محتويات العدد 4 إبريل (نيسان) 2005
م

 

أنت لا تزور الصين مرتين

صلاح أبو النجا

انك لا تنزل النهر الواحد مرتين....في الصين استرجعت هذه المقــولة الشهيرة للفيلسوف الإغريقي هيراقليطس التي طالما استشهد بها كتاب اليسـار في مصر خلال استنتاج للتدليل على حتمية التغيير وكونه حقيقة أساسية من حقائق الحياة في ظل المنطق الجدلي. بعيد بل مجرد عشر سنوات              

ما الذي دعاني إلى استرجاع تلك العبارة التي كــاد ذهني أن يطويها في ملفات النسيان؟ إنها الصين الساحرة المبهرة التي عـدت إليها بعد عشر سنـــوات، الصين التي ما أن وطأت قدمـــاي أرضها في مطار بكين حتى ظننت نفسي قد وصلت إلى بلد آخر لم أزره من قبل.  بعيد بل مجرد عشر سنوات                                    

منذ عشر سنوات وصلت إلي مطار بكين قادما من مطار سنغافورة، وكان الفارق بين المطارين فارقا بين كــوكبين. في هذه المـــرة جئت إلي مطار بكين قادما من مطار ســول لم أشعر بفارق يذكر، إذ بوابة الصين الحديثة تتغير وتتــأنق وسط محيطها الآسيوي بل والعالمي لتنبهك إلى أنك ستدخل إلى قلب أسيا الحقيقي، وإذا كانت أسيا الآن هي ورشة العمـل الكبرى في العالم فإن الصين بحق هي ورشة العمل الأولى في أسيا. نعم من أقصى الجنوب في شنتـشن؛ قرية الصيادين التي أصبحت مدينة تناطح هونغ كونغ وتتقدم بخطوات على بقية أرجاء الصين، إلى الشمال الشرقي؛ القاعــدة الصناعية القديمةيد التي تُبذل الجهود لإحيائها باعتبارها بوابــة أخرى على روسيـــا التي تسعى جاهدة بدورها لاستعـــادة قوتهـا الاقتصادية، ثم إلى الغرب الشاسع البكر الذي يحتاج إلى سكان ورأسمال وتقنية لتكتمل ورشـــة العمــل الضخمة التي تتركــز في شرقي البلاد. ولكي يعتدل ميـزان التنمية في الصين وتتوزع أبضعته على مختلف أقاليم البــلاد. وإذا كانت جـولة دنغ شياو بينغ الشهيرة في جنوب البلاد في أوائـــل التسعينيات قد أعطت دفعـة هائلـة لسياسـة الإصلاح والانفتاح في الصين التي استكملت قرابــة ربــع قــرن حققت فيه أعلى معــدلات النمو في العالم، فإن الغرب الصيني ينتظر دفعة مماثلة لتحقيق اندفاعة جبارة في مدى زمني أقل استنادا إلى ما تحقق للبلاد من قدرة وخبرة.بعيد بل مجرد عشر سنوات

نعم ليست هي الصين نفسها التي زرتها منذ عشر سنوات إذا قيس الأمر بمقياس التغير المادي والنقلة النوعية في مستوى المعيشة، والتشابك مع العـــالم، والحضور البــارز في مختلف الأســواق لكنها هي ذات الصين التي فجر فيها مــاو تسي تونغ إرادة التحدي منــذ أكثـر من نصف قرن احتلت المكان اللائق بها تحت شمس عالم متقلب متنوع المخــاطر شديد التعقيد. وليست هي الصين نفسها التي انتقلت من دولة تتحلى بصبر طويـل على المكاره يثير الإعجاب ويجعلها تصدر مئات الإنذرات دون كلل للطائــرات المعاديــة التي كانت تحلق فوق جزيرتي( كيــمو وماتســـو)، إلى دولـة من الدول الأعضاء في النادي النـووي باتت مرهوبة الجانب ولا يمكن التعامل معها إلا بحساب... وليست هي الصين نفسها التي طالما اعتبرها أعداؤها مصدر تهديد لمن حولها بتعدادها السكاني الضخم الفقير، فكانت هي الخطــر الأصفــر الذي يتمثل في قنبلــة سكانيــة توشك أن تنفجر. أما الآن فالصين وإن كانت في نظـــر خصومهــا لا تزال مصدر تهــديد يروجون له بنظرية التهديــد الصيني فقد اختلفت طبيعـــة التهديد، لأنـــه أصبح تهديد الدولة النامية الساعية إلى التقدم التي تلتهم أسواق ومناطق نفوذ الآخرين. فالصين في نظر هؤلاء مصدر تهديد نابع من التخلف فيمــا ســبق، أمـا الآن فإنه نابع من التقدم.......وليست هي الصين نفسها التي اعتبرت أعظم انجازتها في ظل اقتصاد مركزي تديره الدولة من توفير والكسـاء والمأوي لعدد هائــــل من السكـــان يتجاوز المليار نسمة، فهي الآن دولة تتسم بالقوة والوفرة على مستوى الدولة والفرد معا، فحين حققت القوة كانت نموذجا لدولـة ناهضة لكن دخلها القومي مهما ارتفع يظل محدودا بالنسبة للفرد لأن ذلك الدخـل القومي الكبير يتم توزيعه على عدد ضخم.أما الآن فقد تغيـــر ذلك الوضــع من القــاع إلى القمــة، فالصين من بين الدول محل الإطراء والثناء من المنظمــات الدوليـــة لنجاحها في إنجاز برامــج الحــد من الفقــر. كمـا أن المدن الصينية أصبحت تضارع بمبانيها السكنية والإدارية العصرية، وبتنوع مظاهرالترفيه فيهــا، وبأعداد وطرازات السيارات الحديثة التي تجري في شوارعها أرقى مدن العالم. بل إن الليل أصبحت له حياة في المدن الصينية الكبرى، ولم يعد الناس ينامــــون هناك من المغـــــرب- كما نقول نحن في بلادنـــا-  ومحصلة ذلك أن مستوى معيشة الفرد قد ارتفـــع كما ارتفعـت نوعية الحياة وقد استمتعت شخصيا إلي أقصى حدود الاستمتاع ببيئة التسوق في مدينة مثل"شنتشن"التي تمثـل نموذجا لمدينة عالمية بحق....وليست هي الصين التي يمثل مطبخها وتنوع أطباقها وعيدان تناول الطعام فيها مصدر فخر للصينيين، وإعجاب الكثيرين في العالم الذين أحبوا تناول الطعــام الصيني علي الطريقـــة الصينيـــة، فوجبــات الطعــام السريع الأمريكيــة تمكنت من الدخـول إلى أغلب المدن الصينية واصطف الشباب الصيني أمام محلاتها طوابير طويلة. منذ عشر سنوات لم أتمكن من دخول أحد محلات بيتزاهت في بكين إلا بعد ساعتين عندما يحــل دوري، وبعــد عشــر سنوات وجدت الطابـور قد طال أمام محل البيتزا الشهيرة، وأين؟...في"شيآن"عاصمة الصين التاريخية على بعد كيلومترات قليلـة من متحف تماثيل المحاربين والخــيول المصنوعة من الصلصال....فهل الطوابير أمام مطاعم الوجبات الغربية السريعة ظاهرة سلبية؟ قــد يراهــا البعض كذلك في بلد ربما كان آخر ما يحتاجــه هو غــزو مطابخ أخرى قليلة التنوع وقد تكون فقيرة قياسيا إلى مطبخه الهائل.بعيد بل مجرد عشر سنوات

نعم ليست هي الصين البوليتارية المتشددة المتقشفة التي ترى أن المهم قبل أي شئ أن يكون أحمـر، فقد حلت منظــومة قيم أخرى تعلي من شأن الكفاءة والخبرة، فالمهم أن يأكل القط الفئران أيا كان لونه حسب حكمة "دنغ شياو بينغ "الشهيرة، وسادت روح براغماتيــة جعلت القفـزة الكبرى إلى الإمام قفـزة محسوبة لا تتقيد كثيرا باعتبارات الأيدلوجية ولعلها- لهذا السبب- كانت قفزة عالية حقا وإلى الأمام فعلا وقولا.بعيد بل مجرد عشر سنوات

نعم ليست هي الصين التي كانــت تنتشر فيها قوائـــم الشرور الاجتماعيــة التي يحسن للشعب والمواطن الصالح الابتعــاد عنها، فالصين الجديدة عليهـــا أن تقــاوم الشرور المصاحبة للتحول إلى مجتمع مفتوح ينمو اقتصاده منذ أكــثر من عقديــن بمعدلات سريعة ومتتالية ويتمتع بقدرة تنافسية تجعله قادرا على اختراق الأســواق، ويرى فى العــولمة تحديـــا يجب التغلـب عليه وفرصة لا لمجرد البقاء بل لإثبات الذات والقـدرة علي التفوق، فبهذا حقــا تكتمل المسيرة الطويلــة التي بدأتها الصين في ثمانينات القرن الماضي. ولعل مقاومة الشــرور الجديــدة وفي القلـب منها مكافحة الفساد تكون عملا أشد صعوبة ولكن ليس مستعصيا على القيادات الجديدة في الصين التي تعرف أن الملاحة في بحار العولمة تتطلب مهــارة غيــر تقليديــة، لكن نهر الصين المتجدد الذي لا تنزله مرتين كفيـل بأن يلهم بحاره ابتكار الحلول التي تجعـل هذا الكيان الصيني القوي يتغلب على التحديات، وينتهز الفرص. وها هـو ذا يمد جسوره مع الدول النامية في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ويرسم بكفاءة ولطف ملامح التغير في سياسته التي تقيــم شراكـــات مع تلك الدول على أساس من المصلحــة المتبادلــة وليس منطق المعوقــات. كما يتصدى بحنكة لأخطــار عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر التي حولها إلى فرصة للسياسة الخارجيـة الصينيـة تتجنب بها مواجهــات لا تحتاج إليهـا وتقيم علاقـــات استثمار وتجارة وتعــاون مع أمريكـا وأوروبا، بل وتنجح في دخول منظمة التجارة العالمية وتنتزع الاعتراف بوضع اقتصاد السوق الحرة بها.بعيد بل مجرد عشر سنوات

أما الزائر للصين فسيعرف حتما أن هذا بلد متغير ومتنوع بنظرة سريعة إلى الماضي، وهو ليس بالماضي البعيد بل مجرد عشر سنوات مضت كومضة ازدادت بها الصين تألقا وإشعاعا في العالم. بعيد بل مجرد عشر

كاتب المقال: مفكر مصري خبير بالشئون الصينية. بل مجرد عشر بل مجرد عشر بل مجرد عشر بل مجرد عشر بل مجرد عشر بل م

--+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-

 

 

 

 


 

 

 

Address: 24 Baiwanzhuang Road, Beijing 100037 China
Fax: 86-010-68328338
Website: http://www.chinatoday.com.cn
E-mail: chinatoday@263.net
Copyright (C) China Today, All Rights Reserved.