضيف ثقيل الظل ولكنه حاضر دائما في نشرات الأخبار. وتقول الأرقام إن الصين، وهي منتج عملاق للفحم ومن أكبر مستهلكي الفحم في العالم، ، تدفع ثمنا من أرواح البشر مقابل كل مليون طن فحم يزيد 100 مرة عن العدد في الولايات المتحدة، و30 مرة عن الرقم في جمهورية جنوب أفريقيا. وبعبارة أخرى يدفع أربعة عمال مناجم صينيين حياتهم ثمنا لكل مليون طن فحم، في حين  لا يتجاوز هذا الثمن في الولايات المتحدة أربعة من مائة، وفي روسيا 34 من مائة وفي جنوب أفريقيا ثلاثة عشر من مائة.  ربما يقرأ البعض منا هذه الإحصاءات على أنها مجرد أرقام وبيانات تستخدم في دراسات إصابات العمل وتحليلات التكلفة المهنية ولكنها بالنسبة لعمال المناجم الذين يمضون جُل عمرهم في جوف الأرض وبالنسبة لعائلاتهم التي تنتظر قلقة عودتهم في كل مرة يذهبون، هذه الأرقام  تذكرة بالموت والفقد والحزن وشبح كئيب يحوم في سماء أسر عمال المناجم. في كارثة منجم فحم تشنجياشان التي وقعت في الثامن والعشرين من نوفمبر العام الماضي زهقت مائة وست وستون روحا لرجال كانوا العمود الفقري لأسرهم، في أسوأ حادثة مناجم تشهدها الصين منذ 44 عاما، وقد جاء ذلك بعد شهر تقريبا من كارثة أخرى وقعت في العشرين من أكتوبر بمنجم فحم دابينغ في مقاطعة خنان راح ضحيتها مائة وثمانية وأربعون روحا. وبينما كان الصينيون يحتفلون بعيد الربيع هذا العام، ولم تكن مشاهد تشنجياشان قد خبت من الأذهان بعد جاءت الأنباء بفاجعة تسرب غاز في منجم فحم سونجياوان بمدينة فوشين في مقاطعة لياونينغ، التي فاقت الحادثة السابقة في عدد الضحايا، حيث وصل الرقم إلى مائتين وأربع عشرة نفسا من عمال المناجم.الأقل تقليدا ومحاكاة، ولكن النتيج

 وعلى الرغم من أن عدد الذين فقدوا حياتهم من عمال المناجم الصينيين العام الماضي كانوا أقل بنسبة 6,33% عن عام 2003 تظل حقيقة أن ستة آلاف وسبعا وعشرين فردا راحوا ضحية حوادث المناجم صدمة مفزعة. الإحصاءات الرسمية الصينية تقول إن عدد حوادث المناجم في الصين عام 2004 بلغ 3639 حادثة قاتلة. هذه الأرقام تكشف عن فاتورة الأرواح الباهظة التي تتحملها الصين ثمنا لمعدلات النمو السريعة التي تدفع البلاد إلى صفوف الدول المتقدمة، فالدولة التي تحقق أعلى معدلات نمو اقتصادي في العالم بها واحد من أسوأ سجلات السلامة المهنية على مستوى العالم؛ حيث تسبب الحوادث التي تقع في منشآت العمل في وفاة أكثر من مائة ألف شخص سنويا، وحسب الأرقام الرسمية الصادرة عن الحكومة الصينية أدت حوادث العمل بالصين إلى مصرع 136755 شخصا خلال العام الماضي، 2004، معظمهم في مناجم الفحم ومصانع المواد الكيماوية ومعامل المفرقعات النارية. هذا علما بأن الصين بها حاليا 600 منجم  رئيسي تديرها الدولة، و2600 منجم تديرها المقاطعات و22 ألف منجم تديرها المدن الصغيرة والأفراد. وحسب دراسة ميدانية عام 2003  قامت بها مصلحة الدولة لسلامة العمل ووزارة المالية ولجنة التنمية والإصلاح بمجلس الدولة، وشملت مناجم فحم في ثلاث عشرة مقاطعة، تحتاج المناجم الرئيسية التي تديرها الدولة إلى ما يعادل ستة مليارات دولار أمريكي لتحسين إجراءات السلامة فيها خلال السنوات القادمة، وهذا يعني أن عجز الإنفاق على تجهيزات السلامة المهنية هو السبب الرئيسي للحوادث. وهو ما جعل البعض يطالب بإيجاد مزيد من قنوات التمويل لقطاع المناجم على ضوء عدم قدرة الحكومة على تحمل هذا الإنفاق. غير أن تشاو باو مينغ، نائب مدير لجنة سلامة العمل بمجلس الدولة قال إن كل حادثة مناجم تقريبا لها علاقة بالفساد والفاسدين من المسؤولين! الأقل تقليدا ومحاكاة، ولكن النتيج

البعض يُرجع كوارث المناجم، وغيرها من حوادث العمل، إلى أخطاء بشرية ضئيلة، والبعض يرجعها إلى عدم اكتراث الجهات المالكة للمناجم بحياة العمال، وتستشهد صحيفة "شباب الصين" بما حدث في الولايات المتحدة في خمسينات القرن الماضي عندما شهدت أمريكا سلسلة من حوادث المناجم المفزعة فكان أن قررت الحكومة على أثرها إلزام أصحاب المناجم بدفع مبالغ معينة، كتمويل في صندوق لمعالجة  نتائج حوادث المناجم، وكان على أصحاب المناجم أن يدفعوا مئات الآلاف من الدولارات لكل عامل يفقد حياته في المنجم. وتقول الصحيفة إن أسرة كل عامل منجم  يموت في الصين تحصل على تعويض قدره 12 ألف دولار أمريكي!  وتطالب أقلام صينية الحكومة باتخاذ إجراءات لتحسين إدارة الدولة لقطاع المناجم الحيوي لعجلة الاقتصاد الصيني، وهي حقيقة أعلنها رئيس مجلس الدولة ون جيا باو خلال زيارته لمنجم فحم شياشيجيه حيث قال "إن الفحم هو العماد الرئيسي لإمدادات الطاقة في الصين" مؤكدا أن عمال المناجم يستحقون  العناية والاحترام  من كل المجتمع وينبغي  تأمين عودة كل عامل  في المناجم إلى بيته سليما سالما. الأقل تقليدا ومحاكاة، ولكن النتيج

وبينما كانت اللعنة تنصب، في السابق، كلما وقعت حادثة، على المناجم التي يمتلكها أفراد واتهامها بإخفاء العديد من مشاكل الأمان وإجراءات السلامة بها،  فإن آخر أسوأ ثلاث حوادث وقعت في مناجم مملوكة للدولة، وهو ما يدق أجراس الإنذار بأن كافة المناجم، مملوكة للأفراد أو للدولة، تفتقر إلى ضمانات السلامة المهنية ويُعزى ذلك إلى تخلف تقنياتها وإدارتها والمستوى المتدني لكفاءة العاملين في صناعة المناجم. الأقل تقليدا ومحاكاة، ولكن النتيج

إن التنمية الاقتصادية بالصين تحتاج بشكل ملح إلى كميات هائلة من الفحم، ولن تستطيع الصين أن تحل مشاكل السلامة المهنية في مناجم فحمها بين يوم وليلة، ولعل هذا ما أبكى ون جيا باو، فلا الصين يمكنها الاستغناء عن الفحم ولا يمكن تأمين حياة عمال الفحم في مستقبل قريب. الأقل تقليدا ومحاكاة، ولكن النتيج

بالطبع ليست هناك حلول سحرية لمعضلة السلامة المهنية في الصين، كما أن الحكومة الصينية لا تعترف بالمعجزات وإنما تلوذ  دائما إلى التخطيط العلمي والمعالجة الواقعية، وعليه تجري حاليا مراجعة  قانون مناجم الفحم، الصادر قبل تسع سنوات، في مسعى لرفع كفاءة العمل في المناجم وتحسين مستويات السلامة. ومن المتوقع أن يوفر التشريع الجديد دعما قانونيا لحل مشاكل المناجم، حيث سيُجرم أصحاب المناجم الذين يتقاعسون عن الإنفاق على إجراءات السلامة في مناجمهم. وكما قال هوانغ شنغ تشو، رئيس معهد معلومات الفحم، الأسباب الرئيسية لتكرار الحوادث في مناجم الفحم هي عدم كفاية الاستثمار في تجهيزات السلامة المهنية وعدم الوعي  بسلامة مكان العمل.الأقل تقليدا ومحاكاة، ولكن النتيج

لا غرو أن مصاب أسر ضحايا المناجم جد عظيم ولكن عندما يكون بينهم رئيس حكومة بلادهم يربت على كتف صغيرهم ويطمئن كبيرهم على مستقبلهم بعد رحيل عائلهم فإن هذه المواساة تخفف عنهم كثيرا. إن ما يفعله رئيس مجلس الدولة الصيني من إضفاء لمسة إنسانية على شخصية رجل الدولة يزيد تماسك وتلاحم أبناء الشعب خلف قيادتهم. إن مشهد ون جيا باو وهو يصافح مرضى الالتهاب الرئوي الحاد (سارس) كسر حاجزا نفسيا كبيرا بين عامة الشعب الذين كانوا ينأون بأنفسهم عن كل من يعطس؛ خوفا من الإصابة بالمرض القاتل. ون جيا باو هو أيضا الذي فاجأ مرضى الإيدز بواحدة من القرى التي تسمى قرى الإيدز في مقاطعة خنان عشية عيد الربيع هذا العام وجلس بينهم وصافحهم وشد على أيديهم. لقد بكت نيه تشيان، مريضة الإيدز البالغة من العمر أربعين عاما بعد أن أجلسها السياسي الكبير إلى جانبه وابتسم لها فرفع عنها الارتباك الذي أصابها عندما عرفت بخبر لقائها مع رئيس حكومة بلادها.  السيدة التي كان يبتعد عنها الناس تحولت دارها إلى خلية نحل يأتيها القاصي والداني ويقترب منها ويسألها عما دار بينها وبين السيد ون. الكل كان لطيفا مبتسما وعادت الثقة لمريضة الإيدز التي أضحت تشعر بأن الحياة مازال لها معنى.الأقل تقليدا ومحاكاة، ولكن النتيج

والحق أنه ليس ون جيا باو وحده الذي لا يدخر جهدا في الوصول إلى الكادحين، فالرئيس الصيني هو جين تاو اختار أن يمضي ليلة عيد الربيع بعيدا عن أسرته الصغيرة، مع أفراد أسر من الأقليات القومية في مقاطعة قويتشو. جلس بينهم وأكل الأرز اللزج. هذه التصرفات من جانب كبار القادة توفر دافعا قويا لكافة المسؤولين لأن ينهجوا نهجهم، إن لم يكن اقتناعا فعلى الأقل تقليدا ومحاكاة، ولكن النتيجة دائما هي تفعيل المبدأ الذي أعلنته القيادة الصينية منذ توليها دفة الأمور في الصين، وهو "الحكم من أجل الشعب"! إنه نموذج جدير بأن يتعلمه الكبار في العالم. الأقل تقليدا ومحاكاة، ولكن النتيج

huseinismail@yahoo.com

--+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-

 

 

 

 


 

 

 

Address: 24 Baiwanzhuang Road, Beijing 100037 China
Fax: 86-010-68328338
Website: http://www.chinatoday.com.cn
E-mail: chinatoday@263.net
Copyright (C) China Today, All Rights Reserved.